غربتان!
نشرتها قبل ثلاثة أعوام ردّا على قصيدة الأخ د. جمال مرسي؛ " أحملك السلام"..
واليوم أهديها إلى كل مغترب وفي المقدمة إلى المغتربة قسرا؛ الأخت عواطف عبد اللطيف:
إذا حكم النصيب.. بأن تغيبوا
فأيّ مصيبةٍ حـمل النصيبُ!؟
أرى وقـع الفراق عليّ أقسـى
من الماضي.. وقد حـلّ المشيب
وللزمن الهُـلاميّ انســيابٌ
كأن له المـخالب.. والنـيوب
إذا نَحَتَ الزمـانُ الصخرَ صلدا
لعمري.. كيف تحمله القلوب!
****
فحاجتكم لغـربتكم.. بُـراقٌ
ومسـراه المـبارك.. لا يخيب
لأنتم أفضل الأغــراب علما
وأنظفهم.. إذا افتُضِحتْ عيوب
ومن عرف الخـفايا.. أسعفتهُ
فلم تهزمْه في ســفرٍ كروب
ومن يبقَ الخـطاب عليه سرّا
فقد يزجيه في الخطْب الخطيب
****
غريبٌ أنت في بلـد بعــيدٍ
وفي بلدي الجريح أنا الغريب
فأيّ الغربتين أشــدّ وقـعا!
وأيّهما تنــوء بها القلوب؟!
أغـربة حاصـدٍ بالقهر فقـرا
مقـيمٍ في بلاده.. لا يغـيب؟!
أم النائي إلى تحقيق حــلم
فيخطئه بجــدّ.. أو يصيب؟!
****
فما عيش الفتى المقـدام.. إلا
مغامرة.. تهيج بها الخطــوب
فلا تبكِ اغـترابا.. حـين لبّى
نداءكَ.. واستجاب لك المجيب!
ولو ســدّ التغـرّب مسمعيه
لما وصل النداء.. ولا النحيب
وحلّ مصيركم في الدار أقسى
وحالتـكم.. وحالكمُ عجيب
****
وقفتمْ في مشاكلكم شـخوصا
وما نَفَعَ القريب.. ولا النسيب
ولولا الغـربة.. الأبطالُ هانوا
وما انتفختْ بغربتهم جـيوب
مراتٍ قليلةً توفّر لي حظّ لقاء الشاعر المرحوم عمر أبو ريشة، أكثرها في بيت أخيه المرحوم طبيب الأسنان؛ أبي علاء ظافر أبو ريشة في دمشق، وذلك في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات من القرن الماضي.
كان أبو علاء ظافر شاعرا مُجيدا أيضا، كمعظم أفراد عائلة أبو ريشة، الذين عُرفوا باطِّلاعهم الواسع على أدب وقواعد اللغة العربية وعروضها. اتَّسم لقائي مع د. ظافر، في بيته الكائن في حيّ التجارة، في مدينة دمشق، أنّه كان ذا طابع دوري، يعرض فيه كلّ منّا على الآخر جديده من الشعر، وغالبا ما شاركتنا مجلسنا الأدبي زوجته السيدة أم علاء، التي كانت تعشق الشعر والأدب، وهي تنتمي لإحدى العائلات الحلبية العريقة؛ آل القادري. ودوما جرى فصل الخلاف بيننا على يد أخت الدكتور ظافر، وهي السيدة أم علي؛ زوجة السيد زهير الشهابي.
في إحدى الجلسات الأدبية في بيت د. أبي علاء، حضر أخوه أبو شافع عمر أبو ريشة رحمهما الله، وأذكر أنّي شدّدت في لقائنا هذا من نقدي له، على إغفاله ذكر الثورة السورية الكبرى في أشعاره. فغاص جوابه في بحر الاعتذار، ووعد بأنّ يعمد إلى تلافي هذا التقصير في المستقبل القريب.
كنت أنظر إلى عمر أبو ريشة، نظرة حقٍّ على أنّه عملاق من عمالقة الشعر الحديث، حفظت الكثير من أشعاره، ومنها أكثر أبيات قصيدته؛ وداع، على المتقارب المجزوء، التي مطلعها:
قفي ! لا تخجلي منّي
فما أشقاكِ أشـقاني
كلانا مـرَّ بالنعمـى
مرور المُتعَبِ الواني
ثمَّ قصيدته الرائعة؛ النسر، التي مطلعها:
أصبح السـفح ملعـبا للنسور
فاغضبي يا ذرا الجبال وثوري
وأذكر أنّني في إحدى الجلسات سألته: هل ترى شهرة الشاعر منطلقة من معرفته باللغة وأوزان الشعر؟ قال: بل أضيف إليهما جمال الشعر، الذي قلّما تجتمع عناصره في شعر شاعر، لكنّها جميعا تمثّل أركانا أساسية وضرورية في ذيعان صيته. فقلت: صحيح ذلك، لكن يبقى العنصر الأهمّ بنظري، هو تبنّي الشاعر لموقف عمليّ واقعيّ خطر. فلولا وقوفك في وجه الطاغية "جميل مردم بك"، الذي ألقيت بحضوره قصيدتك المشهورة؛ أمَّتي، في منتصف الأربعينات، فشتمته قائلا دون وجل:
إنّ أرحـام السبايا لم تلـد
مجرما مثل جميل المردم
فلولا هذا الموقف الجريء، لربَّما تأخّرتْ شهرتك عقودا على الأقل. فقال: صدقت، ففور انتهائي من المناسبة، تمّ نسخ وتوزيع مئات النسخ من قصيدتي هذه، وكان لها السبب الكبير في شهرتي.
من أهمّ ما ميّز شعر الشاعر الكبير، سلاسته إضافة إلى جزالته. فها هو يتحدّث بأسلوبه البسيط المعهود، الذي لا يختلف كثيرا عن الحديث المعتاد دون تكلّف. يروي قصة قراءته لرسالة أخته أم علي، تنعي له ولدها البكر؛ علي، فيركب بحر الرمل، وهو بحره المفضّل، ليقول:
خطُّ أختي لم أكــنْ أجـــهله
إنَّ أختي دائمـــاً تكتــب لي
حدَّثتني أمس عن أهلي.. وعـن
مضض الشوق وبُعــد المنزل
ماعســاها اليوم لي قائلــةً؟
أيُّ شـيءٍ يـا تـرى لم تقــلِ
وفضضتُ الطرس.. لم أعثر على
غير سـطرٍ واحـــدٍ ..مختزلِ
وتهجَّيتُ بجـــهدٍ بعضـــه
إنَّ أختي كتــبتْ في عجــل
فيه شيءٌ...عن عليٍّ مبهـــمٌ
ربَّمـا بعـــد قليل ينجــلي
......
قلبُ أخـــتي ..لم أكن أجهله
إنَّ أخـتي دائماً تحـسـن لي
ما لها تنحـرني نحــراً على
قولـها ..مات ابنها.. مات علي!
ولا أنسى قصيدته الرائعة؛ غادة من الأندلس، التي مطلعها:
وثبتْ تَستقربُ النجم مجالا
وتهادتْ تسحبُ الذيلَ اختيالا
وحِيالي غادةٌ تلعب في
شعرها المائجِ غُنجًا ودلالا
طلعةٌ ريّا وشيءٌ باهرٌ
أجمالٌ ؟ جَلَّ أن يسمى جمالا
في أواخر الثمانينات من القرن الماضي، حاولت بمعونة رئيس المركز الثقافي العربي، استقدام الشاعر الكبير أبي شافع عمر أبو ريشة لأحياء أمسية شعرية في السويداء، وحاولت التواصل معه هاتفيا عن طريق أسرة أخيه ظافر، لأنّه كان يقيم في لبنان، بعد إحالته على المعاش في عام 1970م، فعلمتُ بأسى أنّه تعرّض لنوبة قلبية، وسوف يسافر على وجه السرعة إلى مدينة الرياض، وكان قد أجرى عملية جراحية للقلب في عام 1977م.
لكن قبل تيقُّني من عدم قدومه، كنتُ قد نظمتُ قصيدة لاستقباله، وهي على بحر الرمل أيضا، عنوانها؛ أيُّها الصوفي"، قلتُ فيها:
يا أديـبا.. عشـتُ في ديــوانهِ
عيشـة الصـوفيِّ في قــرآنهِ
قـد كـفاه القـولَ بيتٌ واحــدٌ:
"لا يُلام الذئبُ في عــــدوانهِ"1
أيُّ بسـتانٍ.. تسـامى غرسُــه!
تُقطـفُ الحكـمة من أغصــانهِ
ألقُ البــدء.. وحسـنُ المنتـهى
وبهـاءُ المـزج في ألـــوانهِ
حين يغـدو كلُّ حـرفٍ وتــرا
يُبدع الشــاعرُ في ألحـــانهِ
إنَّمـا عتْبي علـــيه.. أنَّــه
مـا اسـتقامَ العــدلُ في نسيانهِ
لم أجـدْ للثـورة الكبرى صـدىً
ينصـفُ التـاريخَ في ديوانــه!
*****
أنت.. يا شــاعرَ حبٍّ وهـوىً
تتلـــوَّى الآهُ في اسـتحـنانهِ
أنت.. يا شـاعرَ شـعبٍ صـابرٍ
أخـرج المقهــورَ عن كتـمانهِ
لكَ في كلِّ مجــال مـــوقفٌ
عــرَّش البـأس على جـدرانه
يصـبح الشـعرُ كلامــا فارغا
حـين يخشى مـوقفا.. في آنـهِ
إنـّه مــوقف صـدقٍ.. رادعٌ
لعـدوٍّ.. شــطّ في عــدوانهِ
يذكـر التاريخُ يومـا شــاعرا
ثـار بركـانا على أوثانـــهِ
وتعـالى صـــوته: يا "أمَّتي"!2
فاسـتحمَّ الكــون في أحـزانهِ
هـزَّه الشـوق.. لترقى منـبرا
يعـربيّا.. ســاميا في شــانهِ
أمَّتي لم تســـتفدْ من منــبرٍ
بعـد أعـوام..ٍ سـوى حملانهِ
ها هو التـاريخ يبكـيها.. ولـم
يخجـلِ التـاريخُ من أشـجانه!ِ
*****
أين من شِـعركَ أشـعارٌ هوتْ
تسـألُ الجـلاّدَ عن إحسـانهِ؟!
ألِفَ الشـعرُ قـيودا.. فسـرى
باحـثا كالعــبد عن ســجَّانهِ
أدمن الخمرة.. من كاس الخـنا
وتردَّى من ذرى إدمـــــانهِ
عاش في كهف المخازي قـانعا
يخـبر السـمَّار.. عن جـرذانهِ
*****
أين من شِــعركَ لغـزٌ ممعنٌ!
أزهـق التفكـير في إمعــانهِ
هـبط الشـعر لأدنى مسـتوىً
حين صـار الرمـز من أركانهِ
فخلا من كلِّ معنىً.. واخـتفى
عن وضوح الفهم.. في أكـفانهِ
ما هو الشِعرُ؟!.. إذا ما قصَّرتْ
كلُّ أبـياته عن عــــرفانهِ
وإذا لم تســتعرْ أحـــرفهُ
بلهـيب الحسِّ في نيـــرانهِ!
أفصحُ القــولِ وأجـداه.. إذا
عُرفَ المكتــوبُ من عنوانه
وقبل أن ألتقيه مرةَ أخرى، خطفتْ يد المنيّة روح الشاعر الكبير، في يوم السبت الرابع عشر من شهر حزيران عام 1990م، في مدينة الرياض، وبقيت قصيدتي حبيسة ذكرى معرفتي بشاعر فحلٍ من فحول شعراء العربية في العصر الحديث.
توفّي أبو شافع عن عمر يناهز الثمانين، وأوصى أن تُكتب على قبره أبيات من نظمه، هي التالية:
إن يسألوا عنِّي وقد راعهم
أن أبصروا.. هيكليَ المُوْصدا
لا تقلقي.. لا تطرقي خشعةً
لا تسمحي للحزن أن يولدا
قولي لهم: سافر, قولي لهم:
إنَّ لــه في كوكبٍ موعدا
في 27/8/2011
نبيه محمود السعدي
1=ذلك إشارة إلى بيته المشهور في قصيدة؛ أمَّتي:
لا يُلام الذئب في عدوانه
إن يكُ الراعي عدوَّ الغنمِ
2=إنها القصيدة الشهيرة، ومطلعها:
أمَّتي! هل لكِ بين الأممِ
منبر للسيف أو للقلمِ