إنه نيسان، شهر الطيور، الطيور العاشقة التى لا تؤمن بالوفاء لزهرة واحدة، وإنما تمنح قلوبها لكل الزهور، ما إن تعود إلى أوطانها بعد أن أعياها الرحيل عبر المسافات، حتى تنفض عن أجنحتها غبار السفر والغربة، وذكريات البرد والمطر والثلوج، وتملأ مناقيرها بالشوق لموسم الخصب والنماء، تبنى فوق الأغصان وأعالى الجبال أعشاش الحب، وتسيل حناجرها بالإنشاد احتفالاً بالحياة فى دورتها المتجددة الخضراء، وتهيم عشقاً بالأزهار والينابيع والسواقى وقطرات الندى.. فتغمر الكون بهجة الغناء.
لا السعداء.. سعداء بنفس القدر من النعيم الذى قد نحسدهم عليه.. ولا المحظوظون محظوظون بنفس الدرجة التى نتوهمها عنهم، بل ولا التعساء تعساء حتى النهاية بلا أى وجه من وجوه التعويض النفسى عما فى حياتهم من مظاهر الشقاء.. وإنما هناك ذلك المزيج الكيميائى المتعادل غالباً من كل هذه الأضداد فى حياة الإنسان، فلكل إنسان من سعادته ما يرضيه.. ومن تعاسته الخاصة ما يشقيه.
أيتها الملهمة المجهولة.. التى لا تغرب لها شمس، ولا يأفل لها نجم.. ولا يغيض على الزمن وجهها، ولا يخبو على السنين بريقها.
أيتها الملهمة المجهولة.. ما أوفاكِ وقد عزّ الوفاء، أنت لا تغيبين ولا تزولين.. أنت دائماً حاضرة تطوفين بالذهن كما يطوف الحلم بالنائم.. أشتم ريحك فى عبق النسائم، وأسمع صوتك فى هديل الحمائم.
العالم ناصع متقد يتأرجح على حافة حفرة الظلام القديم.. يهتز على حرف الجرف الحاد.. يميل نحو التدهور مرة واحدة وأخيرة.. لكنه لا يتردّى.. يتمايل فقط على شفرة السقوط..
تحترق السماء بين أصابعى.. وتذوب.. لم تبق إلا يداى.. شجرتين فى المنتهى.. مشتعلتين بلا انطفاء
أريد الكثير من الصمت، أكثر من هذا (اللا صوت) الذى يحاصر المكان، أريد ثورة من الصمت، أريد أن أرى العالم ينكمش ويعود طفلاً، حيث الأشياء مفهومة وقابلة للقراءة، ربما كل ما أردته لحظتها هو أن أجر الزمن من أذنيه إلى الوراء.
أكتبها بالمداد الأبيض، رسالتى إليك، لأننا، فى هذا المكان، لا نفرّق فى الألوان.. وأكتب من خلف جدار الأبدية، وكنت قد بدأت الكتابة إليك، يا أرضى الغالية، لحظة وطأت قدماى تراب الغربة.
أتصوّرك شمساً تشرق من خلف السحب والضباب، وأكتب..
أتخيلك صبية حلوة تقفز من بين الأمواج، وأكتب.
أحلم بك حصاناً حراً يعدو فى رحابة السهول الخضراء، لا يتعب ولا يتوقف، فأكتب، وأرسم.. بكل الألوان رسمتك.. وظلت أخبارك تأتينى من البعيد، حاملة الحزن والألم، حرباً فى أثر حرب، واحتلالاً بعد احتلال، وتجمعنا الأخبار، نحن أولاد الغربة، فنتشاور، ونبحث عن وسيلة لإنقاذك، ثم نكتشف كم أننا عاجزون.
فحتى فى الشتاء والنوافذ مغلقة بإحكام تحس هى الاخرى بطعم الفجر حين يتسرب إليها رغم السدود هواء كأنما انعدم وزنه، رق ولطف وترطب، تطهر وتطيّب فيكاد الفم يذوق أيضاً حلاوته، إنه نشوة بلا خمر، ولكن الاعتماد كله على الأذن القابعة داخل أسوار الجدران المطبقة، المنتبهة، من فرط اللهفة والتحفز.
وإذا غابت رؤية العين فقد انطلق الخيال واشتط فى شروده، وتوهم كائنا ما لم يكن، وكانت له تهاويل تقيم بدل الحقيقة حقيقة من عندها لا تقل عنها إقناعاً وصدقاً، ولأن فترة الطفولة هى فترة التملص إلى الألفة والثقة والاطمئنان من قبضة الحيرة والشكوك وتتابع امتحان الأشياء والمعانى والرموز من قبضة عالم الأسرار المجهولة، فإن الخيال هو الذى تكفل بتضخيم جانب الرهبة بخسا بجانب الجمال فى لحظة مولد الفجر وتردد أول أنفاسه.
إن حب الاستطلاع إن نَفَع فى بعض الوقت فقد يضرّ فى بعضه الآخر.. وما عليك أن تفهم شيئاً وتغيب عنك أشياء! إنما هى مَرايا تنصَبُ للناس، فلينظر فيها من يشاء وليعرض عنها من يشاء.. وربما كان الإعراض عنها خيراً من النظر فيها، فقد ينظر فيها من يحب الاستطلاع مثلك فيسوءه ما يرى لأنه يرى نفسه.