الذهبُ واللُجَين في يا قاريء العينين
للعيون ِلغة ، وهناك من يملكون القدرة على قراءة هذه اللغة ، وفهم ما تحويها من أبجدية خاصة ، وهناك من تفضحهم عيونهم ، فتُسرُّ بما تخفي ألسنتهم ...وهنا نجد العنوان الذي اختارته الشاعرة المبدعة حنان الدليمي ( قاريء العينين ) ، فالخطاب والحوار الموجه في هذه القصيدة الباذخة ، لشخص يعرف ويفهم لغة العيون ...
وحرف النداء يفيد النداء للقريب والبعيد ...ولكنّ العنوان يُوضّح أن هذا القاريء ليس مُنادى محدد ومعروف ، بل قامت الشاعرة بخطاب المجهول ، ليكون محور الفكرة التي أرادت من خلالها أن يكون كالجدار الذي يرتدّ منه صدى صوتها ، حتى تصل الفكرة المنشودة للمتلقي ...
يا قاريء العينين ِفي جحريهما
ماذا ترى؟ فالأمرُ ليسَ بعادي
هنا الشاعرة لم تشأ أن تستهل القصيدة في مقدمة ، تنسجُ منها توطئة قبل الدخول في موضوع القصيدة ، فهي تبدأ الفكرة من بداية الإستهلال ، وكأنّها تريد الإبتعاد عن التقديم لأهمية ما تريد إيصاله ...
الخطاب لذلك القاريء الذي يستطيع أن يقرأ ما في العيون في أعماقها ، والجُحر : هو الحفرة التي تأوي إليها الهوامُّ وصغار الحيوانات ، واختارت الشاعرة هذه المفردة ، ذلك أن هذا القاريء القادر على قراءة ما في أعماق العيون من لغة ، فهنا الخطاب لقاريء يُمكنهُ الغوص في العمق لا الإلتقاط لما يطفو على السطح ..فالأمر جلل ، والمُراد قراءته مهم جدا ...
وهنا السؤال استنكاري ...سارعت الشاعرة في الإجابة على ما قد يراه أو رآه ..وقدمت هي الإجابة قبل أن يقدمها هو : الأمر ليس أمرا عاديا ...
هل لاحَ نخلٌ في انتفاضة رمشها
أوْ بانَ في تعبِ الفُرات ِسُهادي
والبيت الثاني استمرارية للتساؤل الوارد في البيت السالف : ماذا ترى ؟
هل رأيتَ نخلاً حين أعلن رمش العين إنتفاضته ، وهنا لجأت الشاعرة لتوظيف الإستعارة الجميلة ، ( انتفاضة رمشها ) ، والإستعارة في عجز البيت ( تعب الفرات )
وهنا نلاحظ أنّ الشاعرة رسمت المكان في القصيدة ، والدلالة في ذلك مفردات ( النخل ، الفرات ) ، فالمكان هو العراق ..هو موطن الشاعرة ..وقد شبّت نهر الفرات بالإنسان الذي يتعب وحذفت المشبه به وأبقت شيئا من لوازمه على سبيل الإستعارة المكنية .
وبين َ رمشها / سهادي ، الضمير يشير ل ( هي ) و ( أنا ) ، وهنا صور مركبة ، أيها القاريء لهذه العيون ( العراق ) هل ظهر النخل ( الشموخ ) حين قام الرمش بإعلان إنتفاضته ( الرمش : الذي يحرس العيون ) والرمش هنا إشارة للإنسان العراقي ..
أم قد ظهر وأنت تقرأ ما أصاب نهر الفرات ( رمزية الحياة ) وشاهدت سهري وطول ليلي ....
يا قارئي قلْ لي أمن رحميهما
تتــوالدُ الأشـــــواقُ كـالأولاد ِ
يا قارئي : هل تعني الشاعرة أن الخطاب مع القاريء الذي يقرأ العيون وهي تجلس مستمعة لقراءته ؟ أم أن هذا القاريء يقرأ عيون ( بطلة القصيدة والتي جاءت على لسان الشاعرة ) ؟
هنا نرى أن القاريء ، هو الذي يشاهد المشهد في المكان ( العراق ) ، وهنا اختزلت عبارة ( يا قاريء العينين قل لي ) ، وأكملت الصورة بتساؤل جميل وعميق فيه جمال البيان ، شبّهت العيون بالأنثى التي تلدُ ، ويخرج المولود من رحمها ، فهل تلد العيون من رحمٍ الشوق كما تلد الأنثى المولود من الرحم ..صورة بديعة أحسنت توظيفها في رسم الصورة .
والحُلمُ أينَ يكون هلاّ قلت َ لي
في لهفتي ؟ أم تحتَ فيء رُقادي
وهنا التساؤل يتواصل : تساؤلات استنكارية ، هل تتوالد الأشواق من رحم العيون كما يولد الأولاد من رحم النساء ؟ وهل الأحلام تتواجد في اللهفة أم تغفو في ظلالها ....؟
غيْثُ المآقي كيفَ جفّ مًعينه ُ
هل جفّت العيون ولم يعدْ بإمكانها البكاء ، ولم تعد تمارس الهطول ، إذا كانت جفّت ! كيف لها أن تسقي وسادتها التي تستقبل شكواها ودموعها عندما ترقد للنوم ...وهل أصاب هذه العيون جفاف الدمع كما هي بلاد الشاعرة تشكو من الظمأ !
أيّ وجع يستحوذ على نفسية الشاعرة !
والقلبُ من جمر اغترابي مُترعٌ
والنبضُ أصبح فيه محضُ رماد ِ
تشبه الشاعرة القلب بالكأس الذي امتلأ بجمر الغياب ، وتشبه الشاعرة النبض بالحطب الذي أصبح رمادا ً ...وهنا نلاحظ الصور البيانية الجميلة التي عمدت الشاعرة لجمال توظيفها في رسم الصورة الشعرية المدهشة .
الشاعرة حنان الدليمي ، هي بحق شاعرة مطبوعة ، إحساسها مدهش ، تملك القدرة على التعبير ، وهي شاعرة بالفطرة ، تُجيد رسم الصورة بألوان تشدّ القاريء ، تميل لبناء النص الشعري مستخدمة مفردات سهلة دون اللجوء إلى الوعورة في الألفاظ ..لا تحب استعراض اللغة ، ولا تميل للحشو أو الرصف في النظم ...فتجد الوحدة الموضوعية في القصيدة متجليّة ، والفكرة منسابة بسلاسة .
في هذه القصيدة اختارت موسيقى رائعة تلامس القلب ، وقافية جميلة تتهادى كرذاذ على نوافذ العابرين هذه الدوح الشعري الأخّاذ ...
قصيدة قرأتها ...فوجدتني أقف في حضرة شاعرة ، لها أسلوبها ولغتها وطريقتها المتفردة في التعبير عن رقة أحاسيسها ، شاعرة لا تملك أن تقرأ قصيدتها إلا وجميع حواسك في حالة يقظة ...
أكتفي بنشر هذا الجزء من هذه القصيدة الماتعة ، لقاريء يبحث عن النفيس ، على أمل اللقاء مجددا في الجزء التالي من هذه المحاولة في قراءة قادمة بحول الله .