آخر 10 مشاركات
على مسرى الرسول (الكاتـب : - آخر مشاركة : - )           »          موشّح تسبيح نازح غزّاوي (الكاتـب : - آخر مشاركة : - )           »          .. يا ساقيَ السدرةِ اسْقِ القلب رضوانا ……….. (الكاتـب : - آخر مشاركة : - )           »          أنين الغربة (الكاتـب : - )           »          "أ. غير مسجل". يرجى الأطلاع على تعليمات منتدى القصة قبل النشر (الكاتـب : - آخر مشاركة : - )           »          "أ. غير مسجل". يرجى الأطلاع على تعليمات منتدى المقال (الكاتـب : - آخر مشاركة : - )           »          "أ. غير مسجل".يرجى الاطلاع على قوانين قسم الرذاذ قبل المشاركة (الكاتـب : - آخر مشاركة : - )           »          "أ. غير مسجل". يرجى الاطلاع على تعليمات منتدى الشعر (الكاتـب : - آخر مشاركة : - )           »          "أ. غير مسجل". يرجى الإطلاع على تعليمات قصيدة النثر (الكاتـب : - آخر مشاركة : - )           »          أحبك لأن في عينيك وطني (الكاتـب : - )



العودة   منتديات نبع العواطف الأدبية > نبع الأدب العربي والفكر النقدي > السرد > القصة القصيرة , الرواية,المسرحية .الحكاية

الملاحظات

الإهداءات

إضافة رد
 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
 
قديم 04-17-2013, 03:03 PM   رقم المشاركة : 21
كاتب
 
الصورة الرمزية مختار أحمد سعيدي





  النقاط : 10
  المستوى :
  الحالة :مختار أحمد سعيدي غير متواجد حالياً
اخر مواضيعي
افتراضي رد: مشروع رواية...صرخة الرفض

ماكان الناس يميزون بيني وبين الطبيب لأناقتي ولياقتي واهتمامي بنفسي، كانت هي جميلة ومدللة من طبقة النبلاء، شعلة طموح وأمل، مرحة بامتياز، تتكلم كثيرا وتضحك كثيرا، لا تزال براءة قهقهتها تتردد في ذاكرتي، كنت أنظر إليها فرنسية أبا عن جد، كانت من النماذج النادرة في مستوى التحضر الراقي.
لما كنا نحن نسكن في المزرعة، أخذتها يوما هناك، فسلبها جمال الطبيعة وسحرها، وأبهرتها العادات والتقاليد، ولولا أني أعرف قبيلتها لقلت أنها فرنسية وتجنست، أعجبت أمي كثيرا فتزوجتها، كانت تذكر أمي دائما بنساء وبنات المعمرين الفرنسيين والإسبان، تزوجتني رغم معارضة والديها، وأقمنا عندهم رغما عنهما، حتى أنهت دراستها، استأجرنا شقة في عمارة، ثم انتقلنا إلى هنا بعد أن انتهت الأشغال.. صمم هذا البيت حسب ذوقها، وكأنها كانت تقرأ المستقبل في حفر الأساس، لا يزال حتى الآن يتسع للجميع، أنظري هكذا البيوت في فرنسا، تدخلي مباشرة إلى الصالون، على الجهة اليمنى قاعة الأكل وبعدها المطبخ ثم الساحة، على الجهة اليسرى رواق غرف النوم، بعضها يطل على الصالون والبعض الآخر في الرواق الذي يؤدي إلى سلم الطابق العلوي حيث المخرج الثاني إلى الشارع الخلفي، كان يظهر لي واسعا
وكبيرا جدا، كل هذه الأثاث التي زيناه بها فرنسية، ومن باريس، هذه المدينة التي عشقتها أمك حد الهوس، تعيشها هنا، أمك من الذين يؤمنون أن الجزائر هي امتداد لفرنسا تحت البحر، هذا تمثال جان دارك آخر ما جاءت به من هناك، و هذا قرن بايار. في أول زيارتها لباريس، إشترت هذه اللوحة الجميلة للثورة الفرنسية التي حررت كل أوروبا ومعها العالم... الطابق العلوي شيء آخر، الغرف كأنها زنزانات لا تدخلها الشمس في فصل الشتاء أبدا، بناه جدك لعمك، ووثائق البيت كلها باسمه، لقد ساهم في البناء بأكثر من ثمانين بالمائة، ساعدنا كثيرا، حفاظا على كرامتنا وعلى سمعة العائلة، وسيولد فيه أول حفيد.. تلك أشياء كلها جميلة، أراها تمر في ذاكرتي مر البواسق البيضاء في أفق سماء كانت صافية زرقاء... أحيانا أشعر وكأنني أعيش من أجلها و بها فقط. هنا مسقط رؤوسكم جميعا، هنا ترعرعتم، لا تزال ضحكاتكم تملأ فضاء ذاكرتي المتعبة، وبكاؤكم يمزق من حين إلى حين سكون المكان، أنت فقط كنت عند جدتك، ربتهم الخادمة وحشية، وتبين لنا في الأخير أنها إسم على مسمى، كانت أخبث مخلوق عرفه تاريخ الخادمات، ولولا فطنتي لحولتكم إلى شياطين وأنتم لا تزالون أطفال، تعبت كثيرا لاستعادتكم إلى السلوك السوي، حقيقة كنت قاسيا معكم وحرمتكم من أشياء كثيرة، لكن هي التربية أحيانا تحتاج إلى الزجر والحديد والنار، كانت أمكم تنظر إليكم أبناء أعراب ووحوش، وتحتقر نفسها أنها أنجبت أربعة، تقول دائما كأني أرنب، ربما كما قالت، أنكم الخطأ الأكبر في حياتها، لأن المتحضرة لا تزيد أكثر من اثنين، رغم ذلك ومن أنتم الآن، يشار إليكم بالبنان، أليس كذلك؟.. وهذا كله من فضلي وحسن تربيتي وحرصي عليكم، فقط الأرملة الملعونة خذلتني ولا تزال تصنع خيبتي، ولست في حاجة لأحد منكم...
ابتسمت وهزت رأسها، لما كان هو يتكلم كانت هي تستعيد غطرسته وجبروته وظلمه وقساوته، وحده المرض أقعده وقيده وأطلق سراح الجميع، تذكرت تسلطه، فزاعة في الليل، وجلاد بالنهار، تذكرت لما كان يخرجهم من البيت في الظهيرة ليتمتع بالقيلولة، رغم الحر وأشعة الشمس المحرقة، يبيتهم جياعا لأتفه الأسباب، ويضربهم ولا يسمح لهم بالبكاء، وحرمهم من أدنى عواطف الأبوة، تذكرت أنه كان يطعمهم ما يريد، ويلبسهم ما يريد، وينومهم متى يريد، ويوقظهم متى يريد، وكأن البيت ملجأ لإعادة تربية الأشرار، السوط والعصا هي اللغة الوحيدة التي كان يخاطبهم بها، ويجن عندما يسمع أنينهم أوبكاؤهم، كانوا يتمنون له الموت، موت الجبابرة في القصص والخرافات، لأنهم يموتون بالوهن، تذكرت كيف جعلته أمها يبتلع الكثير من الفضائح، يكتمها ويكظمها رغما عنه ، كطلاق الأرملة ،وشبهات الفيلسوف مع صبيات المدرسة، وإشاعات عن الأم، و أشياء أخرى ، تذكرت كيف كانت تروضه أمها في حلبات أي نقاش، وتظهر آرائه مهلهلة،و تافهة، مفككة تتناثر فوق قدميها، فيستسلم إرضاء لغرورها، في حين ،من كان يجرأ ويذهب إليه لحل تمرين من واجباته،أو يستنصحه في أمر، أو يطلب منه مساعدة ، وبقدر ما كانت تطريه بقدر ما كان يتعصب في معاملته معهم... وأشياء أخرى لا تريد أن تتذكرها من شدة فظاعتها، لأنها تؤلمها كثيرا...
هكذا كانت أمي وأنا في بطنها تسقيني مرارة ماضيها وحاضرها، ممزوجة بالحقد والغضب ورغبة الإنتقام، تنتظر بفارغ الصبر الساعة التي ترميه في دار العجزة، ليذوق مرارة الهوان ولا تزوره إلا مرة واحدة في العام، ستشتري له شريط فيروز ، زروني كل سنة مرة حرام تنسوني بالمرة، شماته وتراه قد ذبلت فيه هذه الأشياء التي صنعت جبروته الذي لم يرحمهم، ويوم يموت يدفنه عمال النظافة، هي متأكدة أن جنازته لا يحضرها أحد، مثله مثل الفرنسي ينتهي وحده، ينتهي لا شيء، لا حدث، وإذا حضر أهله وأقاربه فمن باب المجاملة والنفاق، لأن أغلبهم في فرنسا لا يؤمنون بما وراء الموت.. هو يعرف أن لا أحد يحبه في هذا البيت..
لما استيقظت من غفوتها وجدته يتناول عشاه بشراهة، فقامت، قبلته على رأسه وانصرفت، وسقط كلامه في سلة المهملات... ليتها تستطيع أن تنقل إليه هذه الصور التي تملأ صدرها كما هي.. أما هو فبقي ينتظر زوجته في الصالون، لما عادت وجدته نائما على الأريكة، فدخلت إلى غرفتها ونامت قريرة العين، استيقظ وشم رائحة عطرها ممزوجة برائحة أخرى يعرفها جيدا، كأنها رائحة خمرته المفضلة، جوني والكير، لم يصدق، لا يزال مترددا، تحاصره دوامة بين الشك واليقين وتهاجمه الظنون من كل جهة، أراد أن يذهب إليها في غرفتها، وتراجع لسبب تنكر له، لا يريد أن يعترف به حتى لا ينظر إلى نفسه ضعيفا، واستطاع أن يتجاوز هذا الصراع وذهب، توقف أمام الباب ينصت لعله يسمع حركة أو أي شيء يبرر به زيارته، رفع يده ثم تراجع، كانت تلك الرائحة هنا أشد وأقوى، ورغم شدة الفضول ولهب الشك والغيرة، عاد إلى غرفته يجر الخيبة والحسرة، وابيضت ليلته وطال مداها، ما رأى أبعد من فجرها في حياته، ينتظر الصباح بأعصاب اشتدت كأوتار للعزف المقتضب، فصعدت نسبة السكري وسقط مغشى عليه، ونقلوه إلى المستشفى، وبعد استقرار حالته عاد إلى البيت.
في مساء ذلك اليوم جاءته إلى غرفته، أخرجهم جميعا واختلى بها، وبدون مقدمات قال لها:
- إنهم أعدوا الفريضة، وسيبيعون كل الممتلكات بما فيها هذا المسكن لأنه باسم أبي.
- وإسهاماتي؟
- سأحاول أن أسترجعها لك، لا أظن أن هناك أحد يعارض، فما رأيك لو نشتري مسكنا في القرية نقضي فيه ما تبقى من عمرنا؟
وكان السؤال الذي أفاض قدح الجواب وأثار البركان الذي يسكنها.
- جننت أو ماذا جرى لك؟.. أنا أسكن القرية؟.. هيا إلى المزرعة أفضل، مع الحمير والبغال والبقر والغنم، ونسكن في كوخ من أكواخكم القذرة، و نأكل الخبز المشوي على فضلات الحيواناتت، و نشرب من حيث يشرب الكلب، و ننام و الدجاج طواف بنا، تتشقق أقدامنا و أيدينا، و تزينها أدران الوسخ، و أطرافنا معفرة بالتراب كالخنازير !!!.. يا للمهزلة، يا للعار، و في آخر عمري !!..ألعن اليوم الذي عرفتك فيه، و اليوم الذي تزوجتك فيه ...اسمعني جيدا، ابتلع هذا القيأ و لا تعد إلى مثله أبدا، إذا شدك الحنين إلى هذه البشاعات، أذهب إليها وحدك، أما أنا فهنا، في المدينة خلقت و فيها أموت، فلا تحاول معي مرة أخرى، و إلا ستسمع مني ما لا يرضيك،.
خرجت كالزوبعة، و لم تدخل إلا مع الفجر، تجاهلها هو مكرها، لا يزال يجتر كلامها، وجد فيه شيئا من المنطق، و في سؤاله شيئا من الغباء، يقكر كيف يرمم ما أفسده من ود بسذاجته، و في الصباح ذهب إلى النزل الكبير، حجز مائدة فاخرة من الصنف الممتاز و عاد إلى البيت مسرورا، في المساء ذهب إليها ليطيب نفسها و يسترضيها، استسمحها و عزمها على العشاء فاعتذرت كونها نفسيا ليست مرتاحة، و واعدته أنها ستذهب معه مرة أخرى، أما الليلة فعندها لقاء رسمي في نفس النزل و لا زالت مترددة، و يحتمل أنها لن تذهب ، فعاد مكصور الجناح، و قبل أن تخرج مرت عليه في غرفته، استودعته و ذهبت...
قام لبس بدلته الجميلة، تعطر،فأصبح جنتلمن بامتياز، حمل عصا بنفس لون الحذاء ،وضع نظاراته و تبعها، كان قد انقضى من الليل ثلثه تقريبا، دخل إلى القاعة، كان الجو رومنسيا جدا، تتسلل الأنغام الهادئة الى الأذواق المحتشنة تحت الضوء الأحمر الخافت، يداعب إيقاعها الأعصاب التي هدهدتها الأقداح و تراقصها الهمسات الأنثوية الحالمة...تذكر أشياء جميلة مرت عليه من هنا، قاده المضيف بكل لياقة و لباقة إلى مائدته، جلس واستوى، سأل النادل عن اللقاء، فنفى أي لقاء في هذه الليلة، سأله إذا كان عنده موعد مع قرينة ، هز رأسه نافيا و الغرابة تأكل مداركه، هو الوحيد الذي كان يجلس وحده، لف ساعده بساعده على صدره و سافر إلى ذلك الزمن الجميل لما كان ملأ عينها و بصرها، لما كانت تتباهى به أمام النساء لبنيته و عنفوانه ، تحاول جذب انتباه الجميع إليها و هي تتأبط ذراعه بحركاتها و قهقهتها ..توقفت الموسيقى، و ضبط الجوق آلاته و بدأ معزوفة رقص الباله، هم بالوقوف، و ترجع، تمنى لو كانت هنا ، يحاول معها و لو غدوة و روحة على هذا الإيقاع المرح و الجميل، أغمض عينيه و ذهب يهز رأسه و يدق بأنامله على المائدة ، يضاهي النغم بدندنته ، و لما قامت رأته جالسا، نزلت عليها الفكرة الشيطانبة، إنها الضربة القاضية، هي تعرفه جيدا، مثله لا يقتله أجله ، بل وحدها الغيرة تصنع نهايته ، و تدمر دخيلته ، وماذا عساه أن يفعل ، إنه نصف ميت، أعرابي لا يصلح لشيء، ابتسمت ، مضمضت فمها بالشمبانيا ، و أخذت بيد فارسها إلى الجهة التي كان يجلس فيها زوجها، كانت تضع خدها على صدره، يد في يد،و الأخرى في ظهره ، يتحركان كأنهما جسد واحد، تنفصل عنه ثم تعود إليه، يدها في يده تأتي الى صدره تجاريه خطاها بخطاه، تبتعد قليلا ، ثم تلتسق به و تعيد، أبهرت الحضور برشاقتها و لطافة حركاتها ،ماهرة في الرقص ، تنظر إلى زوجها و هو يختنق حسرة و غيظا، تبتسم إليه و تلاطف فارسها بليونة السادية...توقفت الموسيقى ، صفق الحضور ،و عادت معه إلى مائدتها ، تقدم أحدهم ، انحتى ، قبل يدها، غمرها ببسمة عاشق ، شكرها على الأداء، وانصرف .. سقط زوجها على الأرض مغشيا عليه، أدارت وجهها تشمئز من سذاجته ، حملوه ، طلبوا سيارة اسعاف و نقلوه إلى المصحة.
...يتبع...







  رد مع اقتباس
قديم 04-17-2013, 03:26 PM   رقم المشاركة : 22
عضو هيئة الاشراف
 
الصورة الرمزية منوبية كامل الغضباني





  النقاط : 10
  المستوى :
  الحالة :منوبية كامل الغضباني غير متواجد حالياً
اخر مواضيعي
قـائـمـة الأوسـمـة
افتراضي رد: مشروع رواية...صرخة الرفض

شقيقي
هل هو الفصل الأخير......؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
فأنا على الوعد في مرور عميق على روايتك













التوقيع

لِنَذْهَبَ كما نَحْنُ:

سيِّدةً حُرَّةً

وصديقاً وفيّاً’

لنذهبْ معاً في طريقَيْنِ مُخْتَلِفَيْن

لنذهَبْ كما نحنُ مُتَّحِدَيْن

ومُنْفَصِلَيْن’

ولا شيءَ يُوجِعُنا
درويش

  رد مع اقتباس
قديم 04-17-2013, 09:27 PM   رقم المشاركة : 23
كاتب
 
الصورة الرمزية مختار أحمد سعيدي





  النقاط : 10
  المستوى :
  الحالة :مختار أحمد سعيدي غير متواجد حالياً
اخر مواضيعي
افتراضي رد: مشروع رواية...صرخة الرفض

......................

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة دعد كامل نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة
   شقيقي
هل هو الفصل الأخير......؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
فأنا على الوعد في مرور عميق على روايتك

...............................

دعد ...أيتها الشقيقة الغالية.
أبدا لا يزال في الجعبة الكثير ...أشكرك .
لك تحية خاصة و وردة.
شقيقك مختار






  رد مع اقتباس
قديم 04-21-2013, 08:42 AM   رقم المشاركة : 24
كاتب
 
الصورة الرمزية مختار أحمد سعيدي





  النقاط : 10
  المستوى :
  الحالة :مختار أحمد سعيدي غير متواجد حالياً
اخر مواضيعي
افتراضي رد: مشروع رواية...صرخة الرفض

بعده بقليل ودعت فارسها، طلبت طاكسي وعادت إلى البيت، دخلت إلى غرفتها ونامت، حلم بالشامبانيا كان أحلى ما وجدت في تلك الليلة، في الصباح تفقدوه، فلم يجدوه، وقبل أن يخرجوا جاءهم الخبر بأنه في المستشفى، خرج منه مع منتصف النهار، نقلوه إلى البيت، ماحصل له شيء متوقع مادام هو مصاب بالسكري ولا يقاوم الحلويات كما قالت زوجته… ينظر إليها بعين المقت والكره، وماذا عساه أن يفعل أو يقول خوفا من فضيحة تسقط هيبته في العائلة، بل عند جميع من يعرفه، أما هي فما فعلت إلا ما يفعل أغلبية الفرنسيات ...فاليمخره السكوت حتى يقتله أو يعوقه، و بعد..
فلزم الصمت واعتزل الجميع، يدخن بدون انقطاع، أدمن على القهوة وغار صوته في البيت نهائيا، واستراح منه الجميع... من حين إلى حين يعيد صورتها وهي كالفراشة في حضن ذلك الرجل، ليتأكد أنه رآها حقيقة، وتزيد حيرته من تصرفها معه بطريفة عادية، كأنها ليست هي، و أنه قد شبهها فقط، يريد في بعض الأحيان أن يصرخ في وجهها، لكنه يخشى أن تنفي ما فعلته أو تتهمه بالتأخر والسذاجة ،وما فعلته كان مجرد رقصة تقوم بها أي امرأة متحضرة مع أي رجل، بل أكثر من ذلك، له أن يفعلها هو إن شاء ولا تمانع، بالعكس ستسعد بذلك كثيرا... يراها دائما بنفس اللباس لما تأتي عنده لتودعه حين تريد أن تخرج، تقول له:
- لما تستعيد عافيتك نتعشى سويا في أفخر مطعم وعلى حسابي، سأعيد لك شبابك... سترى...
فلا يرد، تضحك هي وتختفي ولا تعود إلا في آخر الليل، يألمه اجترار محرك السيارة التي تأتي بها ويطعنه انصفاق الباب، فيتنهد، من حين إلى حين كان يدخل في غيبوبة واستفحل فيه المرض وأثر على كليتيه، وأصبحت حياته مرهونة بجهاز تصفية الكلى...
في ذلك اليوم قام مبكرا، جلس في الحديقة يشم وهيج أزهاره، وتنفس الصبح المنعش الجميل، فإذا بالفيلسوف يقف عند رأسه
- صباح الخير، إنك اليوم أحسن
لم يرد عليه، نظر إليه وتمنى أن يكون ما وراءه خيرا، فنظر إليه وهز رأسه يسأله..
- جئت لأخبرك أن تركة جدي كلها بيعت في المزاد العلني، باتفاق كل الورثاء، حتى المسكن هذا، وستبدأ عملية الإستلام في هذا الأسبوع على ما أظن، وكان من نصيبك أنت ونحن معك بالطبع، خمسة عشر مليون وسبعمائة ألف دينار، وهذا هو الشيك حرر باسمك بعثه الموثق، تفضل، إمضي هنا.
- -باعوا الأرض كذلك
- باعوا كل شيء، لأنه حصل سوء تفاهم على التقسيم، المبلغ هذا مهم جدا، نستطيع أن نشتري أجمل فيلا في أجمل وأرقى حي، ويبقى الكثير
- باعوا الأرض باتفاق كل أعمامك وعمتك
- نعم باعوا المزرعة كلها وقد سلموها بالأمس إلى صاحبها
- فعلوها أبناء الساحر، فعلها الأوغاد كما قالوا
- وبمباركتك وموافقتك أنت، هل نسيت؟
- أنا؟... متى؟
- الأسبوع الفائت، وأمضيت على العقد، لا تقل لي أنك نسيت !!
وفهم اللعبة، ولكن لا تزال كل الخيوط بيده ولن يفلت من يده أحد.. أخذ الشيك، كان محررا بخط جميل وكأن الأرقام رسمت بريشة فنان، وحدها بهذه الأسفار تسيل لعاب أقنع الناس وأزهدهم. وضعه في محفظته وسكت
- ماذا أنت فاعل الآن؟
- هذا أمر لا يخص أحد، فما دخلك أنت؟ إنتهت مهمتك تفضل
- أنت مريض لا تستطيع أن تتصرف وحدك، وأنا إبنك الوحيد، إذا وضعت هذا الشيك في يد أمي ستكون نهايتك، أنصحك، إنها ورقتك الوحيدة التي تستمد بها سيطرتك على الوضع
- قلت لك تفضل، خلاص
وجد في كلامه كثيرا من الصدق ولكنه صدق وراءه فخ، وفرض عليه الموقف أن يتحفظ أكثر ومع الجميع، إستعاد بهذه الثروة شيئا من قوته وتوازنه، ولكنه في وضع أسوأ من أن يحسد عليه، وأي هفوة ستكلفه الأتعاب التي تصنع نهايته قبل آجالها، الجميع ينتظر سقوطه، ينظر إليهم كأبناء العقرب على عاتقه، أو كغربان تحوم حول صائدة أهلكها الدهر بنوائبه فوقعت تفتك بها الوحوش...
ذهب إلى البنك، حول المبلغ إلى حسابه، إتصل بمحام ليقوم بكل الإجراءات التي أرادها، واتصل بوكالة عقارية تبحث له عن مسكن متواضع في حي هادئ قريب من مركز تجاري.
في غيابه اجتمعت الأسرة برئاسة الأم تنظر في وقوع كل الإحتمالات ، تعد التدابير اللازمة لمواجهة أي موقف يتخذه، أو يحاول من خلاله أن يحرمهم من حقوقهم في الميراث.
رتب أموره، وعاد إلى البيت مطمئن، فوجد إبنته تنتظره، دخلت معه إلى غرفته، تعب كثيرا في هذا اليوم، استلقى على سريره يتنفس بعمق ليستعيد راحته ووتيرة نبضاته العادية، تركته حتى رأته قد استقر حاله ، تأخذه السنة بعد السنة...
فبادرته قائلة:
- في هذا الأسبوع سيأتي الأمر بإخلاء المنزل على حد ما سمعت ، وأعرف أنه من غير الممكن أنك تستطيع أن تشتري بيتا في هذا الظرف الوجيز، ولهذا جئت أطلب منك أن تأتي معي إلى بيتي مع جدتي، سأوفر لك كل الظروف المناسبة للإقامة عندي إلى حين ، فما رأيك؟
بدأ ينظر إليها والشك يمخر براءة العرض، وبدأ الغضب يكتسح ذاته المتعبة.. إستوى جالسا وقال:
- سأفكر في الأمر جيدا وأرد عليك في الوقت المناسب
- فكر في نفسك قبل الجميع، أنت مريض تحتاج إلى رعاية خاصة، وحدي أنا أستطيع أن أخدمك سواء في بيتك أو في بيتي.
- إنها حمى المال يا بنيتي، حتى أنت أصابتك وحولتك إلى ملاك بامتياز، أعرف أنكم كلكم أبناء الدينار، عليه تجتمعون وعليه تتفرقون، نصيحتي لك أن تذهبي ولا تعودي إلى مثل هذا الكلام أبدا، أنا الآن لست بحاجة لأحد، وكلامك هذا سيجر إليك متاعبا كثيرة، تعرضك إلى أشياء لا تحمد عقباها، هيا ابتعدي عني ، لا أريد أن أرى وجهك بعد اليوم..
- تطردني؟
- خير لك، هيا لا تجعليني أصرخ فيسمع الجميع، هيا.. هيا.. هيا...
وأسرع الجميع، فوجدوها واقفة تنظر إليه، لا تعرف ماذا تقول ولا ما ستفعل... أخرجوها.. طردهم جميعا وأغلق الباب.
وهاجمتني في بطنها الأحقاد، والضغينة والكره والبغض حد الإنتقام، وعرفت كيف تكتسب هذه الأشياء ومن أين تأتي . خرجت أمي وهي تتوعد جدي بموقف أشد، والكيل بضعفيه، حفظت الدرس وقلت لها سأرد لك الدين مضاعفا إذا تشابهت المواقف يوما ما ، قرأتها بسرعة ونسيت أن للمستقبل أوراق أحفظها لها أنا ، وأن أحكام القضاء مسجلة الآن في صفيحتي بإمضاء أفعالها وأقوالها في السر والعلانية، والشيء الذي لا تعرفيه يا أمي ، هو أنني أعرف الآن من سأكون يوما، آه لو تسمعيني اليوم وتنصتي ليجنبك القضاء متاعب كثيرة سجلها في صفيحتي، ويمحيها من أم الكتاب، ولكن هي فضلات أنانيتكم تصنع منا وجوها تشوه هذا الوجود الجميل، هي بقايا الظلام الذي يسكنكم ورواسب الشر تتشكل منها الكوابيس التي تغتال أحلامكم النرجسية فينا، هي الخطيئة يا أمي ، تلد الخطيئة، فاسمعيني... كانت صرختي تضيع في فضاء جسدها الذي ما كان فيه مانعا يرد الصدى، ولا سياجا يحمي العاقل من الجنون...
ذهبت أمي إلى غرفتها تجتر غيظها لتغذيني منه...
دفعت أمه الباب ودخلت، وجدته يبتسم، فاستغربت، وظنت أن به مس، جلست على حافة سريره، خيم الصمت بينهما، وضع يده على خده وأسند مرفقه على ساعده، ينظر أمامه إلى لوحة شارع الشان اليزي للفنان الفرنسي جان أنطوان واطو، ينتظر أمه أن تفصح عما في نفسها.. أما هي كانت تعرف الهواجس التي يعيشها إبنها، فاكتفت بالنظر إليه جسدا ينهشه المرض من كل جهة، بين يديه ثروة كبيرة كهذه، وطموحا يمزقه الخوف في كل منعطف، تبحث عن كلمات من عمق الحنو تعبر بها عن تأثرها بحاله بصدق يجعله يتأكد أن مال الدنيا كله عندها في كفة وهو في كفتها الراجحة.. وهو كان ينظر إليها بعين أخرى ويتعجب من هذه العجوز التي تبني على حافة موتها طموحا جردها من كل مشاعر الأمومة، وما أصبح يهمها إلا المال الذي في يده فأتت تساومه...
قامت قبلته، وانصرفت دون أي كلمة... وأصبحت الرقم المجهول في معادلته، يتسائل ماذا تبيت هذه الساحرة؟.. ولماذا ذهبت كما جاءت؟.. فسكنته حيرة أخرى...
وجاء الأمر بالإخلاء بمهلة شهر إبتداءا من تاريخ التبليغ، فكان لا بد من جمع العائلة ومعرفة الرأي الذي استقر عليه الأب، وقامت الأم بالمبادرة، جمعتهم في الصالون وذهب الفيلسوف يدعوه لحضور الجلسة العائلية الوحيدة التي لم يتخلف عنها أحد إلا الجدة. فجاء، جلس على أريكته كالعادة وقال:
- أمهلوني، إني أرتب أموري بهدوء، وإذا كان هناك من يريد أن يرثني وأنا حي، فهذا هو الجنون المفتعل الذي لا يقبله حتى عقل صاحبه.
كان كلامه كالعاصفة الهوجاء، فتناثروا وتفرقوا، ولما دخل إلى غرفته اجتمعوا ثانية في غرفة الأم، وبعد الأخذ والرد تركوا الأمر للأم هي التي ستتصرف، وواعدتهم أنها ستجد حلا يرضي الجميع، وأقسمت على ذلك بأغلظ الإيمان، فليس هذا الأعرابي هو الذي سيتلاعب بها ويضيع عليها فرصة العمر.
كان لهب حمى المال قد تمكن منها روحا وجسدا، يتآكل فيها كل شيء والطمع يأكل في ذاتها بعضه بعضا، وما هذه إلا بداية جنون الحلم بالثروة، والخوف الذي نفثه فيها ما فعلت فيه ليلة الرقص
...يتبع...







  رد مع اقتباس
قديم 04-24-2013, 12:19 AM   رقم المشاركة : 25
كاتب
 
الصورة الرمزية مختار أحمد سعيدي





  النقاط : 10
  المستوى :
  الحالة :مختار أحمد سعيدي غير متواجد حالياً
اخر مواضيعي
افتراضي رد: مشروع رواية...صرخة الرفض

هي تعرف بقدر ما كان يحبها، بقدر ما يروي ظمأه الإنتقام منها اليوم، في اليوم الموالي، حمل حقيبته ومحفظته وخرج باكرا، قلبوا الدنيا عليه، وبدأت تساورهم الشكوك، وظن الجميع أنه أخذ أمواله وهرب، أكالوا له كل الشتائم واللعنات، ولما عرف أن الليل قد جمعهم ، هتف لهم ليخبرهم أنه في مصحة لبعض الأيام، فتنفس الجميع الصعداء، وهدأت روعة أمه عليه وتوقفت عن البكاء، ولما ذهبوا لزيارته رفض أن يستقبلهم، فعادوا مدحورين، وبدأ أخطر الخيارات يفرض نفسه، وكانت الأم قد جمعت كل خيوط المؤامرة ، ورتبت للتمويه بطريقة شيطانية لا يستطيع أن يدركها إلا مارد، الأرملة هي الوحيدة التي كانت على علم بكل شيء، وبدأ العد التنازلي لوضع نهاية لهذه المسرحية التي حرقت أعصاب الجميع، لقد بنت مصيدة موته، وهي الآن تنتظر، أعدت له صدمة جهنمية وجمعتهم لتضع الجميع في الصورة، واقتنع الجميع أن هذا رجل مريض ومجنون، وهو بلا شك يبيت ما لا يبيته الشيطان، ويمكن أن يحرمهم من الميراث، ولهذا يجب أن يتداركوا الأمر قبل فوات الأوان، وقبل أن يتفرقوا رن جرس الباب وظن الجميع أنه هو، فتفرقوا وفتح الفيلسوف فوجد رجلا يحمل رسالة، يطلب أمه فجاءت، أمضت على السجل وسلمها الرسالة، فتحت فإذا به حكم طلاقها، فسقطت مغشى عليها، كان الإنهيار العصبي أحد وأسرع من خطتها، فأدخلت إلى مصحة الأمراض العصبية في حالة خطيرة جدا، ولما أخبروه قال لهم: هذه أولى الخطوات في ترتيب أموري والبقية ستأتي، فلا تستعجلوا الأحداث، وقطع المكالمة، وذهبت أمه لتزوه فأذن لها، لما دخلت عليه وجدته في صحة جيدة، المصحة مختصة في رعاية مرضى السكري المتطور، حسب برنامج طبي متطور جدا، يشرف عليه أساتذة مختصون وكفاءات تمريض عالية، فسرت لما رأته كذلك، رغم ذلك كان يبدو عليه بعض التحفظ، فقالت له:
- كنت أسرع منها وأذكى، أفتخر بك، وصيتي إليك، كن حذرا.
إبتسم وقال:
- لا تخشي علي، الشيطان الذي يأخذون منه، تعلم في مدرستي، كنت أجاريه فقط، وصدق من قال اللهم احفظني من أحبابي ، أما أعدائي فإني أعرفهم.. هذا مثل فرنسي جميل أحفظه وأعمل به دائما.
كتمتها في نفسها وقامت كالمطعون الذي لا يريد أن يقع فريسة أمام عدوه، أوقفتها حرارة النصل تقاوم بكل ما أوتيت من قوة حتى لا تنهار بالبكاء أمامه، اختفت وراء ابتسامة، قبلته على الجبين وخرجت، وكأنها كانت تنتظر هذه الطعنة بهذا العمق، فأعدت لها غضبها وسخطها، فاجتمعت كل ملامح البؤس على وجهها، إلا أن أعذار رحمة الأم وشفقتها بددت كل شيء، وفسحت الجو للدمع أن ينسكب أنهارا... حينها كان الجميع في مصحة الأمراض العصبية لزيارة الأم، إلا أن الطبيب رفض أي زيارة لسوء حالتها وقال:
- السيدة كأنها تحت صعقة كهربائية دمرت أماكن حساسة في الجهاز، يجب أن نبعدها عن كل ما يذكرها بالمحيط الذي كانت تعيش فيه أولا، حتى يتوقف الدمار ، ونعيدها إليه بعد مرور العاصفة، إنها أصعب مرحلة تمر بها، ولما نتأكد من اجتياز مرحلة الخطر سنأذن لكم بالزيارة، نظن أن الصدمة كانت أقوى مما كانت تنتظر.
خرج الجميع وبقيت الأرملة، تريد معرفة النتائج المتوقعة، ولما أصرت قال لها الطبيب:
-للحظ هنا يا سيدتي دور كبير، وبقدراتها واستعدادها، يمكن أن تمر بسلام وتستعيد عافيتها ببعض التوابع الخفيفة، ولكن يبقى الشلل وارد في أغلب هذه الحالات، وخاصة إذا تدخل اليأس والإحباط، سنعتمد على قوة إرادتها ومقاومتها واستعداداتها لمواجهة حالتها.. نتمنى خيرا...
فعادت إلى البيت تنتظر عودته بفارغ الصبر وتتوعده، كانت الضربة قاضية وأصابت في الصميم، تنظر أمي إلى أمها بشماتة وتضحك، وسرها وهي ترى برج طموح أمها الذي صنعه الكبرياء والغرور والطمع يتفجر ويتطاير شذرات...
وانتهت الكوميديا التي كانت تمثل فيها حبها لأبيها ضد أمها، وزال التكلف الذي كان جاثما على صدرها وعادت للمثل القائل، سأل أحدهم، هل صعود الجبل أفضل أم نزوله؟ فقال أحدهم اللعنة عليهما أينما التقيا وأين تفرقا...
واختلطت حسابات الجميع، ينتظرون على من يأتي الدور في هذه المرة، وما هي الخطوة القادمة، وحذروا الأرملة من أن تقوم بأي عمل من دون علمهم، وتكهرب الجو وتسممت الثقة وساد الحذر، وبدأ كل واحد يعمل لشاكلته، الشيء الذي يتفق عليه الجميع هو أن الأب مهما عمل وضعيته الصحية لن ترحمه، ونهايته لا تحتاج إلى أكثر من كلمة جارحة لكرامته الكاذبة، أو وعكة في منتصف الليل ولا يجد من يأخذ بيده إلى المصحة، المهم أنه ليس بعيدا من الموت الذي يقنصه... وبدأت عقول الشياطين تشتغل ليلا ونهارا، العيون شاخصة والآذان صاغية، والقلوب لدى الحناجر...في تلك الليلة شعرت أمي باضطراب في بطنها وكأن الدنيا التي بداخلها بدأتها القيامة، وشعرت بشيء يدفعني إلى الأسفل، وعرفت أن سجني في هذا القبو قد انتهى ،وحان وقت خروجي إلى عالم أضيق، فعزمت أن أخرج واقفا، فانقلبت وقدمت رجلي، وكم كان خروجي مؤلما، كلما أرادوا وضع رأسي إلى الأسفل، إنقلت واقفا، صرخت أمي وصرخت أنا، كانت صرخة أمي كأنها جلدت، وكانت صرختي أول صرخة رفض، فضحك الآخرون وبكيت أنا كثيرا في تلك الليلة وتمنيت أن لا أتوقف، وحرمتني أمي من صدرها حفاظا على جماله، ولم تحضني لأشم رائحتها، وضعتني في مهد من حديد بجانبها، لقد تخلصت مني، سمعتها تتنفس الصعداء، وشعرت بالغربة ووحشة كوحشة القبر، أبحث بأنفي عن جرعة حنان في ذلك القماش الذي لفوني فيه، وأنا أتقيأ من حين لآخر سائل نتن، وفي آخر الليل جاءت امرأة أخرى، حملتني ووضعت في فمي قطعة من مطاط، أمصها فيتدفق في فمي حليب أشم فيه رائحة غريبة، وذوق لا يحمل تركيبة أي عنصر بشري، رفضته في بادئ الأمر، وازدادت غربتي، وأرغمت عليه شيئا فشيئا فرمته.ونسيت أمي، وتعلقت بقطعة المطاط، وفي الصباح جاء أبي، حملني، قبلني على الجبين وقال لأمي:
- إنه صورة طبق الأصل لك
فضحك وضحكت أمي وقالت:
- كاد يقتلني، وضعته بصعوبة كبيرة، ونال مني المقص ما نال
- لقد أمر الطبيب ببقائك تحت المراقبة أسبوعا كاملا
- هل أخبروا أبي؟، أبي مجنون يمكن أن يفعل أي شيء
- لا أعرف، لا زلت بعيدا عنهم، الوضع في بيتكم مكهرب، أكره المكوث في مكان لا يأمن الإنسان فيه على أذنه ولسانه.
- لا شك أنه سيفرح، كان ينتظر هذه اللحظة بفارغ الصبر، ممكن تغير..
- ممكن... الظروف غير ما كانت عليه، والأمور في بيتكم تعقدت أكثر فأكثر، الكل يعيش على الأعصاب، أنصحك بالعودة إلى بيتنا عندما تخرجي من هنا.
- أعود إلى البيت؟ ! أبدا، حضوري يضمن حقوقي في الميراث، أبي على حافة الموت وكلهم ينتظرون، صدقني إنهم قادرون على فعل أي شيء لاستعجال موته، وأنا في أشد الحاجة إلى هذه الأموال، لست آمنة على منصبي من ذلك القاضي الخبيث، وأخشى مكرهم.
- ودخلت الجدة وجاءت معها بتمر، حملتني، ضمتني إلى صدرها، وشعرت لأول مرة بالدفء، كانت أول رائحة حنو أشمها، كان التمر لذيذا جدا، وكأني منه خلقت، شعرت لأول مرة بالراحة وخلدت إلى عالم آخر أعرفه لأول مرة، صور أبتسم لها، وصور تحاول أن تبكيني، وفي اليوم الموالي شعرت بألم المصل في ساعدي، وبدأت علاقتي حميمية مع قطعة المطاط... أي امرأة تحملني، فتلك هي أمي، وقبل نهاية الأسبوع أخذوا عينة من دمي بحضور طبيبة وممرضة وضابطة شرطة بالزي المدني، أفزع هذا التصرف أمي، فطمأنوها أنه بأمر من النيابة التي طلبت بتحاليل خاصة، وهذا شيء طبيعي يحصل من حين إلى حين، هالها الأمر ودخلت في دوامة جعلتها تكرهني أكثر فأكثر...
- ولما جاء أبي أخبرته فطلب توضيحات فقالوا له أن هناك وباء وأرادوا أن يتأكدوا من سلامتي، وقد كانت التحاليل سليمة، باركوا له وخرجنا من مصلحة الأمومة إلى بيت جدي، وجدته قد بعث لي بأجمل الهدايا، ومبلغا من المال إلى أمي، فزاد تصرفه في خلط أوراق الجميع، و وضع أمي محل شبهة، فاعتزلها الجميع، وزاد كرهها ومقتها لي، ومنذ ذلك اليوم تكفلت بي الجدة وهجرتني أمي وذهبت إلى بيت زوجها، لا تأتي إلي إلا مرة واحدة في الأسبوع رغم معارضة أبي...
- الجميع كانوا ينتظرون تنفيذ الأمر بالإخلاء، ومرت المدة ولم يتقدم أحد، وزادت حيرتهم، وعاد الأب إلى البيت تصحبه ممرضة، أعطاها تعليمات صارمة، فكانت تقوم بمهمتها في حدود النطاق الذي كلفت به، مبرمجة، لا تكلم أحدا، إمرأة شابة، سوداء، أنيقة، ممشوقة القد، ببنية قوية، لطيفة معه ولينة، تتكلم الفرنسية بطلاقة ونطق سليم، أسالت لعاب الفيلسوف.
وحتى يبدد حيرتهم أخبرهم بأنه استأجر المسكن من شاريه لمدة ثلاثة أشهر، فلزم كل واحد حده، يتابعون من بعيد تحركاته، تحسنت صحته شيئا ما، وكأنه يمتثل إلى الشفاء، فاستعاد هيبته وفرض وجوده، يمرون عليه كل صباح وكل مساء يشترون محبته ورضاه، فيبتسم...
تعبت كثيرا في هذا اليوم، خرجت متأخرة من العمل، نظرت يمينا ثم شمالا، لعله يمازحها، وقفت وهي تبتسم تنتظره أن يظهر لها فجأة كعادته، بقيت أكثر من ربع ساعة، لا أحد، فعادت إلى البيت من نفس الطريق، وصلت، دخلت، نادته، لم يجبها أحد، ذهبت إلى غرفة النوم فوجدت الدولاب مفتوحا، وقد أخذ ملابسه وحاجياته، لم تصدق وظنت أنه مجرد مقلب، فتشت البيت كله، لم يترك أي شيء يخصه، عادت إلى غرفة النوم، وعلى الطاولة كانت ورقة مكتوب عليها " أنت طالق، وداعا "، فجلست تقلب الورقة، حاولت الإتصال به، نقاله خارج مجال التغطية... فقالت:
- طريق السد تأخذ ولا ترد... كفى.. كفى !... كفى.. لماذا أنا فقط؟؟ لماذا؟.. يا حظ ماذا فعلت للقضاء والقدر؟ !! نقرت الهاتف فإذا بالجدة ترد بكل حنو:
- طاب مساؤك يا حبيبتي، كيف حالك !.. مابك؟.. تكلمي ! .. مابك؟ قطعتي قلبي تكلمي..
- لقد ذهب يا جدتي، ذهب، أخذ كل حاجياته ورحل..
- مجنون، والله مجنون، انتظريني أنا قادمة، لا تخرجي ولا تخبري أحدا
وما هي إلا نصف ساعة حتى رن جرس الباب، فتحت ودخلت الجدة تحمل الطفل، وضعته على الأريكة، عانقتها، تحضنها بكل قوة، وبلل الدمع صدر العجوز من جديد، وهي تداعب خصلات حفيدتها وتنظر إلى السماء... أجلستها في الصالون، مسحت دموعها بكفها، ورسمت بسمة حنان وتجلد على ثغرها، تهون عليها لأن الحدث في نظرها لا يستحق كل هذا التهويل، دون أن تمنعها من البكاء، وهي التي تقول أن دموع المرأة أرحم من الغيث، لأنها تغسل قلبها من الشر، بعكس المرأة التي لا تبكي، إنها شر الخلق، قاسية القلب مثل أمها، لا تظن أنها بكت مرة واحدة في حياتها...
كانت تلك أتعس ليلة في حياتها، وأدركت أن ذلك الرجل كان يعيش معها شبح صورة لإمرأة ماتت ولا تزال في ذاته حية تسعى، ولعله استيقظ واستيقن وعرف الحقيقة فرحل، رجل كانت هي مجرد كذبة تصورها وصدقها إلى حين، رجل مسكون بحب طيف لا يؤمن بالنهايات، وحز في نفسها أنها كانت مجرد أيقونة على خشبة مسرح راويه امرأة من صنع الخيال، حز في نفسها أنها كانت مجرد كلمات تأبين، مجرد رثاء، مجرد أغنية عزف الجنون لحنها على شواهد القبور لرجل متيم بحب امرأة من رميم... كانت أمامه امرأة عائدة من ما وراء العقل والظنون، من وراء الموت واليقين.. ألهذا كان يجن جنونه عندما يراها تلبس البياض، لا زالت تذكر كيف كان يداعبها، كأنه الساحر عندما ينفخ من خياله في طيف امرأة الأساطير وحكايا الرواحين، كان يحملها دائما إلى عالم تحطم فيه الأجساد قيود العقل والنقل، وتتنصل من رشدها وترتدي هواها وتتبع غواية المجانين.. هكذا كانت، استيقظت ووجدت نفسها عاشت حلما من هواجس اللاعقل الكاذبة، صدقت أنها كانت من وحي ما وراء السعادة في عالم الحالمين... ألهذا الحد كانت ساذجة؟؟... وهاجمتها الشكوك، هناك حلقة مفقودة في تخمينها، مرسوم في مكانها علامة استفهام يختفي وراءها سؤال الحيرة...
تتساءل هل هي الحقيقة التي تنتقم ممن يريد اغتيالها؟ ومن يدري !؟
...يتبع...
هي تعرف بقدر ما كان يحبها، بقدر ما يروي ظمأه الإنتقام منها اليوم، في اليوم الموالي، حمل حقيبته ومحفظته وخرج باكرا، قلبوا الدنيا عليه، وبدأت تساورهم الشكوك، وظن الجميع أنه أخذ أمواله وهرب، أكالوا له كل الشتائم واللعنات، ولما عرف أن الليل قد جمعهم ، هتف لهم ليخبرهم أنه في مصحة لبعض الأيام، فتنفس الجميع الصعداء، وهدأت روعة أمه عليه وتوقفت عن البكاء، ولما ذهبوا لزيارته رفض أن يستقبلهم، فعادوا مدحورين، وبدأ أخطر الخيارات يفرض نفسه، وكانت الأم قد جمعت كل خيوط المؤامرة ، ورتبت للتمويه بطريقة شيطانية لا يستطيع أن يدركها إلا مارد، الأرملة هي الوحيدة التي كانت على علم بكل شيء، وبدأ العد التنازلي لوضع نهاية لهذه المسرحية التي حرقت أعصاب الجميع، لقد بنت مصيدة موته، وهي الآن تنتظر، أعدت له صدمة جهنمية وجمعتهم لتضع الجميع في الصورة، واقتنع الجميع أن هذا رجل مريض ومجنون، وهو بلا شك يبيت ما لا يبيته الشيطان، ويمكن أن يحرمهم من الميراث، ولهذا يجب أن يتداركوا الأمر قبل فوات الأوان، وقبل أن يتفرقوا رن جرس الباب وظن الجميع أنه هو، فتفرقوا وفتح الفيلسوف فوجد رجلا يحمل رسالة، يطلب أمه فجاءت، أمضت على السجل وسلمها الرسالة، فتحت فإذا به حكم طلاقها، فسقطت مغشى عليها، كان الإنهيار العصبي أحد وأسرع من خطتها، فأدخلت إلى مصحة الأمراض العصبية في حالة خطيرة جدا، ولما أخبروه قال لهم: هذه أولى الخطوات في ترتيب أموري والبقية ستأتي، فلا تستعجلوا الأحداث، وقطع المكالمة، وذهبت أمه لتزوه فأذن لها، لما دخلت عليه وجدته في صحة جيدة، المصحة مختصة في رعاية مرضى السكري المتطور، حسب برنامج طبي متطور جدا، يشرف عليه أساتذة مختصون وكفاءات تمريض عالية، فسرت لما رأته كذلك، رغم ذلك كان يبدو عليه بعض التحفظ، فقالت له:
- كنت أسرع منها وأذكى، أفتخر بك، وصيتي إليك، كن حذرا.
إبتسم وقال:
- لا تخشي علي، الشيطان الذي يأخذون منه، تعلم في مدرستي، كنت أجاريه فقط، وصدق من قال اللهم احفظني من أحبابي ، أما أعدائي فإني أعرفهم.. هذا مثل فرنسي جميل أحفظه وأعمل به دائما.
كتمتها في نفسها وقامت كالمطعون الذي لا يريد أن يقع فريسة أمام عدوه، أوقفتها حرارة النصل تقاوم بكل ما أوتيت من قوة حتى لا تنهار بالبكاء أمامه، اختفت وراء ابتسامة، قبلته على الجبين وخرجت، وكأنها كانت تنتظر هذه الطعنة بهذا العمق، فأعدت لها غضبها وسخطها، فاجتمعت كل ملامح البؤس على وجهها، إلا أن أعذار رحمة الأم وشفقتها بددت كل شيء، وفسحت الجو للدمع أن ينسكب أنهارا... حينها كان الجميع في مصحة الأمراض العصبية لزيارة الأم، إلا أن الطبيب رفض أي زيارة لسوء حالتها وقال:
- السيدة كأنها تحت صعقة كهربائية دمرت أماكن حساسة في الجهاز، يجب أن نبعدها عن كل ما يذكرها بالمحيط الذي كانت تعيش فيه أولا، حتى يتوقف الدمار ، ونعيدها إليه بعد مرور العاصفة، إنها أصعب مرحلة تمر بها، ولما نتأكد من اجتياز مرحلة الخطر سنأذن لكم بالزيارة، نظن أن الصدمة كانت أقوى مما كانت تنتظر.
خرج الجميع وبقيت الأرملة، تريد معرفة النتائج المتوقعة، ولما أصرت قال لها الطبيب:
-للحظ هنا يا سيدتي دور كبير، وبقدراتها واستعدادها، يمكن أن تمر بسلام وتستعيد عافيتها ببعض التوابع الخفيفة، ولكن يبقى الشلل وارد في أغلب هذه الحالات، وخاصة إذا تدخل اليأس والإحباط، سنعتمد على قوة إرادتها ومقاومتها واستعداداتها لمواجهة حالتها.. نتمنى خيرا...
فعادت إلى البيت تنتظر عودته بفارغ الصبر وتتوعده، كانت الضربة قاضية وأصابت في الصميم، تنظر أمي إلى أمها بشماتة وتضحك، وسرها وهي ترى برج طموح أمها الذي صنعه الكبرياء والغرور والطمع يتفجر ويتطاير شذرات...
وانتهت الكوميديا التي كانت تمثل فيها حبها لأبيها ضد أمها، وزال التكلف الذي كان جاثما على صدرها وعادت للمثل القائل، سأل أحدهم، هل صعود الجبل أفضل أم نزوله؟ فقال أحدهم اللعنة عليهما أينما التقيا وأين تفرقا...
واختلطت حسابات الجميع، ينتظرون على من يأتي الدور في هذه المرة، وما هي الخطوة القادمة، وحذروا الأرملة من أن تقوم بأي عمل من دون علمهم، وتكهرب الجو وتسممت الثقة وساد الحذر، وبدأ كل واحد يعمل لشاكلته، الشيء الذي يتفق عليه الجميع هو أن الأب مهما عمل وضعيته الصحية لن ترحمه، ونهايته لا تحتاج إلى أكثر من كلمة جارحة لكرامته الكاذبة، أو وعكة في منتصف الليل ولا يجد من يأخذ بيده إلى المصحة، المهم أنه ليس بعيدا من الموت الذي يقنصه... وبدأت عقول الشياطين تشتغل ليلا ونهارا، العيون شاخصة والآذان صاغية، والقلوب لدى الحناجر...في تلك الليلة شعرت أمي باضطراب في بطنها وكأن الدنيا التي بداخلها بدأتها القيامة، وشعرت بشيء يدفعني إلى الأسفل، وعرفت أن سجني في هذا القبو قد انتهى ،وحان وقت خروجي إلى عالم أضيق، فعزمت أن أخرج واقفا، فانقلبت وقدمت رجلي، وكم كان خروجي مؤلما، كلما أرادوا وضع رأسي إلى الأسفل، إنقلت واقفا، صرخت أمي وصرخت أنا، كانت صرخة أمي كأنها جلدت، وكانت صرختي أول صرخة رفض، فضحك الآخرون وبكيت أنا كثيرا في تلك الليلة وتمنيت أن لا أتوقف، وحرمتني أمي من صدرها حفاظا على جماله، ولم تحضني لأشم رائحتها، وضعتني في مهد من حديد بجانبها، لقد تخلصت مني، سمعتها تتنفس الصعداء، وشعرت بالغربة ووحشة كوحشة القبر، أبحث بأنفي عن جرعة حنان في ذلك القماش الذي لفوني فيه، وأنا أتقيأ من حين لآخر سائل نتن، وفي آخر الليل جاءت امرأة أخرى، حملتني ووضعت في فمي قطعة من مطاط، أمصها فيتدفق في فمي حليب أشم فيه رائحة غريبة، وذوق لا يحمل تركيبة أي عنصر بشري، رفضته في بادئ الأمر، وازدادت غربتي، وأرغمت عليه شيئا فشيئا فرمته.ونسيت أمي، وتعلقت بقطعة المطاط، وفي الصباح جاء أبي، حملني، قبلني على الجبين وقال لأمي:
- إنه صورة طبق الأصل لك
فضحك وضحكت أمي وقالت:
- كاد يقتلني، وضعته بصعوبة كبيرة، ونال مني المقص ما نال
- لقد أمر الطبيب ببقائك تحت المراقبة أسبوعا كاملا
- هل أخبروا أبي؟، أبي مجنون يمكن أن يفعل أي شيء
- لا أعرف، لا زلت بعيدا عنهم، الوضع في بيتكم مكهرب، أكره المكوث في مكان لا يأمن الإنسان فيه على أذنه ولسانه.
- لا شك أنه سيفرح، كان ينتظر هذه اللحظة بفارغ الصبر، ممكن تغير..
- ممكن... الظروف غير ما كانت عليه، والأمور في بيتكم تعقدت أكثر فأكثر، الكل يعيش على الأعصاب، أنصحك بالعودة إلى بيتنا عندما تخرجي من هنا.
- أعود إلى البيت؟ ! أبدا، حضوري يضمن حقوقي في الميراث، أبي على حافة الموت وكلهم ينتظرون، صدقني إنهم قادرون على فعل أي شيء لاستعجال موته، وأنا في أشد الحاجة إلى هذه الأموال، لست آمنة على منصبي من ذلك القاضي الخبيث، وأخشى مكرهم.
- ودخلت الجدة وجاءت معها بتمر، حملتني، ضمتني إلى صدرها، وشعرت لأول مرة بالدفء، كانت أول رائحة حنو أشمها، كان التمر لذيذا جدا، وكأني منه خلقت، شعرت لأول مرة بالراحة وخلدت إلى عالم آخر أعرفه لأول مرة، صور أبتسم لها، وصور تحاول أن تبكيني، وفي اليوم الموالي شعرت بألم المصل في ساعدي، وبدأت علاقتي حميمية مع قطعة المطاط... أي امرأة تحملني، فتلك هي أمي، وقبل نهاية الأسبوع أخذوا عينة من دمي بحضور طبيبة وممرضة وضابطة شرطة بالزي المدني، أفزع هذا التصرف أمي، فطمأنوها أنه بأمر من النيابة التي طلبت بتحاليل خاصة، وهذا شيء طبيعي يحصل من حين إلى حين، هالها الأمر ودخلت في دوامة جعلتها تكرهني أكثر فأكثر...
- ولما جاء أبي أخبرته فطلب توضيحات فقالوا له أن هناك وباء وأرادوا أن يتأكدوا من سلامتي، وقد كانت التحاليل سليمة، باركوا له وخرجنا من مصلحة الأمومة إلى بيت جدي، وجدته قد بعث لي بأجمل الهدايا، ومبلغا من المال إلى أمي، فزاد تصرفه في خلط أوراق الجميع، و وضع أمي محل شبهة، فاعتزلها الجميع، وزاد كرهها ومقتها لي، ومنذ ذلك اليوم تكفلت بي الجدة وهجرتني أمي وذهبت إلى بيت زوجها، لا تأتي إلي إلا مرة واحدة في الأسبوع رغم معارضة أبي...
- الجميع كانوا ينتظرون تنفيذ الأمر بالإخلاء، ومرت المدة ولم يتقدم أحد، وزادت حيرتهم، وعاد الأب إلى البيت تصحبه ممرضة، أعطاها تعليمات صارمة، فكانت تقوم بمهمتها في حدود النطاق الذي كلفت به، مبرمجة، لا تكلم أحدا، إمرأة شابة، سوداء، أنيقة، ممشوقة القد، ببنية قوية، لطيفة معه ولينة، تتكلم الفرنسية بطلاقة ونطق سليم، أسالت لعاب الفيلسوف.
وحتى يبدد حيرتهم أخبرهم بأنه استأجر المسكن من شاريه لمدة ثلاثة أشهر، فلزم كل واحد حده، يتابعون من بعيد تحركاته، تحسنت صحته شيئا ما، وكأنه يمتثل إلى الشفاء، فاستعاد هيبته وفرض وجوده، يمرون عليه كل صباح وكل مساء يشترون محبته ورضاه، فيبتسم...
تعبت كثيرا في هذا اليوم، خرجت متأخرة من العمل، نظرت يمينا ثم شمالا، لعله يمازحها، وقفت وهي تبتسم تنتظره أن يظهر لها فجأة كعادته، بقيت أكثر من ربع ساعة، لا أحد، فعادت إلى البيت من نفس الطريق، وصلت، دخلت، نادته، لم يجبها أحد، ذهبت إلى غرفة النوم فوجدت الدولاب مفتوحا، وقد أخذ ملابسه وحاجياته، لم تصدق وظنت أنه مجرد مقلب، فتشت البيت كله، لم يترك أي شيء يخصه، عادت إلى غرفة النوم، وعلى الطاولة كانت ورقة مكتوب عليها " أنت طالق، وداعا "، فجلست تقلب الورقة، حاولت الإتصال به، نقاله خارج مجال التغطية... فقالت:
- طريق السد تأخذ ولا ترد... كفى.. كفى !... كفى.. لماذا أنا فقط؟؟ لماذا؟.. يا حظ ماذا فعلت للقضاء والقدر؟ !! نقرت الهاتف فإذا بالجدة ترد بكل حنو:
- طاب مساؤك يا حبيبتي، كيف حالك !.. مابك؟.. تكلمي ! .. مابك؟ قطعتي قلبي تكلمي..
- لقد ذهب يا جدتي، ذهب، أخذ كل حاجياته ورحل..
- مجنون، والله مجنون، انتظريني أنا قادمة، لا تخرجي ولا تخبري أحدا
وما هي إلا نصف ساعة حتى رن جرس الباب، فتحت ودخلت الجدة تحمل الطفل، وضعته على الأريكة، عانقتها، تحضنها بكل قوة، وبلل الدمع صدر العجوز من جديد، وهي تداعب خصلات حفيدتها وتنظر إلى السماء... أجلستها في الصالون، مسحت دموعها بكفها، ورسمت بسمة حنان وتجلد على ثغرها، تهون عليها لأن الحدث في نظرها لا يستحق كل هذا التهويل، دون أن تمنعها من البكاء، وهي التي تقول أن دموع المرأة أرحم من الغيث، لأنها تغسل قلبها من الشر، بعكس المرأة التي لا تبكي، إنها شر الخلق، قاسية القلب مثل أمها، لا تظن أنها بكت مرة واحدة في حياتها...
كانت تلك أتعس ليلة في حياتها، وأدركت أن ذلك الرجل كان يعيش معها شبح صورة لإمرأة ماتت ولا تزال في ذاته حية تسعى، ولعله استيقظ واستيقن وعرف الحقيقة فرحل، رجل كانت هي مجرد كذبة تصورها وصدقها إلى حين، رجل مسكون بحب طيف لا يؤمن بالنهايات، وحز في نفسها أنها كانت مجرد أيقونة على خشبة مسرح راويه امرأة من صنع الخيال، حز في نفسها أنها كانت مجرد كلمات تأبين، مجرد رثاء، مجرد أغنية عزف الجنون لحنها على شواهد القبور لرجل متيم بحب امرأة من رميم... كانت أمامه امرأة عائدة من ما وراء العقل والظنون، من وراء الموت واليقين.. ألهذا كان يجن جنونه عندما يراها تلبس البياض، لا زالت تذكر كيف كان يداعبها، كأنه الساحر عندما ينفخ من خياله في طيف امرأة الأساطير وحكايا الرواحين، كان يحملها دائما إلى عالم تحطم فيه الأجساد قيود العقل والنقل، وتتنصل من رشدها وترتدي هواها وتتبع غواية المجانين.. هكذا كانت، استيقظت ووجدت نفسها عاشت حلما من هواجس اللاعقل الكاذبة، صدقت أنها كانت من وحي ما وراء السعادة في عالم الحالمين... ألهذا الحد كانت ساذجة؟؟... وهاجمتها الشكوك، هناك حلقة مفقودة في تخمينها، مرسوم في مكانها علامة استفهام يختفي وراءها سؤال الحيرة...
تتساءل هل هي الحقيقة التي تنتقم ممن يريد اغتيالها؟ ومن يدري !؟
...يتبع...









  رد مع اقتباس
قديم 04-30-2013, 03:00 PM   رقم المشاركة : 26
كاتب
 
الصورة الرمزية مختار أحمد سعيدي





  النقاط : 10
  المستوى :
  الحالة :مختار أحمد سعيدي غير متواجد حالياً
اخر مواضيعي
افتراضي رد: مشروع رواية...صرخة الرفض

و عادت بها الجدة إلى بيت أبيها، في تلك اليلة أشتد عليه المرض، و سمعه الفيلسوف يئن و يسعل ، فدخل عليه ، وجده قد سقط من فوق سريره، يحاول عبثا أن أن يعود إليه، فأعاده و ناوله دواءه، و جلس عند رأسه ينتظر، و لما رآه استقرقليلا، سأله على ما ينوي، و قد اقترب أجل الإخلاء، و بلغه أنهم جميعا في حيرة كبيرة، فثارت ثائرته، و قبح فعلته هذه، لأنها كما قال إستعجال لموته.
_ لا تستعجلوا موتي، واتركوني أموت هونا، و سأجمعكم في آخر الأسبوع لأطلعكم على أنوي فعله، حتى ينشغل كل بنفسه ، و تتركوني أموت بهدوء.
و فهم الجميع أن الأب سيجمعهم من أجل الوصية،فتنفسوا الصعداء، و حل الحلم و الأمل مكان الخوف و اليأس و القنوط، تفاءل الجميع خيرا، و بدأت رحلة التفكيرفي مستقبل كله طموح،كل يعزف على الوثر الذي يطربه، و كثرت الدندنات، واتفق القيلسوف مع عمه على العيش عنده، و إنشاء شريكة يديرها و يترك التعليم، فعجلت زوجته باقتراح مشروع جريدة تنطق باسمه، واستقدمته للإقامة معهم، فحمل أمتعته واستقر عند عمه نهائيا، في غرفة جميلة،مجهزة بأحدث الآثاث، بجانب غرفتها في مسكنهم الجديد. و طابت نفسه لما وجده من أنس في قربها، و عوضته عن ما بدر منها تلك الليلة من سوء تصرفها معه، وأقنعت زوجها بضرورة وجوده معهم بمشروع أو بدونه لأسباب تراها كثيرة و متعددة، منها سفره الكثير في مهمات مختلفة ، و للنساء كما يول المثل كيد العارفين بالشيطان ، كما للصالحين فراسة العارفين بالله. لم تكن تتوقع أن نهاية هذا المسلسل يجمع لها فيها القدرخمسة عشر مليون دينار و أرنبين في كيس واحد،لنها فرصة العمر الذي ضاع منها، تنظر إلى الحياة تبتسم لحظ لا يزال كل يوم يتزين من جديد، الحلقة الوحيدة التي لا تزال مفقودة لإستكمال المشهد هي الأشرطة، و تبقى اللعبة، لعبة شطرنج مفتوحة كل الوقت، و الأدهى هو الذي يكسب الرهان في الأخير...
خرجت الأم من غيبوبتها، وأتوا بها إلى البيت، مشلولة كما قال الطبيب، على كرسي متحرك،مهزومة عشش فيها اليأس و القنوط، تدفعه الأرملة في صمت المختنق من الغيظ، ساعدتها على الصعود فوق السرير، مدت رجليها، و فاض دمع المذلة لأول مرة على خدها غزيرا، و ماذا يفعل مثلها لما تخونه كل الحيل ، و يدبر زمن العز الغموس تاركا للهوان سلطانه و صولجانه.
أخبرتها بكل ما جرى في غيابها، و أنها اتفقت مع أختها الصغرى لفتح مرقص أو نلهى ليلي، و أن الصغرى قد اكتسبت مهارات في الرقص رهيبة جدا، وخاصة رقصة الأمازونيات ، رقصة جديدة لا يعرفها سواها / مع ما لها من جسد مغر و ساحر، ستخلب عقول الجميع، و سيذري عليهم هذا العمل أموالا باهضة، لتحقيق كل الأحلام...فباركت الأم المشروع ، و بدأ ترسم على جدارية هذا الحلم أزهار الأمل من جديد...
تتدهور صحة الأب حتى يشرف على الموت ، ثم يستعيد عافيته، و مر الأسبوع و هو غير مبال بهم، وبيومين قبل الإخلاء، اجتمعوا و ذهبوا إليه، وحده كان يعاني ، في حالة يرثى لها، وظهر على وجه الممرضة اليأس، تنظر إليهم كأنهم وحوش مجردة من الرحمة،هي وحدها التي تعرف كما يعرف هو أنه يعيش آخر اللحظات، تأثرت، فاسأذنت و خرجت. و عرف مقاصدهم، عرف أنهم بنوا قصور الطمع بالأحلام الواهية، فهز كتفه و قال لهم بأضعف نبرة و أوهن جرأة:
_ لقد حولت كل أموالي و ممتلكاتي إلى جمعية خيرية، واستودعتهم مصاريف جنازتي ، ليس لكم عندي شيء، هيا تفرقوا كل واحد إلى شأنه، أما أنا فقد استأجرت حجرة في نزل أنتظر فيها نهايتي .
نزلت هذه الكلمات كالصاعقة على الجميع ، و فقدوا التحكم في أعصابهم، سبوه..عيره..و هو يبتسم ، فتقدمت إبنته و هي تحمل إبنها على ساعدها ، فمد يده ليقبله، فأبعدته ، و بزقت في وجهه، فبكى ...و فاضت روحه

.....يتبع...








  رد مع اقتباس
قديم 04-30-2013, 03:01 PM   رقم المشاركة : 27
كاتب
 
الصورة الرمزية مختار أحمد سعيدي





  النقاط : 10
  المستوى :
  الحالة :مختار أحمد سعيدي غير متواجد حالياً
اخر مواضيعي
افتراضي رد: مشروع رواية...صرخة الرفض

ولما أرادوا أن يغسلوه وجدوا في جيبه مبلغا من المال ورسالة يأمرهم بإبلاغ المحامي الذي كلفه بتنفيذ الوصية فور موته، واستعمال المال الذي في الظرف لمصاريف جنازته، وبدأ ينظر بعضهم إلى بعض، وسلبت الحيرة عقولهم، وتمزقت قلوبهم حسرة وندما على إساءتهم لأبيهم في آخر لحظة من عمره، مات وهو يتجرع دموع الذل والهوان، مات تحت وابل الإهانات والشتم وأبشع أنواع العقوق، مات وبزاق ابنته على وجهه، وعظمت في نفوسهم بشاعة ما فعلوا، وصعد نداء الفطرة الذي أيقظ الضمائر الميتة، استصغروا أنفسهم واستعظموه، ثلاثة أيام أيام مضت ولا يزال الجميع تحت الصدمة، وأخيرا جاء المحامي، جمعهم في الصالون، إنه ابن القاضي الذي كانت تعمل تحت إشرافه أختهم، غريب ! يا للصدف ! وفتح الغلاف المختوم فيه ورقة رسمية مكتوب عليها " أوصي بجميع أموالي وممتلكاتي لحفيدي فلان من إبنتي فلانة"
هكذا جاءت الفاجعة، ضربة قاضية أخرى أكثر من أختها، فحملته أمه وهربت به خوفا من انتقامهم، وانصرف المحامي ليقوم بالإجراءات اللازمة لتحويل الأموال والممتلكات إلى وارثها الشرعي... كان العقاب أفظع وأشد بأسا وإهانة، ووجد الجميع أنفسهم في العراء، أخبرتهم الممرضة بأنه كان على علم بقرب أجله، بل عاش أكثر مما توقعه طبيبه، فزاد حقدهم و كرههم له، أما إبنته ضاق عليه الفضاء، و حتى الدمع شنقته الحسرة و لم ترحمها، يتمزق داخلها بمخالب و أنياب الندم، تستعيد صورة الخزي و العار التي مات عليها أبوها، و بزاقها على وجهه و هو يحتضر، و من يغفر لها ذلك، تبحث عن أي شيء تكفر به عن ذنبها، حتى تمنت لو أن لعنته تطاردها حتى الهلاك. الجدةغاضبة من فعلتها، جالسة و في حجرها الطفل، و يدها على فمها في صمت موكب جنائزي...
يجب أن تفعل في أي شيء إنتقاما لأبيها من نفسها ، و بدأ الجنون يحل محل التعقل، ستختنق إن لم تفعل شيئا، كانت أشدهم مقتا لأبيها ، و بغضا و كرها، كم آلمها لما عرفت لماذا كان يضحك، و لما بزقت في وجهه بكى و مات ، عرفت لمن كان يبتسم و هو ينظر إليها وهي تحمل ولدها في دراعها ..و أصرت صورة مهانتها لأبيها الوقوف أمام عينيها ، تتحدى تهربها خلف أي سبب، تحاكم جرأتها، عجزت أن تواجه أسف و أسى تهورها، وانهارت أمام فظاعة قساوتها ، و جشاعة المال التي سكنت نفسها المريضة، تريد أن تترسج فيها هذه الصورة إلى الأبد، وتتحول إلى كابوس يطاردها على امتداد العمر كله، حتى تعترف أنها كانت هي سبب موت أبيها ، أما إخوتها فحملوا كل ما جرى على أنه مجرد مسرحية رتبت فصولها بليل، يبحث الجميع عبثا عن إجراء يستعيدون به أموال أبيهم التي كتبها كما قالوا باسم لقيط، شيء لا يصدق ، شيء لم يكن أن يتوقعه أي أحد، من أغرب الغرائب، تلك هي الكلمات التي تتداول على الألسنة كلما أثاروا الحديث عن بسمة و بكاء أبيهم في الإحتضار ، يقول الفيلسوف دائما ...ما أهونك يا أبي بقساوتك و أنت تموت تحت لعنة أولادك و على وجهك بزاق إبنتك ...

...يتبع...







  رد مع اقتباس
قديم 05-15-2013, 03:45 PM   رقم المشاركة : 28
كاتب
 
الصورة الرمزية مختار أحمد سعيدي





  النقاط : 10
  المستوى :
  الحالة :مختار أحمد سعيدي غير متواجد حالياً
اخر مواضيعي
افتراضي رد: مشروع رواية...صرخة الرفض

كانت الساعة تشير إلى العاشرة و النصف لما رن جرس التليفون، رفعت السماعة.
- نعم، مرحبا سيدي الرئيس ...حاضر.
غريب، منذ مدة طويلة لم يطلبها القاضي، منذ حولت إلى هذ القسم ، حملت المرآة ، نظرة استطلاعية على هيئتها ،كحل العينين، أحمر الشفاه، تسريحة الشعر، بسرعة خللته بأناملها ، هزت رأسها يمينا و شمالا، استوى، و ذهبت، كانت فاتنة... دقت على الباب ، استأذنت و دخلت.
- أجلسي...أنت مستغربة ؟..، شيء طبيعي .
كانت ابتسامته متكلفة ، وراءها نوع من التشفي الممزوج بالتحذير. هزت رأسها و كتفيها، وابتسمت بتحفظ، تحاول إخفاء حيرتها ...
- استمعي إلي جيدا، الموضوع شائك جدا، و مسؤوليتك كبيرة، وأنت متورطة في قضية خطيرة جدا، يستحيل أن تفعليها اعتباطا أو عن جهل أو بغير قصد، أنت أعرف بخبايا النساء و أعرف بخبايا القانون، أعرف ماذا تدبر امرأة مثلك عندما تقدم على فعلة كهذه... سيصلك استدعاء من طرف الشرطة القضائية للإمتثال أمام وكيل الجمهورية، و الأدلة كلها ضدك، و الحقيقة في ملفك لا غبار عليها، أخف الحكم عليها السجن النافذ، هذا إذا لم تظهر نوايا خلفية أخرى، وكان دفاعك خبيرا و عارفا بخبايا القانون... ،القاضي يعرفه الجميع، من أقسى القضاة، و تعرفي الصرامة في أحكامه، لا يرحم في القضايا التي تثبت إدانة أصحابها بقصد...طلبتك لأخبرك حتى أجنبك المفاجأة..
كان هو يتكلم و هي تستمع و تنتظر ماذا لفق لها، ولماذا وهي التي جنبته الكثير من المتاعب، و لم تذكر إسمه رغم شكها في أن الولد منه، ولا يمكن لها الآن أن تتهمه و قد سجل الطفل باسم زوجها و انتهى الأمر، و لماذا هذا القاضي يطاردها وهو لا يريدها، بعد كل هذا ماذا يريد منها ؟.. أعطته كل شيء ، ذاتها ، شبابها ، جسدها، الزمن الجميل من عمرها، دنس شرفها و خذلها ... كل هذا مقابل منصب عمل..و ضاعت منها كيفية صياغة سؤال يروي ضمأها و يفرغه من محتواه ، تنتظره أن يفصح، كان هو قد أدرك أنه بهتها،فأطال الحديث عن خطورة القضية و عواقبها، و عقوبتها و آثارها، و أنها جريمة شنيعة في حق الإنسانية ، الجميع متفق على بشاعتها، و دناءة مرتكبيها، و أن القانون لا يتسامح في مثل هذا النوع من الجرائم، و أنه دائما يضرب بيد من حديد، و أن الجلسة ستكون مغلقة حفاظا على سمعة و كرامة الضحية و.. و..و
- أفصح ..أفصح ..يكفي ..يكفي..اقطع رأسي وارحمني ..
- احترمي نفسك .. و بدون تهور، أنت أمام القاضي، فلا ترغميني أن أعطي أوامر بالقبض عليك الآن، وإيداعك السجن على ذمة التحقيق..أنت قمت بجريمة تحرمها كل القوانين والشرائع السماوية و الأرضية ..
و زاد اسنغرابها أكثر فأكثر ، واختلطت عليها الإفتراضات، و بقدر ما اقترب من صلب الموضوع، بقدر ما ابتعدت عن صميمه، و ضاعت في متاهات لا حد لها، و هي التي تعرف مقالب ظلم المحاكم التي يمكن أن تتعرض لها، تتساءل كيف عرف أني بزقت في وجه أبي، و ربما كنت أنا السبب في موته حسرة، هل يمكن لإخوتي أن يبلغوا عني لتجريدي من حقي في إبني من الوصية؟..، هم قادرون على ذلك، و بدأ هذا الشك يتحول بمبرراته يقينا ، ورأت أنه إذا كانت هذه الحقيقة التي يقصدها، فهي حقيقة تستحق أكثر من هذه العقوبة، ربما أخذت السماء حقها، و هو تخفيف من عذاب الضمير ...و أعطى القاضي للصمت حقه، وتركها تجتر تفاعلات الشكوك، ولما رآها بدأت تستقر بالرضى على القضاء قال :
-الموضوع يخص إبني الذي سجلتيه باسم خليلك الذي كنت تخونيني معه، و بعد التحاليل تبين أنه من لحمي و دمي، الوثائق كلها في ملف العدالة، لن أغفرها لك، سأجعلك تتجرعين مرارة التزوير بغصة الندم القاتل ، دنيئة أنت إلى هذا الحد؟.. أعمتك جشاعة الطمع في الميراث إلى حد التلاعب بهوية براءة الأطفال، ماذا كنت تنوي فعله أنت و عشيقك بأموال إبني التي ورثها من جده ؟.. ستدفعين الثمن غاليا، لقد تم إثبات زواجي بك بحضور الشهود، نسخة من العقد في الملف... هيا تفضلي وسنلتقي في الجلسة... هيا.. تفضلي، وأنت موقوفة عن العمل، في انتظار الحكم.
قامت، وقد شلت ذاكرتها، وضاع صوابها، تجر ذيل الفاجعة، أغلقت باب مكتبها ووقفت دونه، إنها تختنق، تحاول أن تتنفس الصعداء بصعوبة، إمتلأ صدرها، وتكدس الضغط، اشتدت نبضات رأسها وتراخت وتيرتها، كأنها تصعد في السماء، حملت سفطها وخرجت تجري، أوقفت أول طاكسي، في بيتها كانت الجدة لا تزال بغيضها تجتر بصعوبة تصرف حفيدتها وتنتظر انتقام السماء وتتمنى أن لا تأتي الضربة موجعة، ولما رأتها أسرعت إليها وقالت:
- ما وراءك؟ أخشى عليك من لعنة أبيك
- موجعة يا جدتي، موجعة، لقد خسرت كل شيء، أبي، إبني والميراث، وخسرت حتى نفسي.. سأموت يا جدتي، سأموت..
ودخلت الجدة معها في دوامة لا تعرف بدايتها ولا نهايتها، لا تريد أن تسأل خوفا من بشاعة الجواب، كانت تعرف أن ضربة السماء ستكون القاضية... لأول مرة لم تحضنها ولم تعرف لماذا، أمسكتها من يدها وأجلستها..
- تجلدي يا بنيتي، ليس لك إلا الصبر، ماذا حصل؟
- غريبة يا جدتي، بل أغرب من الخيال.. أشياء لا أكاد أصدقها ولا نراها إلا في الأفلام، تحاليل تلك الليلة في مصلحة الأمومة كانت بأمر من النيابة بعد شكوى قدمها القاضي ضدي، وقد اتهم زوجي بالتزوير وخيره بين توريطه في القضية أو يطلقني، وقد فعل بعد أن أخبره بكل التفاصيل وأثبت له ذلك بالتحاليل، أشياء كثيرة ركبها هذا الشيطان بإحكام واستغل نفوذه وتعسف سلطته، أنا الآن تحت رحمته وطائلة القانون، قبضني قبضة شديدة ، لقد خسرت كل شيء حتى وظيفتي، نعم يا جدتي إنه القاضي الذي أحبني عندما أراد، وتنصل مني لما أراد، واغتالني لما أراد، كل هذا بنفس القانون الذي يحمله ضميره الميت، سيجردني من كل شيء، يدخلني السجن، ويأخذ إبني، ويستحوذ على الميراث، ولا أدري ماذا بعد... ربما يتهمني بقتل أبي.
وجاء أجل الإخلاء، فدخل الفيلسوف على أمه، قبلها على جبينها ثم قال:
- أمي العزيزة، أنا أعرف أنه مهما كنت، لن تكوني أرحم ولا أحسن من زوجك، هكذا أنت مثله ممكن أفظع وأشر، ما كان يهمك إلا نفسك، ولهذا ما أخذنا منك شيئا بالأمس نرده إليك اليوم...
وداعا...
وكانت كلمة فرضت عليها ظروفها أن تستمع إليها لأول مرة في حياتها وتنصت ولا تقول شيئا... قالها بكل جرأة، ترك الباب مفتوحا وخرج، ذهب عند عمه فارغ اليدين لا يعرف كيف تكون ردة فعله، رغم حرص زوجته على بقائه معهم، يبقى الجشع فيهم مفسدة الكثير من الأشياء، وهو الذي تعلق بزوجة عمه وبادلته المشاعر الملتهبة، لا يريد أن يخسر صفقة غرام مجانية وثمينة كهذه، يفكر كيف يتصرف لفرض وجوده في هذه الأسرة، فاعتمد عليها واستطاعت بمكرها ودهائها أن تؤثر في زوجها حتى جعلته يتخذه ولدا، فاستقر عنده يظهر له الولاء ويدس له الوباء، وكأن عمه في غيبوبة، يتساءل أحيانا، أيمكن لهذه المرأة اللعوب أن تخدع رجلا جانبه ذئب والجانب الآخر ثعلب؟ سؤال لا تجيب عنه إلا الأيام... بمقارنة أمه مع أبيه ينظر إليها تلميذة رغم تفوقها ظاهريا...
واستأجرت الأم شقة في حي شعبي ولزمت السرير، مع تقدمها في السن أصاب منها المرض غرضه بسرعة، وظهرت آثار الزمن التي كانت تختفي وراء المساحيق، ارتخت الحيوية التي كانت تزين حركات الإغراء في جسد غرر بصاحبته، وظهرت الترهلات تتحدى ما كان يتبجح به اللسان، أصاب الوهن كل شيء، وحدها بقيت العين بصيرة...
كانت الغرفة ضيقة جدا، بنافذة صغيرة، تطل على ساحة جرداء، فيها بعض الشجيرات اليابسة، وكشك فيه شيخ هرم، يبيع الحلويات للأطفال، والأعشاب والتوابل للعجائز...في غياب الأطفال إلى المدارس تشعر بسكون الموت، وعند خروجهم كأنها سوق الشياطين، دولاب جميل لم يتسع لفساتينها وبذلاتها وملابسها وأحذيتها التي كانت تقتنها بتميز ورقة نادرة، لا تزال تحمل ذكريات مغامراتها الأنثوية الجريئة، لكل فستان حكاية لقاء، تستعيدها على وشوشة المكيف الأنيس الوحيد الذي لا يزال وفيا لها، لا تجد أحيانا حتى من يناولها الدواء، ويعتقها بشربة ماء، وتناساها الأحباب والأصحاب والأهل والأولاد، والحياة بدونها لم تتوقف كما كانت تظن، لا زالت مستمرة بنفس الوتيرة أو أفضل، هي وحدها التي سقطت... وبدأت تفكر بالذهاب إلى مركز ما، لعلها تجد رفقة تبدد معها غشاء الصمت الذي يحيط بها، وحدها الأرملة تدخل في آخر الليل تتفقدها وهي في حالة يرثى لها، فكرت في الإنتحار عدة مرات، وخانتها الشجاعة، ما كانت تظن أنها جبانة إلى هذا الحد، واجهت الجميع وعجزت عن مواجهة الموت، لأنه كما تقول، النهاية التي لا تعترف بالأمل ...
أشياء كثيرة كانت تحلم بها لتخلد بها جمال ما وراء العقل، وحال دونها القضاء لما هدم جسر الوصل الذي شيدته الأمنيات، لم تندم، وهي مصرة على ذلك، ينبعث دائما من عمقها صوت المغنية الفرنسية الهالكة " إديت بياف"، لا أندم على شيء....بصوتها ونبرتها المارسيلية، يتحدى يقظة ضميرها كلما هزه منطق سليم، تنظر إلى الأرملة كيف تبتذل الأنوثة وتباع في سوق النخاسة بأبخس ثمن، ترى فيها عزها المهدور، وترى فيها كيف تداس الكرامة بأرجل الإهانة، عندما تفقد المرأة الطموح وتكتفي بفتات الرجال وتلبس رداء الإستكانة، وتنسى حقيقة مبررات الوجود، لا تؤمن بالتكامل، ولا تزال مصرة على أن شموخ المرأة لا يكتسب ولا يلقن، بل هو جريحة في الذات الأنثوية، يولد معها، يشتد ساقه كلما اشتد ساقها، وهو مرهون بعنادها وتحديها لكل القيم والأعراف التي تريد أن تبتذلها، وعلى المرأة أن تكون سلطة متسلطة، لأن بدونها لا وجود للوجود، لا يجب أن ترضى بأقل من هذا، تنظر إلى نفسها كذلك الغصن الذي تأكله النار يتحول شيئا فشيئا إلى رماد تذروه الرياح ولن يذكرها أحد، فقط لأنها كانت في نظرهم مجرد امرأة عاشت لنفسها...
...يتبع...







  رد مع اقتباس
قديم 05-17-2013, 10:07 AM   رقم المشاركة : 29
كاتب
 
الصورة الرمزية مختار أحمد سعيدي





  النقاط : 10
  المستوى :
  الحالة :مختار أحمد سعيدي غير متواجد حالياً
اخر مواضيعي
افتراضي رد: مشروع رواية...صرخة الرفض

وبعد ، فاليأتي الطوفان ...
الفرق كبير بينها و بين الأرملة التي تعيش لغيرها، هي التي بلغت ما بلغت بجموحها و أنانيتها و عزة عفرت أنوف الرجال من أجل ابتسامة ، و ما الأرملة إلا تلك الشابة اليافعة كذبا،لا تشبه أحدا بمراسها المتقلب، لا تستقر على شيء، و لا تتميز بشيء، تكذب كما تتنفس، مهلهلة الشخصية، لا تقف عند حد و لأي وجهة تساق، لا تهمها العواقب، وجدت فارغة فبرمجت على جميع المقاسات ، ما كانت تظهر لها مسكينة و تافهة إلى هذا الحد، رغم أنها كانت أقرب الناس إليها ...تسألها بفضول دائما عن أختها الصغرى التي اختفت في الأسبوع الأول الذي تنقلوا فيه إلى هذه الشقة،هتفت لأمها مرة واحدة تطلب منها أن لا تسأل عنها، و أنها وجدت ما كنت تطمح إليه لبناء مستقبلها و لا تحتاج لأي مساعدة، كانت تلك مكالمة الوداع ، و في هذه الليلة عادت الأرملة باكرا،قبل منتصف الليل، وجدتها لا تزال مستيقظة تتابع شريط يروي حياة ممثلها الفرنسي المفضل ألآن ديلون.. قبلتها على الخد و جلست بجانبها، على وجهها ملامح خبر جديد بغيرة قاتلة وحسد يتقاطر...
-عندي لك خبر
-بعد الشريط
- عن ابنتك العزيزة الصغرى
- بعد الشريط ، أرجوك ، هذا الممثل لا يزال إمضاؤه على منديلي،أحتفظ به حتى أموت ، التقيت به في ليلة جميلة من ليالي الأوبرات في باريس .
- لهذا أهملك الجميع، لا تهمك إلا نفسك.
لم تبالي بها ، و كأنها لم تسمعها، كانت في اتصال مباشر مع الماضي، وانطبق عليها المثال القائل ..عندما يبلغ بنا الجوع حده نتذكر ليلة زفافنا ..
انتهى الشريط و بدأت تحكي عن أفلام هذا الممثل ، و بعض الأحداث في حياته التي أسقطها الشريط ...
-وجدت أختك ؟
- تصوري كيف وجدتها
- بائسة و شريدة بالطبع
- لقد أصحت من نجوم الملاهي و المراقص، و الكبريهات، إنها تلعب بالأموال لعب ،لما رأيتها ما صدقت أنها هي .
- أين
- في مرقص الأمازونية، باسمها سماه صاحبه، إنها أفضل من الوزير عنده.
- راقصة؟؟؟..
- نعم راقصة، كما كانت تحلم، إنها الراقصة الأمازونية، ذهبت أبحث عن عمل، استقبلني صاحب المرقص و تنكرت لي هي ، فقط لأنه قال لها مازحا، إذا كانت هذه أختك فهي أجمل منك..
- حقيقة في الوجه أنت أجمل منها، و هي أروع ما صنعت أنامل الخلق في الجسد،كانت ساحرة ، بنتي و أكنت أحسدها .
- حقيقة عندما ترقص يتخذر الجميع، ما آمنت أن هناك من يعبد أجساد النساء، حتى رأيتهم في أختي ..
- هل سألتك عني ؟
- أنا أقول لك تنكرت لي، و أنت تسألي إن سألت عنك، قالت له ..أعرفها و لكن ليست أختي، وظفها إن شئت على حسابك...وانصرفت ، فوظفني على شروطه ، و أوزع المشروبات قبل العرض و بعده في زي أمازونية، حركاتي تتطلب بعض التمارين لمدة أسبوع فقط،و أباشر العمل في القاعة بما يعادل ألف دينار في الليلة..إيييييه رأيك ؟
- ما عاد يهمني شيئا الآن،لك أن تعيشي حياتك كما تريدين،فقط لا تلومي على أحد، افعلي مثلي ، مثل الفرنسيات ، بعد سن معين ينتزعن حريتهن، و ينفصلن ، لا سلطة لأحد عليهن، أنا سأنتقل إلى مركز اجتماعي حيث أقضي ما بقي من عمري ، ربما أجد هناك رجلا بائسا، يحتاج إلى من يؤنسه، فيؤنسني، وإذا شفيت سيكون لي شأنا آخر،سأعيد مجدي بيدي و لن أحتاج رحمة أحد، سأحرق قبره ولو بإعدامي ..
- أنت في المركز ؟..غريب أمرك..
- لا أريد أن أبقى عالة على أحد، لي في منحة تقاعدي ما يغطي جميع مصاريف التكفل بي و يبقى، و لا يأ س من الشفاء أبدا، سأقاوم هذه الصدمة إلى آخر نفسي ما دمت لا أستطيع أن أضع حدا لحياتي ، لن أضعف، و لن أموت الموتة التي أرادها لي هو،سأقاومه و هو في القبر، و أبرهن له بأني أجدر منه بالحياة...سترين.
كانت تستمع إليها بكل ما تملك من قوة الإدراك ، و هي تعرف أن أمها بدأت تنهار، و بدأ العد التنازلي لوصول نهايتها، هي تعرفها جيدا،سخطها على حالها في عينيها،و على زوجها أشد، و ما هذا الكلم إلا ستار الإمهزام و فظاعة طويتها ...و ساءتها نهاية أمها البائسة، لقد فقدت كل الأشياء التي كانت تصنع عزتها، و لم يشفع لها لسانها الفرنساوي الفصيح عند أي أحد عندما جردتها سنن الحياة من كل ما كان يميزها في هذه الذات التي أتعبتها الأنانية و شوهها الإنبطاح، و من يصدقها أن الفرنسيات خلقن بدون كبد رطب...بدأت جذور شعرها تظهر بيضاء لما نمت، وانكشفت تجاعيد الوجه التي كانت تخفيها المساحيق الباريسية ، و غارت العيون،و ظهرت عظام الترقوة مثل القوس،وازدادت أطرافها طولا لما فقدت لحمها و شحمها ، و بدت أظافرها كمخالب دجاجة عقور، وتدلى ضرعها، وهجر الجمال أوكار جسدها ، فقط بعض آثاره كالأطلال لا زالت تشهد أن الحصوبة مرت من هنا ..غطتها باللحاف، قبلت جبينها ،أطفأت المصباح، و ذهبت إلى غرفتها و بكت، بكت بكاء مرا...و في الصباح كانت تلك الكلمات قد تحولت إلي رماد، وخمدت نار الشجون، و بدأ اليوم الجديد يصنع بطموحاته في البعض و خيباته في البعض الآخر عجائب الزمن الذي أنجبه...
و هكذا ، كما أنجبت هي ذلك الفيلسوف ، الإبن الذي لا يؤمن بالنسب، مثله مثل إبن الغرب الذي يؤسس دائما لقتل الأب و الأصل في طموحاته ، و لا يربطه بالماضي إلا الملموس ، يشتري اللذة بأغلى ما بيده من مثل...لما استيقظت هذا الصباح تذكرت ما قال لها يوما فضحكت..قال لها..لست أنا المسؤول عن وجودي و لا وجودك، و ما كنت إلا قشور متعتك بالطريقة الفرنسية و عفو رغبتك...فابتسمت من جديد و هزت رأسها ، و صعد صوت المغنية الفرنسية إيديت بياف من عمقها يتحدى بمقطعها ...rien de rien ..je ne regrette rien.في حين كان هو ينسج شباك العنكبوت لإمرأة مثلها أو تكاد تكون، تحت رجل رجل...
...يتبع...







  رد مع اقتباس
قديم 05-24-2013, 09:48 AM   رقم المشاركة : 30
كاتب
 
الصورة الرمزية مختار أحمد سعيدي





  النقاط : 10
  المستوى :
  الحالة :مختار أحمد سعيدي غير متواجد حالياً
اخر مواضيعي
افتراضي رد: مشروع رواية...صرخة الرفض

صفقتين بحجر واحد ، جميل جدا،لا يكاد يصدق أنه بلغ هذه الدرجة من نضج الدهاء و المكر، بهذه المسكنة المفتعلة تأكد أنه يستطيع الآن أن يدخل أي مغامرة، و يراوغ مثل عمه أو أكثر أي ثعلب في الوجود، يقال أن الثعبان لا يلد إلا من هو أطول منه، واثق من نفسه و مطمئن على النتائج التي سيحققها، هي لعبة يجاري فيها عمه خلف ستار، طواعية من عمه و براعة منه، و بدأت المرحلة الحاسمة يصاراع الدهاء خلف الظنون، و في كواليس المقاصد الخبيثة، إنه السباق لضبط الأرقام و الحسابات قبل فوات الأوان،و بدت أطراف الخيوط كلها بيده، هكذا يظن، بل متأكد، لا يزال يوجه و يتحكم في ترتيب أدوار المسرحية و تحريك الشخوص نحو الإتجاه الذي يريده لنهاية العرض، و هو يعرف أن بدونه يتوقف كل شيء ...فقرع الطبول. – ألو...أين أنت ؟...انتظريني ...خلاص ، أنا قادم ...
خرجت من الندوة واتجهت إلي مباشرة إلى مقهى الحديقة، تنتظره على أحر من الجمر ، فها هو ذا قادم من بعيد يبتسم، يد في جيبه و الأخرى تحمل بين أناملها لفافة ، يمشي مطمئن كأنه في نزهة، أعجبت به و قامت تستقبله، جلس و جلست أمامه، الكل ما فيها يسأله ...
-خلاص يا سيدتي، إنهم بحوزتي و في مكان آمن لن يصل إليهم أحد.
-أنت متأكد، لآ أصدق، كيف فعلت؟..لا أكاد أصدق..
-ها هي ذي صورتهم في النقال
- كم عددهم؟
-ثلاثة و عشرون شريطا.
- أنت متأكد أنه لا يملك نسخ أخرى ؟.
-أكثر من متأكد، ستصيبه سكتة قلبية، أرجوك بلغيه بهدوء.
ضحكت حتى بانت نواجدها ، و ضحك هو بشفتيه، و دارت في عينيها الفكرة الشيطانية من جديد، حتى الآن هي وحدها التي بيدها خيوط اللعبة كلها...
-هيا، أهتفي له، أخبريه، أريده أن يعيش الفاجعة الآن، و يبدأ عد سقوطه تنازليا.
-لآ...لا..لا..اتركني أتصرف الآن، عندي معه حساب طويل، يجب أن أشويه على نار هادئة، سأجعله يتجرع الويل، سأحسسه بالخوف و القلق و الرعب، و يعيش على أعصاب تشتد حتى تكاد تتقطع، لن تذوق جفونه النوم، سأعذبه، سأنتقم منه شر انتقام، لن أتركه يستريح بعد اليوم أبدا حتى ترتاح منه الحسرات .
تستعيد في وجم شريط أيام مرت من عمرها في عبودية نخاس اغتال فيها تنفساتها، حركاتها، سكناتها، سجن ضميرها في بؤر أوامره ونواهيه، جردها من كل كرامة إنسانية...كانت تحت وطأة الحسرة في هذه اللحظات أشد عليها من جلد السياط...حولها إلى سادية في أوكار الرذيلة و الحيوانية التي تحكمها الغريزة، و فقدت كل شيء ..و صعدت من عمقها نداءات الغيث التي كانت مقيدة بسطونه و تسلطه و جبرونه، بدأت تستعيد أنفاسها و تطلب الثأر،تحاول أن تبرر لنسها أنها كانت أضحية فقدت روح التضحية من أجل بقائها على الأقل بملامح إنسان،كم كان الزمن طويلاو ثقيلا في اضطهادها، و كم كان سريعا في إنقضاء العمر، رغم كل هذا تنظر إلى نفسها أنها صارعت كثيرا للحفاظ على الشغف بالشباب لبناء أمل كان ضالتها كل هذه المدة..
و عرف هو الشيء الذي جعلها تلتزم هذا الصمت الموبوء بماضيها، يرد ابتسمته الساخرة بيقينه أنها تعيش مجرد حلم سيؤول إلى ما لا تتوقعه عندما تستيقظ، و لكن أراد أن يترك لها حق الحلم لأنه البلسم الوحيد الذي يضمد به كل مخلوق في نظره جروح الماضي و إخفاقاته...و ماذا عساه أن يفعل لها، تلك هي سنن الحياة في مسارحها لما توزع الصدف الأدوار، و شاءت الأقدار أن تكون هي كذلك في هذه اللعبة القذرة...
كانت هي ترسم مسارا جديدا على أنقاض ماض كله خراب، تمهد للرحيل بعيدا عن بشاعات هذا الكابوس الذي حاصرها طويلا، وتعطي لهذا الجسد حق الرفض من جديد، بعيدا عن المساومات الدنيئة، لقد حان الوقت الذي تقول فيه ..لااااااا و لا تحتاج إلى حرف آخر تدافع به عن لائها ،و تدفع بهذبن الأرنبين إلى الجحيم ، العم وابن أخيه...تبتسم ، و تنظر إليه بعين الثعلب، فيظهر لها سذاجة المغفلين حتى تطمئن و نضع رجليها بكل وقاحة في وسط الفخ.
-من أجلك سأخسر عمي، لأنك عندي أغلى، على أن تبقى الصفقة بشروطها ، لا تسليم إلا بعد الدفع...هكذا اتفقنا؟..
-خمسمائة ألف دينار هو كل ما جمعته في حياتي، قليل مقابل ما تقدمه لي من خدمة جليلة، بعد ترتيب الأمور سأعطيك كل ما بقي من عمري ، تستاهل...
- أشكرك ،أنت أجمل هدية من السماء ، لأنك حلمي الأكبر، أنا و ما أملك لك.
-لن يكون إلآ ما تريد، فقط لا تستعجل، بعد أن أتخلص منه نتكلم..
في مساء ذلك اليوم جاءت بالمبلغ كما واعدته،و قارورة شمبانبا، سلم لها ألأشرطة، سكبت فوقهم البنزين، و أحرقتهم أمامه كما تعهدت، و قالت له
-أحتفظ بهذه القارورة، سنحتفل عليها الليلة بعد أن ينام 0عمك، إنها ليلة التحرر، و غدا لك أن تسافر حتى لا تشهد سقوطه، بعد أسبوع سأفجر اللغم تحته و هو نائم،سأخبرك، ويوم تعود ستكون مجرد فضولي متفرج، أنصحك، لا تقترب حتى لا تحترق، و ألزم الحياد، أفضل لك...
تذكرت قصة الثور الأبيض و الثور الأسود فضحكت في قرارتها زهوا، واسأذن عمه في الغد أمامها وانصرف.
و بدأت تتحول في ذلك الأسبوع الى شيء آخر، و زوجها يجاريها برفق، كلما صعدت كلما استكان هو و يظهر أضعف. انشغل في تلك الأيام باستثمار أمواله، و أكد لها أنه سيساعدها لإنشاء جريدتها التي يجب أن تخدم مصالحه أولا، و تحتفظ هي بالأرباح،هكذا كان وعد الفخ الذي مهد لها الدخول في مواجهة عنيفة ظنا منها أن الرجل خسر كل أوراقه واستسلم، ولهذا فهو يطاوعها، و في آخر الأسبوع كتبت مقالا تشير فيه أن هناك شخصية نافذة تبتز بعض الإطارات لقضاء مصالحها، باستعمالها أدوات وإشاعات تثبت تورطهم في قضايا أخلاقية وهمية لآ وجود لها إطلاقا، و تناولت الموضوع بشيء من التحفظ...قرأ الخبر و لم يحرك ساكنا، عاد مساء ذلك اليوم و كأن شيئا لم يكن، و بدأ يساورها الشك ، استغربت كيف أن الخبر هز كل المتورطين حتى لا يكاد هاتفه يتوقف ، و كان يرد ببرودة أعصاب ...
بعد العشاء ، أعد كوبا من الشاي الأخضر، و ليس من عادته، و جلس في الصالون يدخن سجارته و يتلذذ مذاق مزيج الشاي بنكهة التبغ...ناداهل ، فأقبلت، و جلست في الأريكة المقابلة كالمتفاوض القوي و هي تبتسم، تريد أن تملي عليه شروطها من موقع الآمر الناهي ...فابتسم و قال لها.
-استمعي إلي جيدا، ليس لدي الوقت لأعيد...أنا لست ذلك الغبي الذي تظنين،و لست خريج جامعة تؤسس للنظريات المثالية و أخلاقيات المباديء التافهة التي تحملونها بسذاجة، أبدا يا سيدتي ، لست ذلك الغبي الورقة التي تحسم بها المرأة التافهة متلك قواعد لعبة كهذه...
أنا يا سيدتي خريج مدرسة الدناءة و الخسة التي تبتذل الفضائل و القيم ،و تغتال القدرات، و تدجن الهمم، حقيقة أنا أعيش في الظلام، لكن لأراقب المغفلين مثلك ماذا يفعلون في الضوء، لأتابع التحركات التي أمليها عليهم، لأراقب ما يجري على خشبة مسرح فرضياتي و أنا راويها ..لا تتنكري ، أعرف كل شيء، أنت الآن في المحطة الأخيرة التي أخترتها لك، هل تعرفي لماذا أنت ساذجة؟..لأنك تؤمني بكل ما يكتبه الأغبياء في الكتب، نشوهه نحن ونلزمكم به و لا نلتزم ، أيتها التلميذة الغبية في مدرستنا، كل هذه المدة معي و لم تتعلمي كيف تحركي دوالب الأمور، و لهذا احتفظت بك كل هذه المدة...اسمعيني جيدا، أريد أن أخرج من هذه الدائرة السوداء إلى ظل آخر، و قد حققت كل طموحاتي، سأتزوج و أعيش حياة طبيعية هلدئة، بعيدا عن الهرج، فقط عليك أن تطلبي الخلع، و تأخذي أولادك، و تختفي من حياتي نهائيا، لا أريد أن أسمع عنك و لا أريد أن أراك...أعرف أنك استعملت الفيلسوف، أعطاك الأشرطة مقابل خمسمائة ألف دينار، و أنا أعطيته مليون دينار مقابل هذا الشريط الذي يثبت تورطك وحدك ، و يتبت إدانتك و لا مبرر لك بعيدا عن ضغوطاتي، و اعترافك بأنك كنت طعمة غاوية لشخصيات نافذة ذكرتيها بالأسم هنا من فرط غبائك يكفي ليكون دليلا قويا لشنقك أمام الملأ أو تصفيتك...و يثبت أن الأولاد ليسوا أولادي ، و ما أنت زوجتي إلا على الورق، ولهذا أراك في وضعية لا حسد عليها و ليس لك خيار...أتمنى أنك سمعت و وعيت، أعطيك كل الليل لإجترار الموقف، وغدا أستدعي القاضي هنا في البيت، و نقوم بكل الإجراءات اللازمة و لك حريتك، افعلي في نفسك ما تريدين، و لا تحاولي اللعب بالنار معي مرة ثانية، لأنني لن أرحمك مثل هذه المرة...بالمناسبة حاولي طمس الموضوع الذي طالعتنا به الجريدة يإمضائك، حتى يطمئن الجميع وتهدأ النفوس و تعود المياه إلى مجاريها ، و إلا...أنا الآن لست بحاجة إلى أي أحد ..أليست هذه أمنيتك ، أردت قتلي فقتلتك و أنت ترزقين...
ابتسم و قام يحمل كوبه، و سجارته بين أسنانه...أشار إليها..بااااااي، و ذهب يتبختر بكبرياء إلى غرفته ، و قبل أن يدخل إلتفت إليها و قال
-كنت أعرف أنك على علاقة بالفيلسوف ، ها أنا اليوم أوظفها لصالحي..لعلمك إنها آخر الدناءات في حياتي ...ضحك واختفى كالشبح.
جالسة في مكانها تجتر كلامه، تبحث عن فجوة، أو ثغرة، أو هفوة تدخل منها كلمة و لو في غيابه، فوجدته قد أغلق عليها كل المنافذ تنظر إلى نفسها أمة من العصر الجاهلي و حررها سيدها في القرن الواحد والعشرين...تناثرت ردود فعلها كأوراق في عمق عاصفة هوجاء،و تهاوى وعيدها وانهار كل شيء ، خرجت من اللعبة كمقامرة خسرت كل شيء...سرق الفيلسوف شريطه و به قايض و ربح...
حزمت أمتعتها و أمتعة أولادها ، وقفت أمام الباب و قالت له.
-مهما كنت بارعا في اغتيال الحقائق، لا تستطيع أن تغتال الجريمة لأنها هي وحدها التي لا تموت، أنظر إليهم جيدا ، إنهم خطأك، إنهم المكان الذي نحرتني فيه و ستعود إليه يوما لتلقى حتفك، لأن مثلك لا يقهره إلا الزمن، أنت تعرف أكثر مني أنهم أولادك من لحمك و دمك...
...يتبع...







  رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
اغتصاب مشروع وقار الناصر قصيدة الومضة 10 11-18-2012 04:02 PM
مشروع العربي حاج صحراوي قصيدة النثر 4 12-23-2011 10:25 AM
الرفض حقي رمزت ابراهيم عليا الشعر العمودي 14 10-18-2011 06:16 AM
مشروع جريمة عبدالكريم وحمان القصة القصيرة جدا (ق.ق.ج) 8 09-26-2010 09:39 PM
زواج الأطفال : مبررات الرفض ووجاهة الأسباب رائدة زقوت المرأة 0 03-06-2010 10:41 AM


الساعة الآن 09:32 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.9 Beta 3
Copyright ©2000 - 2025, vBulletin Solutions, Inc.
:: توب لاين لخدمات المواقع ::