رد: { نبدأ صباحنا أو مساءَنا بآية كريمة أو حديث مع ضوء وتفسير}
[ القول في الحظ العظيم ]
وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)فصلت
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)
يقول تعالى ذكره: وما يعطى دفع السيئة بالحسنة إلا الذين صبروا لله على المكاره, والأمور الشاقة; وقال: ( وَمَا يُلَقَّاهَا ) ولم يقل: وما يلقاه, لأن معنى الكلام: وما يلقى هذه الفعلة من دفع السيئة بالتي هي أحسن.
وقوله: ( وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ). يقول: وما يلقى هذه إلا ذو نصيب وجدّ له سابق في المبرات عظيم.
كما حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, في قوله: ( وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) : ذو جدّ.
وقيل: إن ذلك الحظ الذي أخبر الله جلّ ثناؤه في هذه الآية أنه لهؤلاء القوم هو الجنة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا )... الآية. والحظّ العظيم: الجنة. ذكر لنا أن أبا بكر رضي الله عنه شتمه رجل ونبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم شاهد, فعفا عنه ساعة, ثم إن أبا بكر جاش به الغضب, فردّ عليه, فقام النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فاتبعه أبو بكر, فقال يا رسول الله شتمني الرجل, فعفوت وصفحت وأنت قاعد, فلما أخذت أنتصر قمت يا نبيّ الله, فقال نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: " إنَّهُ كانَ يَرُدُّ عَنْكَ مَلَكٌ من المَلائكَةِ, فَلَمَّا قَرُبْتَ تَنْتَصِرُ ذَهَبَ المَلَكُ وَجاءَ الشَّيْطانُ, فَوَاللهِ ما كُنْتُ لأجالِسَ الشَّيْطانَ يا أبا بَكْرٍ".
حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: ( وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) يقول: الذين أعدّ الله لهم الجنة.
ويرى العبد لله أن الحظ العظيم لما اقترن بالصبر والثبات فهو منزلة في الجنة لخواص الأمة ...
والله تعالى أعلم ..
مودتي و محبتي للجميع
رد: { نبدأ صباحنا أو مساءَنا بآية كريمة أو حديث مع ضوء وتفسير}
اللهم صل على محمد وعلى آله بحر أنوارك ومعدن أسرارك ولسان حجتك وعروس مملكتك وإمام حضرتك ، وطراز مُلكِك ، وخزائن رحمتك ، وطريق شريعتك ، المتلذذ بمشاهدتك ، إنسان عين الوجود والسبب في كل موجود ، عين أعيان خلقك المتقدم من نور ضيائك ، وخاتم أنبيائك صلاة تدوم بدوامك وتبقى ببقائك صلاة تحل بها عقدتي ، وتفرج بها كربتي ، صلاة ترضيك وترضه وترضى بها عنا يا أرحم الراحمين ، عدد ما أحاط بع علمك وأحصاه كتابك وجرى به قلمك وعدد الأمطار والأشجار وملائكة البحار ، وجميع ماخلق مولانا من أول الزمان إلى آخره والحمد لله وحده ..
اللهــــم آمين
مودتي و محبتي للجميع
رد: { نبدأ صباحنا أو مساءَنا بآية كريمة أو حديث مع ضوء وتفسير}
@ [ القول في قصد السبيل ] @
( (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ ۚ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) ) ) النحل
لما ذكر تعالى من الحيوانات ما يسار عليه في السبل الحسية ، نبه على الطرق المعنوية الدينية ، وكثيرا ما يقع في القرآن العبور من الأمور الحسية إلى الأمور المعنوية النافعة الدينية ، كما قال تعالى : ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ) [ البقرة : 197 ] وقال : ( يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ) [ الأعراف : 26 ] .
ولما ذكر في هذه السورة الحيوانات من الأنعام وغيرها ، التي يركبونها ويبلغون عليها حاجة في صدورهم ، وتحمل أثقالهم إلى البلاد والأماكن البعيدة والأسفار الشاقة - شرع في ذكر الطرق التي يسلكها الناس إليه ، فبين أن الحق منها ما هي موصلة إليه ، فقال : ( وعلى الله قصد السبيل ) كما قال : ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) [ الأنعام : 153 ] وقال : ( هذا صراط علي مستقيم ) [ الحجر : 41 ] .
قوله تعالى : وعلى الله قصد السبيل أي على الله بيان قصد السبيل ، فحذف المضاف وهو البيان . والسبيل : الإسلام ، أي على الله بيانه بالرسل والحجج والبراهين . وقصد السبيل : استعانة الطريق ; يقال : طريق قاصد أي يؤدي إلى المطلوب .
قال مجاهد : في [ قوله ] : ( وعلى الله قصد السبيل ) قال : طريق الحق على الله .
وقال السدي : ( وعلى الله قصد السبيل ) قال : الإسلام .
وقال العوفي عن ابن عباس في قوله : ( وعلى الله قصد السبيل ) يقول : وعلى الله البيان ، أي : تبين الهدى والضلال .
وكذا روى علي بن أبي طلحة ، عنه . وكذا قال قتادة ، والضحاك . وقول مجاهد هاهنا أقوى من حيث السياق ; لأنه تعالى أخبر أن ثم طرقا تسلك إليه ، فليس يصل إليه منها إلا طريق الحق ، وهي الطريق التي شرعها ورضيها وما عداها مسدودة ، والأعمال فيها مردودة ; ولهذا قال تعالى : ( ومنها جائر ) أي : حائد مائل زائغ عن الحق .
قال ابن عباس وغيره : هي الطرق المختلفة ، والآراء والأهواء المتفرقة ، كاليهودية والنصرانية والمجوسية ، وقرأابن مسعود : " ومنكم جائر " .
ومنه قول امرئ القيس :
ومن الطريقة جائر وهدى قصد السبيل ومنه ذو دخل
وقال طرفة :
عدولية أو من سفين ابن يامن يجور بها الملاح طورا ويهتدي
ثم أخبر أن ذلك كله كائن عن قدرته ومشيئته ، فقال : ( ولو شاء لهداكم أجمعين ) كما قال : ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا ) [ يونس : 99 ] وقال : ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ) [ هود : 118 ، 119 ] .
والله تعالى أعلم
مودتي و محبتي للجميع
رد: { نبدأ صباحنا أو مساءَنا بآية كريمة أو حديث مع ضوء وتفسير}
القول في تأويل قوله تعالى ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه )
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)}.
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى " شهود الشهر " .
فقال بعضهم : هو مقام المقيم في داره . قالوا : فمن دخل عليه شهر رمضان وهو مقيم في داره فعليه صوم الشهر كله ، غاب بعد فسافر ، أو أقام فلم يبرح .
ذكر من قال ذلك :
2824 - حدثني محمد بن حميد ومحمد بن عيسى الدامغاني قالا حدثنا ابن المبارك ، عن الحسن بن يحيى ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " ، قال : هو إهلاله بالدار . يريد : إذا هل وهو مقيم .
2825 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا حصين ، عمن حدثه عن ابن عباس أنه قال . في قوله : " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " ، فإذا شهده وهو مقيم فعليه الصوم ، أقام أو سافر . وإن شهده وهو في سفر ، فإن شاء صام وإن شاء أفطر .
2826 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن محمد عن عبيدة - في الرجل يدركه رمضان ثم يسافر - قال : إذا شهدت أوله فصم آخره ، ألا تراه يقول : " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " ؟
2827 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية ، عن هشام القردوسي عن محمد بن سيرين قال : سألت عبيدة : عن رجل أدرك رمضان وهو مقيم؟ قال : من صام أول الشهر فليصم آخره ، ألا تراه يقول : فمن شهد منكم الشهر فليصمه "؟ . [ ص: 450 ]
2828 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي : أما " من شهد منكم الشهر فليصمه " ، فمن دخل عليه رمضان وهو مقيم في أهله فليصمه ، وإن خرج فيه فليصمه ، فإنه دخل عليه وهو في أهله .
2829 - حدثني المثنى قال : حدثنا حجاج قال : حدثنا حماد قال : أخبرنا قتادة ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة السلماني عن علي - فيما يحسب حماد - قال : من أدرك رمضان وهو مقيم لم يخرج ، فقد لزمه الصوم ، لأن الله يقول : " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " .
2830 - حدثنا هناد بن السري قال : حدثنا عبد الرحمن ، عن إسماعيل بن مسلم ، عن محمد بن سيرين قال : سألت عبيدة السلماني عن قول الله : " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " ، قال : من كان مقيما فليصمه ، ومن أدركه ثم سافر فيه فليصمه .
2831 - حدثنا هناد قال : حدثنا وكيع ، عن ابن عون ، عن ابن سيرين عن عبيدة ، قال : من شهد أول رمضان فليصم آخره .
2832 - حدثنا هناد قال : حدثنا عبدة ، عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة أن عليا كان يقول : إذا أدركه رمضان وهو مقيم ثم سافر ، فعليه الصوم .
2833 - حدثنا هناد قال : حدثنا عبد الرحيم ، عن عبيدة الضبي عن إبراهيم قال : كان يقول : إذا أدركك رمضان فلا تسافر فيه ، فإن صمت فيه يوما أو اثنين ثم سافرت ، فلا تفطر ، صمه .
2834 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي البختري . قال : كنا عند عبيدة فقرأ هذه الآية : [ ص: 451 ] " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " ، قال : من صام شيئا منه في المصر فليصم بقيته إذا خرج . قال : وكان ابن عباس يقول : إن شاء صام وإن شاء أفطر .
2835 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الوهاب - وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية - قالا جميعا ، حدثنا أيوب ، عن أبي يزيد ، عن أم ذرة قالت : أتيت عائشة في رمضان ، قالت : من أين جئت؟ قلت : من عند أخي حنين . قالت : ما شأنه؟ قالت : ودعته يريد يرتحل . قالت : فأقرئيه السلام ومريه فليقم ، فلو أدركني رمضان وأنا ببعض الطريق لأقمت له .
2836 - حدثنا هناد قال : حدثنا إسحاق بن عيسى ، عن أفلح ، عن عبد الرحمن ، قال : جاء إبراهيم بن طلحة إلى عائشة يسلم عليها ، قالت : وأين تريد؟ قال : أردت العمرة . قالت : فجلست حتى إذا دخل عليك الشهر خرجت فيه! قال : قد خرج ثقلي! قالت : اجلس ، حتى إذا أفطرت فاخرج - يعني شهر رمضان . [ ص: 452 ]
وقال آخرون : معنى ذلك : فمن شهد منكم الشهر فليصم ما شهد منه .
ذكر من قال ذلك :
2837 - حدثنا هناد بن السري قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق : أن أبا ميسرة خرج في رمضان ، حتى إذا بلغ القنطرة دعا ماء فشرب .
2838 - حدثنا هناد قال : حدثنا جرير عن مغيرة قال : خرج أبو ميسرة في رمضان مسافرا ، فمر بالفرات وهو صائم ، فأخذ منه كفا فشربه وأفطر .
2839 - حدثنا هناد قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق عن مرثد : أن أبا ميسرة سافر في رمضان ، فأفطر عند باب الجسر - هكذا قال هناد عن مرثد ، وإنما هو أبو مرثد .
2840 - حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال : حدثنا عبيد الله بن موسى قال : أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن مرثد : أنه خرج مع أبي ميسرة في رمضان ، فلما انتهى إلى الجسر أفطر . [ ص: 453 ]
2841 - حدثنا هناد وأبو هشام قالا حدثنا وكيع ، عن المسعودي ، عن الحسن بن سعد ، عن أبيه قال : كنت مع علي في ضيعة له على ثلاث من المدينة ، فخرجنا نريد المدينة في شهر رمضان ، وعلي راكب وأنا ماش ، قال : فصام - قال هناد : وأفطرت - قال أبو هشام : وأمرني فأفطرت .
2842 - حدثنا هناد قال : حدثنا عبد الرحيم عن عبد الرحمن بن عتبة ، عن الحسن بن سعد ، عن أبيه قال : كنت مع علي بن أبي طالب وهو جاء من أرض له ، فصام ، وأمرني فأفطرت ، فدخل المدينة ليلا وكان راكبا وأنا ماش .
2843 - حدثنا هناد قال : حدثنا وكيع - و حدثنا ابن بشار قال : حدثنا ابن مهدي - قالا جميعا ، حدثنا سفيان ، عن عيسى بن أبي عزة عن الشعبي : أنه سافر في شهر رمضان فأفطر عند باب الجسر .
2844 - حدثني ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : قال لي سفيان : أحب إلي أن تتمه .
2845 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة قال : سألت الحكم وحمادا وأردت أن أسافر في رمضان فقالا لي : اخرج . وقال حماد قال إبراهيم : أما إذا كان العشر ، فأحب إلي أن يقيم .
2846 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا أبو الوليد قال : حدثنا حماد ، عن قتادة عن الحسن وسعيد بن المسيب قالا من أدركه الصوم وهو مقيم رمضان ثم سافر ، قالا إن شاء أفطر . [ ص: 454 ]
وقال آخرون : " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " ، يعني : فمن شهده عاقلا بالغا مكلفا فليصمه .
وممن قال ذلك أبو حنيفة وأصحابه ، كانوا يقولون : من دخل عليه شهر رمضان وهو صحيح عاقل بالغ فعليه صومه ، فإن جن بعد دخوله عليه وهو بالصفة التي وصفنا ، ثم أفاق بعد انقضائه ، لزمه قضاء ما كان فيه من أيام الشهر مغلوبا على عقله ، لأنه كان ممن شهده وهو ممن عليه فرض .
قالوا : وكذلك لو دخل عليه شهر رمضان وهو مجنون ، إلا أنه ممن لو كان صحيح العقل كان عليه صومه ، فلن ينقضي الشهر حتى صح وبرأ ، أو أفاق قبل انقضاء الشهر بيوم أو أكثر من ذلك ، فإن عليه قضاء صوم الشهر كله ، سوى اليوم الذي صامه بعد إفاقته ، لأنه ممن قد شهد الشهر .
قالوا : ولو دخل عليه شهر رمضان وهو مجنون ، فلم يفق حتى انقضى الشهر كله ، ثم أفاق لم يلزمه قضاء شيء منه ، لأنه لم يكن ممن شهده مكلفا صومه .
قال أبو جعفر : وهذا تأويل لا معنى له ، لأن الجنون إن كان يسقط عمن كان به فرض الصوم ، من أجل فقد صاحبه عقله جميع الشهر ، فقد يجب أن يكون ذلك سبيل كل من فقد عقله جميع شهر الصوم . وقد أجمع الجميع على أن من فقد عقله جميع شهر الصوم بإغماء أو برسام ، ثم أفاق بعد انقضاء الشهر ، أن عليه قضاء الشهر كله . ولم يخالف ذلك أحد يجوز الاعتراض به على الأمة . وإذ كان إجماعا ، فالواجب أن يكون سبيل كل من كان زائل العقل جميع شهر الصوم سبيل المغمى عليه . وإذ كان ذلك كذلك ، كان معلوما أن تأويل الآية غير الذي تأولها قائلو هذه المقالة : من أنه شهود الشهر أو بعضه مكلفا صومه . وإذا بطل ذلك ، فتأويل المتأول الذي زعم أن معناه : فمن شهد أوله مقيما حاضرا [ ص: 455 ] فعليه صوم جميعه ، أبطل وأفسد ، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرج عام الفتح من المدينة في شهر رمضان بعد ما صام بعضه ، وأفطر وأمر أصحابه بالإفطار .
2847 - حدثنا هناد قال : حدثنا أبو الأحوص عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : " سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان من المدينة إلى مكة ، حتى إذا أتى عسفان نزل به ، فدعا بإناء فوضعه على يده ليراه الناس ، ثم شربه .
2848 - حدثنا ابن حميد وسفيان بن وكيع قالا حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه
2849 - حدثنا هناد ، حدثنا عبيدة ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن طاوس ، عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه .
285 - حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا يونس بن بكير قال : حدثنا ابن إسحاق قال : حدثني الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس قال : مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفره عام الفتح لعشر مضين من رمضان ، فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصام الناس معه ، حتى إذا أتى الكديد - ما بين عسفان وأمج - أفطر .
2851 - حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا عبدة ، عن محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس قال خرج رسول الله [ ص: 456 ] صلى الله عليه وسلم لعشر - أو لعشرين - مضت من رمضان عام الفتح ، فصام حتى إذا كان بالكديد أفطر .
2852 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا سالم بن نوح قال : حدثنا عمر بن عامر ، عن قتادة ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري قال : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم لثمان عشرة مضت من رمضان ، فمنا الصائم ومنا المفطر ، فلم يعب المفطر على الصائم ، ولا الصائم على المفطر .
فإذ كانا فاسدين هذان التأويلان ، بما عليه دللنا من فسادهما - فبين أن الصحيح من التأويل هو الثالث ، وهو قول من قال : فمن شهد منكم الشهر فليصمه ، جميع ما شهد منه مقيما ، ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر .
-------------------
وفي قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)}.
.مناسبة الآية لما قبلها:
قال البقاعي:
ولما أبهم الأمر أولًا في الأيام وجعله واجبًا مخيرًا على المطيق عين هنا وبت الأمر فيه بقوله تعالى: {شهر رمضان} لأن ذلك أضخم وآكد من تعيينه من أول الأمر. قال الحرالي: والشهر هو الهلال الذي شأنه أن يدور دورة من حين أن يهل إلى أن يهل ثانيًا سواء كانت عدة أيامه تسعًا وعشرين أو ثلاثين، كلا العددين في صحة التسمية بالشهر واحد، فهو شائع في فردين متزايدي العدد بكمال العدة كما يأتي أحد الفردين لمسماه رمضان، يقال: هو اسم من أسماء الله سبحانه وتعالى، واشتقاقه من الرمضاء وهو اشتداد حر الحجارة من الهاجرة، كأن هذا الشهر سمي بوقوعه زمن اشتداد الحر بترتيب أن يحسب المحرم من أول فصل الشتاء أي ليكون ابتداء العام أول ابتداء خلق بإحياء الأرض بعد موتها، قال: وبذلك يقع الربيعان في الربيع الأرضي السابق حين تنزل الشمس الحوت والسماوي اللاحق حين تنزل الشمس الحمل، وقال: إنه لما وقع لسابقة هذه الأمة صوم كصوم أهل الكتاب كما وجهوا إلى القبلة أولًا بوجه أهل الكتاب تداركه الإرفاع إلى حكم الفرقان المختص بهم، فجعل صومهم القار لهم بالشهر لأنهم أهل شهور ناظرون إلى الأهلة ليسوا بالمستغرقين في حساب الشمس، فجعل صومهم لرؤية الشهر وجعل لهم الشهر يومًا واحدًا فكأنهم نقلوا من صوم أيام معدودات إلى صوم يوم واحد غير معدود لوحدته، لأنهم أمة أمية {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة} [الأعراف: 142] هي ميقات أمة محمد صلى الله عليه وسلم {وأتممناها بعشر} [الأعراف: 142] هي ميقات موسى عليه الصلاة والسلام وأمته ومن بعده من الأمم إلى هذه الأمة. انتهى.
ولما كان هذا خطاب إرقاء مدحه سبحانه وتعالى بإنزال الذكر فيه جملة إلى بيت العزة وابتدئ من إنزاله إلى الأرض. قال الحرالي: وأظهر فيه وجه القصد في الصوم وحكمته الغيبية التي لم تجر في الكتب الأول الكتابي فقال: {الذي أنزل فيه القرآن} فأشعر أن في الصوم حسن تلق لمعناه ويسرًا لتلاوته، ولذلك جمع فيه بين صوم النهار وتهجد الليل، وهو صيغة مبالغة من القرء وهو ما جمع الكتب والصحف والألواح. انتهى.
وفي مدحه بإنزاله فيه مدح للقرآن به من حيث أشعر أن من أعظم المقاصد بمشروعيته تصفية الفكر لأجل فهم القرآن ليوقف على حقيقة ما أتبع هذا به من أوصافه التي قررت ما افتتحت به السورة من أنه {لا ريب فيه} [البقرة: 2] وأنه {هدى} [البقرة: 2] على وجه أعم من ذلك الأول فقال سبحانه وتعالى: {هدى للناس} قال الحرالي: فيه إشعار بأن طائفة الناس يعليهم الصوم أي بالتهيئة للتدبر والفهم وانكسار النفس إلى رتبة الذين آمنوا والمؤمنين ويرقيهم إلى رتبة المحسنين، فهو هدى يغذو فيه فقد الغذاء القلب كما يغذو وجوده الجسم ولذلك أجمع مجربة أعمال الديانة من الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه أن مفتاح الهدى إنما هو الجوع وأن المعدة والأعضاء متى أوهنت لله نور الله سبحانه وتعالى القلب وصفى النفس وقوى الجسم ليظهر من أمر الإيمان بقلب العادة جديد عادة هي لأوليائه أجل في القوة والمنة من عادته في الدنيا لعامة خلقه؛ وفي إشارته لمح لما يعان به الصائم من سد أبواب النار وفتح أبواب الجنة وتصفيد الشياطين، كل ذلك بما يضيق من مجاري الشيطان من الدم الذي ينقصه الصوم، فكان فيه مفتاح الخير كله؛ وإذا هدى الناس كان للذين آمنوا أهدى وكان نورًا لهم وللمؤمنين أنور، كذلك إلى أعلى رتب الصائمين العاكفين الذاكرين الله كثيرًا الذين تماسكوا بالصوم عن كل ما سوى مجالسة الحق بذكره.
وفي قوله: {وبينات} إعلان بذكر ما يجده الصائم من نور قلبه وانكسار نفسه وتهيئة فكره لفهمه ليشهد تلك البينات في نفسه وكونها {من الهدى} الأعم الأتم الأكمل الشامل لكافة الخلق {والفرقان} الأكمل، وفي حصول الفرقان عن بركة الصوم والذي هو بيان رتب ما أظهر الحق رتبه على وجهه إشعار بما يؤتاه الصائم من الجمع الذي هو من اسمه الجامع الذي لا يحصل إلا بعد تحقق الفرقان، فإن المبني على التقوى المنولة للصائم في قوله في الكتب الأول: {لعلكم تتقون} فهو صوم ينبني عليه تقوى ينبني عليها فرقان كما قال تعالى: {إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانًا} [الأنفال: 29] ينتهي إلى جمع يشعر به نقل الصوم من عدد الأيام إلى وحدة الشهر. انتهى.
فعلى ما قلته المراد بالهدى الحقيقة، وعلى ما قاله الحرالي هو مجاز علاقته السببية لأن الصوم مهيئ للفهم وموجب للنور، {الهدى} المعرف الوحي أعم من الكتاب والسنة أو أم الكتاب أو غير ذلك، وعلى ما قال الحرالي يصح أن يراد به القرآن الجامع للكتب كلها فيعم الكتب الأول للأيام، والفرقان هو الخاص بالعرب الذي أعرب عن وحدة الشهر. اهـ.
.مناسبة قوله تعالى: {أُنْزَّلَ فِيهِ القرآن} لما قبله:
قال الفخر:
اعلم أنه تعالى لما خص هذا الشهر بهذه العبادة بين العلة لهذا التخصيص، وذلك هو أن الله سبحانه خصه بأعظم آيات الربوبية، وهو أنه أنزل فيه القرآن، فلا يبعد أيضًا تخصيصه بنوع عظيم من آيات العبودية وهو الصوم، مما يحقق ذلك أن الأنوار الصمدية متجلية أبدًا يمتنع عليها الإخفاء والاحتجاب إلا أن العلائق البشرية مانعة من ظهورها في الأرواح البشرية والصوم أقوى الأسباب في إزالة العلائق البشرية ولذلك فإن أرباب المكاشفات لا سبيل لهم إلى التوصل إليها إلا بالصوم، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات» فثبت أن بين الصوم وبين نزول القرآن مناسبة عظيمة فلما كان هذا الشهر مختصًا بنزول القرآن، وجب أن يكون مختصًا بالصوم. اهـ.
.مناسبة قوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} لما قبله:
ولما أتم ما في ذكر الشهر من الترغيب إثر التعيين ذكر ما فيه من عزيمة ورخصة فقال: {فمن شهد} أي حضر حضورًا تامًا برؤية بينة لوجود الصحو من غير غمام أو بإكمال عدة شعبان إن كان غيم ولم يكن مريضًا ولا مسافرًا. قال الحرالي: وفي شياعه إلزام لمن رأى الهلال وحده بالصوم. وقوله: {منكم} خطاب الناس ومن فوقهم حين كان الصيام معليًا لهم {الشهر} هو المشهود على حد ما تقول النحاة مفعول على السعة، لما فيه من حسن الإنباء وإبلاغ المعنى، ويظهر معناه قوله تعالى: {فليصمه} فجعله واقعًا على الشهر لا واقعًا على معنى: فيه، حيث لم يكن: فليصم فيه؛ وفي إعلامه صحة صوم ليلة ليصير ما كان في الصوم الأول من السعة بين الصوم والفطر للمطيق واقعًا هنا بين صوم الليل وفطره لمن رزق القوة بروح من الله تعالى. انتهى.
.مناسبة قوله تعالى: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} لما قبله:
.قال البقاعي:
ولما رخص ذلك علل بقوله: {يريد الله} أي الذي لا يستطيع أحد أن يقدره حق قدره {بكم اليسر} أي شرع السهولة بالترخيص للمريض والمسافر وبقصر الصوم على شهر {ولا يريد بكم العسر} في جعله عزيمة على الكل وزيادته على شهر. قال الحرالي: اليسر عمل لا يجهد النفس ولا يثقل الجسم، والعسر ما يجهد النفس ويضر الجسم. وقال: فيه إعلام برفق الله بالأجسام التي يسر عليها بالفطر، وفي باطن هذا الظاهر إشعار لأهل القوة بأن اليسر في صومهم وأن العسر في فطر المفطر، ليجري الظاهر على حكمته في الظهور ويجري الباطن على حكمته في البطون، إذ لكل آية منه ظهر وبطن، فلذلك والله سبحانه وتعالى أعلم كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم في رمضان في السفر ويأمر بالفطر وكان أهل القوة من العلماء يصومون ولا ينكرون الفطر. انتهى.
قال الشعبي: إذا اختلف عليك أمران فإن أيسرهما أقربهما إلى الحق لهذه الآية. اهـ.
.قال ابن عاشور:
قوله تعالى: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} استئناف بياني كالعلة لقوله: {ومن كان مريضًا} إلخ. بيَّن به حكمة الرخصة أي شرع لكم القضاءَ لأنه يريد بكم اليسر عند المشقة.
وقوله: {ولا يريد بكم العسر} نفي لضد اليسر، وقد كان يقوم مقام هاتين الجملتين جملةُ قصر نحو أن يقول: ما يريد بكم إلاّ اليسر، لكنه عُدل عن جملة القصر إلى جملتي إثبات ونفي لأن المقصود ابتداءً هو جملة الإثبات لتكون تعليلًا للرخصة، وجاءت بعدها جملة النفي تأكيدًا لها، ويجوز أن يكون قوله: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} تعليلًا لجميع ما تقدم من قوله: {كتب عليكم الصيام} [البقرة: 183] إلى هنا فيكون إيماء إلى أن مشروعية الصيام وإن كانت تلوح في صورة المشقة والعسر فإن في طيها من المصالح ما يدل على أن الله أراد بها اليسر أي تيسير تحصيل رياضة النفس بطريقة سليمة من إرهاق أصحاب بعض الأديان الأخرى أنفسهم. اهـ.
.مناسبة قوله تعالى: {وَلِتُكَبّرُواْ الله على مَا هداكم} لما قبله:
ولما كان العظيم إذا يسر أمره كان ذلك أجدر بتعظيمه قال: {ولتكبروا} والتكبير إشراف القدر أو المقدار حسًا أو معنى- قاله الحرالي. وقرن به الاسم الأكبر لاقتضاء المقام له فقال: {الله} أي الذي تقف الأفهام خاسئة دون جلاله وتخضع الأعناق لسبوغ جماله لتعتقدوا عظمته بقلوبكم وتذكروها بألسنتكم في العيد وغيره ليكون ذلك أحرى بدوام الخضوع من القلوب. قال الحرالي: وفيه إشارة إلى ما يحصل للصائم بصفاء باطنه من شهود ما يليح له أثر صومه من هلال نوره العلي، فكما كبر في ابتداء الشهر لرؤية الهلال يكبر في انتهائه لرؤية باطنه مرأى من هلال نور ربه، فكان عمل ذلك هو صلاة ضحوة يوم العيد، وأعلن فيها بالتكبير وكرر لذلك، وجعل في براح من متسع الأرض لمقصد التكبير لأن تكبير الله سبحانه وتعالى إنما هو بما جلّ من مخلوقاته، فكان في لفظه إشعار لما أظهرته السنة من صلاة العيد على اختصاصها بتكبير الركعتين والجهر لمقصد موافقة معنى التكبير الذي إنما يكون علنًا. انتهى.
ومن أعظم أسراره أنه لما كان العيد محل فرح وسرور وكان من طبع النفس تجاوز الحدود لما جبلت عليه من الشره تارة غفلة وتارة بغيًا أمر فيه به ليذهب من غفلتها ويكسر من سورتها، ولما كان للوترية أثر عظيم في التذكير بالوتر الصمد الواحد الأحد وكان للسبعة منها مدخل عظيم في الشرع جعل تكبير صلاته وترًا وجعل سبعًا في الأولى لذلك وتذكيرًا بأعمال الحج السبعة من الطواف والسعي والجمار تشويقًا إليها لأن النظر إلى العيد الأكبر أكثر وتذكيرًا بخالق هذا الوجود بالتفكر في أفعاله المعروفة من خلق السماوات السبع والأرضين السبع وما فيهما في الأيام السبع لأنه خلقهما في ستة وخلق آدم في اليوم السابع يوم الجمعة، ولما جرت عادة الشارع بالرفق بهذه الأمة ومنه تخفيف الثانية على الأولى وكانت الخمسة أقرب وترًا إلى السبعة من دونها جعل تكبير الثانية خمسًا لذلك، ولأنه لما استحضرت عظمة الخالق بإشارة الأولى للعلم بأنه المتفرد بالعظمة والقهر والملك بجميع الأمر فأقبلت القلوب إليه وقصرت الهمم عليه أشير بتكبير الثانية إلى عبادته بالإسلام المبني على الدعائم الخمس وخصوصًا بأعظم دعائمه الصلوات الخمس- والله سبحانه وتعالى الموفق. اهـ.
.مناسبة قوله تعالى: {عَلَى مَا هَدَاكُمْ} لما قبله:
ولما كانت الهداية تطلق تارة على مجرد البيان وتارة عليه مع الحمل على لزوم المبين وكان تخفيف المأمور به وتسهيله أعون على لزومه قال: {على} أي حامدين له على {ما هداكم} أي يسر لكم من شرائع هذا الدين فهيأكم للزومها ودوام التمسك بعراها، ولعل هذا سر الاهتمام بالصيام من الخاص والعام حتى لا يكاد أحد من المسلمين يخل به إلا نادرًا- والله سبحانه وتعالى الموفق.
وقال الحرالي: إن الهداية إشارة إلى تلك الموجدة التي يجدها الصائم وما يشهده الله من بركاته من رؤية ليلة القدر بكشف خاص لأهل الخلوة أو آيات بينة لأهل التبصرة أو بآية بادية لأهل المراقبة كلًا على حكم وجده من استغراق تماسكه وخلوته واستغراق ذكره في صومه، فأعظم الهدى هدى المرء لأن يذبل جسمه ونفسه وتفنى ذاته في حق ربه، كما يقول: «يدع طعامه وشرابه من أجلي» فكل عمل فعل وثبت إلاّ الصوم فإنه محو وفقد، فناسب تحقيق ما هو الإسلام والتقوى من إلقاء منة الظاهر وقوة الباطن. انتهى.
.مناسبة قوله تعالى: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} لما قبله:
ولما كان الشكر صرف ما أنعمه المنعم في طاعته وكان العمل إذا خف أقرب إلى لزوم الطاعة بلزومه ولو ثقل لأوشك أن يعصي بتركه قال: {ولعلكم تشكرون} أي ولتكونوا في حالة يرجى معها لزوم الطاعة واجتناب المعصية. وقال الحرالي: فيه تصنيف في الشكر نهاية كما كان فيه تصنيف للتقوى بداية، كما قال: {ولعلكم تتقون} فمن صح له التقوى ابتداء صح منه الشكر انتهاء؛ وفي إشعاره إعلام بإظهار نعمة الله وشكر الإحسان الذي هو مضمون فرض زكاة الفطر عن كل صائم وعمن يطعمه الصائم، فكان في الشكر إخراجه فطره بختم صومه واستقبال فطره بأمر ربه وإظهار شكره بما خوله من إطعام عيلته، فلذلك جرت فيمن يصوم وفيمن يعوله الصائم. انتهى.
.من أقوال المفسرين:
.قال الفخر:
في الآية مسائل:
.المسألة الأولى: معنى الشهر:
الشهر مأخوذ من الشهرة يقال، شهر الشيء يشهر شهرة وشهرا إذا ظهر، وسمي الشهر شهرًا لشهرة أمره وذلك لأن حاجات الناس ماسة إلى معرفته بسبب أوقات ديونهم، وقضاء نسكهم في صومهم وحجهم، والشهرة ظهور الشيء وسمي الهلال شهرًا لشهرته وبيانه قال بعضهم سمي الشهر شهرًا باسم الهلال.
والله تعالى أعلم
رد: { نبدأ صباحنا أو مساءَنا بآية كريمة أو حديث مع ضوء وتفسير}
- القول في كظم الغيظ -
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
قال الله تعالى في معرض بيان صفات المتقين : ( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) {آل عمران:134}، قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره: وكظم الغيظ رده في الجوف يقال كظم غيظه أي سكت عليه ولم يظهره مع قدرته على إيقاعه بعدوه... والغيظ أصل الغضب.. انتهى.*
وقال ابن كثير رحمه الله: أي إذا ثار بهم الغيظ كظموه بمعنى كتموه فلم يعملوه... فتبين من هذا أن الكاظمين الغيظ هم الذين لا يعملون غضبهم في الناس، بل يكفون عنهم شرهم ويحتسبون الأجر عند الله تعالى، وقد ورد في فضل كظيم الغيظ أيضاً ما رواه أحمد وابن ماجه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من جرعةٍ أعظم أجراً عند الله من جرعة غيظ كظمها عبد ابتغاء وجه الله. والحديث صححه الألباني وشعيب الأرناؤوط.
وروى أبو داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره الله من الحور العين ما شاء. والحديث حسنه الألباني وشعيب الأرناؤوط.
والله أعلم.
_____________________
- لطائف حول الآية الكريمة -
علي بن الحسين: **
حُكيَ أنَّ جارية كانت تصبُّ الماء لعلي بن الحسين، فسقط الإبريق من يدها على وجهه فشجَّه، أي: جرحه، فرفع رأسه إليها، فقالت له: إنَّ الله يقول: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ فقال لها: قد كظمت غيظي. قالت: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ قال لها: قد عفوت عنك. قالت: وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 134]، قال: اذهبي فأنت حرَّة لوجه الله.
عمر بن عبد العزيز:
(غضب يومًا عمرُ بن عبد العزيز، فقالَ لهُ ابنُه: عبدُ الملكِ رحمهما الله: أنتَ يا أميرَ المؤمنين مع ما أعطاك الله وفضَّلك به تغضبُ هذا الغَضَب؟ فقال له: أو ما تغضبُ يا عبدَ الملك؟ فقال عبد الملك: وما يُغني عنِّي سعةُ جوفي إذا لم أُرَدِّدْ فيه) (1) .
(وأسمعه رجل كلامًا، فقال له: أردتَ أن يستفزني الشيطان بعزِّ السلطان، فأنال منك اليوم ما تناله مني غدًا، انصرف رحمك الله) (2) .
دخل عمر بن عبد العزيز المسجد ليلة في الظلمة، فمرَّ برجل نائم فعثر به، فرفع رأسه وقال: أمجنون أنت؟ فقال عمر: لا. فهمَّ به الحرس، فقال عمر: مه، إنما سألني أمجنون؟ فقلت: لا (3) .
المهدي:
(قيل: غضب المهدي على رجل، فدعا بالسياط، فلمَّا رأى شبيب شدَّة غضبه، وإطراق الناس، فلم يتكلموا بشيء، قال: يا أمير المؤمنين، لا تغضبنَّ لله بأشد مما غضب لنفسه. فقال: خلُّوا سبيله) (4) .
عبد الله بن عون:
(روي عن القعنبي قال: كان ابن عون لا يغضب، فإذا أغضبه رجل قال: بارك الله فيك) (5) .
(وكان لابن عون ناقة، يغزو عليها ويحجُّ، وكان بها مُعجبًا. قال: فأمر غلامًا له أن يستقي عليها، فجاء بها وقد ضربها على وجهها، فسالت عينها على خدها، فقلنا: إن كان من ابن عون شيء فاليوم! قال: فلم يلبث أن نزل، فلما نظر إلى الناقة قال: سبحان الله، أفلا غير الوجه، بارك الله فيك اخرج عني، اشهدوا أنه حرٌّ) (6) .
________________________
* لمزيد من الفائدة : https://fatwa.islamweb.net/fatwa/inde...twaId&Id=80731
** لمزيد من الفائدة : [url]https://dorar.net/enc/akhlaq
رد: { نبدأ صباحنا أو مساءَنا بآية كريمة أو حديث مع ضوء وتفسير}
- القول في حمل الوزر -
{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}
ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى لما كان ما قبل هذه الآية مسوقا في غرض التهديد وكان الخطاب للناس أريدت طمأنة المسلمين من عواقب التهديد ، فعقب بأن من لم يأت* وزرا لا يناله جزاء الوازر في الآخرة قال تعالى ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا ، وقد يكون وعدا بالإنجاء من عذاب الدنيا إذ نزل بالمهددين الإذهاب والإهلاك مثلما أهلك فريق الكفار يوم بدر وأنجي فريق المؤمنين ، فيكون هذا وعدا خاصا لا يعارضه قوله تعالى واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة وما ورد في حديث أم سلمة قالت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم إذا كثر الخبث .
فموقع قوله ولا تزر وازرة وزر أخرى كموقع قوله تعالى حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فننجي من نشاء ولا يرد بأسنا [ ص: 288 ] عن القوم المجرمين ، ولهذا فالظاهر أن هذا تأمين للمسلمين من الاستئصال كقوله تعالى وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون بقرينة قوله عقبه إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب ، وهو تأمين من تعميم العقاب في الآخرة بطريق الأولى ويجوز أن يكون المراد : ولا تزر وازرة وزر أخرى يوم القيامة ، أي إن يشأ يذهبكم جميعا ولا يعذب المؤمنين في الآخرة ، وهذا كقول النبيء - صلى الله عليه وسلم - ثم يحشرون على نياتهم .
والوجه الأول أعم وأحسن . وأيا ما كان فإن قضية ولا تزر وازرة وزر أخرى كلية عامة فكيف وقد قال الله تعالى وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم في سورة العنكبوت ، فالجمع بين الآيتين أن هذه الآية نفت أن يحمل أحد وزر آخر لا مشاركة له للحامل على اقتراف الوزر ، وأما آية سورة العنكبوت فموردها في زعماء المشركين الذين موهوا الضلالة وثبتوا عليها ، فإن أول تلك الآية وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم ، وكانوا يقولون ذلك لكل من يستروحون منه الإقبال على الإيمان بالأحرى .
وأصل الوزر بكسر الواو : هو الوقر بوزنه ومعناه . وهو الحمل بكسر الحاء ، أي ما يحمل ، ويقال وزر إذا حمل . فالمعنى : ولا تحمل حاملة حمل أخرى ، أي لا يحمل الله نفسا حملا جعله لنفس أخرى عدلا منه تعالى لأن الله يحب العدل وقد نفى عن شأنه الظلم وإن كان تصرفه إنما هو في مخلوقاته .
وجرى وصف الوازرة على التأنيث لأنه أريد به النفس .
ووجه اختيار الإسناد إلى المؤنث بتأويل النفس دون أن يجري الإضمار على التذكير بتأويل الشخص ، لأن معنى النفس هو المتبادر للأذهان عند ذكر الاكتساب كما في قوله تعالى ولا تكسب كل نفس إلا عليها في سورة الأنعام وقوله كل نفس بما كسبت رهينة في سورة المدثر ، وغير ذلك من الآيات ثم نبه على أن هذا الحكم العادل مطرد مستمر حتى لو استغاثت نفس مثقلة في الأوزار من ينتدب لحمل أوزارها أو بعضها لم تجد من يحمل عنها شيئا ، لئلا يقيس الناس الذين في الدنيا أحوال الآخرة على ما تعارفوه [ ص: 289 ] فإن العرب تعارفوا النجدة إذا استنجدوا ولو كان لأمر يضر بالمنجد . ومن أمثالهم " لو دعي الكريم إلى حتفه لأجاب " وقال وداك ابن ثميل المازني :
إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم لأية حرب أم بأي مكان
ولذلك سمي طلب الحمل هنا دعاء لأن في الدعاء معنى الاستغاثة .
وحذف مفعول " تدع " لقصد العموم . والتقدير : وإن تدع مثقلة أي مدعو .
وقوله " إلى حملها " متعلق بـ " تدع " ، وجعل الدعاء إلى الحمل لأن الحمل سبب الدعاء وعلته . فالتقدير : وإن تدع مثقلة أحدا إليها لأجل أن يحمل عنها حملها ، فحذف أحد متعلقي الفعل المجرور باللام لدلالة الفعل ومتعلقه المذكور على المحذوف .
وهذا إشارة إلى ما سيكون في الآخرة ، أي لو استصرخت نفس من يحمل عنها شيئا من أوزارها ، كما كانوا يزعمون أن أصنامهم تشفع لهم أو غيرهم ، لا تجد من يجيبها لذلك .
وقوله ولو كان ذا قربى في موضع الحال من " مثقلة " ، و " لو " وصلية كالتي في قوله تعالى فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به في سورة آل عمران .
والضمير المستتر في " كان " عائد إلى مفعول " تدع " المحذوف ، إذ تقديره : وإن تدع مثقلة أحدا إلى حملها كما ذكرنا ، فيصير التقدير : ولو كان المدعو ذا قربى ، فإن العموم الشمولي الذي اقتضته النكرة في سياق الشرط يصير في سياق الإثبات عموما بدليا .
ووجه ما اقتضته المبالغة من " لو " الوصلية أن ذا القربى أرق وأشفق على قريبه ، فقد يظن أنه يغني عنه في الآخرة بأن يقاسمه الثقل الذي يؤدي به إلى العذاب فيخف عنه العذاب بالاقتسام .
[ ص: 290 ] والإطلاق في القربى يشمل قريب القرابة كالأبوين والزوجين كما قال تعالى يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه .
وهذا إبطال لاعتقاد الغناء الذاتي بالتضامن والتحامل فقد كان المشركون يقيسون أمور الآخرة على أمر الدنيا فيعللون أنفسهم إذا هددوا بالبعث بأنه إن صح فإن لهم يومئذ شفعاء وأنصارا ، فهذا سياق توجيه هذا إلى المشركين ثم هو بعمومه ينسحب حكمه على جميع أهل المحشر ، فلا يحمل أحد عن أحد إثمه . وهذا لا ينافي الشفاعة الواردة في الحديث ، كما تقدم في سورة سبأ ، فإنها إنما تكون بإذن الله تعالى إظهارا لكرامة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ولا ينافي ما جعله الله للمؤمنين من مكفرات الذنوب كما ورد أن أفراط المؤمنين يشفعون لأمهاتهم ، فتلك شفاعة جعلية جعلها الله كرامة للأمهات المصابة من المؤمنات .
-------------------------------
* لمزيد من الفائدة : https://vb.3dlat.net/showthread.php?t=150703
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأما عن تفسير الآية فقد جاء في تفسير البغوي: قال المفسرون: من شأنه أن يحيى ويميت، ويرزق، ويعز قوما، ويذل قوما، ويشفي مريضا، ويفك عانيا ويفرج مكروبا، ويجيب داعيا، ويعطي سائلا ويغفر ذنبا إلى ما لا يحصى من أفعاله وإحداثه في خلقه ما يشاء ...اهـ *
وبهذا يعلم جواز ما ذكرت في السؤال وجواز الاستدلال بالآية عليه.
وأما عن قولك: كيف نرد على الذين يقولون إنه قد قدر الأقدار كلها وانتهى.
فجوابه أنه لاتعارض بين الأمرين. فالله تعالى قدر مقادير الأشياء قبل خلقها كما أخرجمسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله قدر مقادير الأشياء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء. وفي سنن أبي داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أول ما خلق الله القلم، فقال له اكتب، قال: وما أكتب يا رب، قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة.
وهوسبحانه وتعالى كل يوم في شأن يخلق ويبرز للوجود ما قدر خلقه من المقادير السابقة، فقد ذكر أهل العلم أن مراتب الإيمان بالقدر أربع، الأولى: العلم: فإنه سبحانه يعلم ما كان وما سيكون وما هو كائن وما لم يكن لو كان كيف يكون، لا يخفى عليه من ذلك صغيرة ولا كبيرة. والمرتبة الثانية: هي الكتابة فإنه سبحانه قد سجل كل ما كان وما سيكون من أحوال وأفعال وحركات وسكنات في كتاب عنده. والمرتبة الثالثة: المشيئة والإرادة، فكل ما يقع في الكون إنما هو بمشيئة الله وإرادته. والمرتبة الرابعة: الخلق حيث يخلق الله تعالى ما شاء خلقه في الوقت الذي قدره سبحانه وتعالى.
والله أعلم.
___________________
* لمزيد من الفائدة : https://fatwa.islamweb.net/fatwa/inde...waId&Id=165855
قال الشيخ أبو بكر الجزائري:
أي: تظهر لكم جوابًا لسؤالكم يَحصُل لكم بها ما يسوءُكم ويضرُّكم، ﴿ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ ﴾ [المائدة: 1011]؛ أي: يبيِّنها لكم رسولُنا الكريم، أما أن تسألوا عنها قبل نزول القرآن بها، فذلك ما لا يَنبغي لكم من باب إحفاء رسول الله وأذيته، ثم قال: ﴿ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا ﴾ [المائدة: 1011]؛ أي: لم يُؤاخذكم بما سألتم، ﴿ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [المائدة: 101]، فتوبوا إليه يتُبْ عليكم[2]، واستغفروه يغفر لكم ويرحمكم؛ فإنه غفور رحيم.
وقوله: ﴿ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ [المائدة: 102]؛ أي: قد سأل أسئلتَكم التنطُّعية المحرِجة هذه قومٌ من قبلكم، ﴿ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 102][3]؛ لأنهم كُلِّفوا ما لا يطيقون وشقَّ عليهم؛ جزاء تعنُّتِهم في أسئلتهم لا نياتهم، فتَركوا العمل بها فكفَروا.
وفي الآية دليلٌ على كراهة السؤال لغير حاجة، وفي صحيح مسلم: ((إن الله حرَّم عليكم عقوقَ الأمَّهات، ووأدَ البنات، ومَنعًا وهات، وكَرِهَ لكم ثلاثًا: قيلَ وقال، وكثرةَ السؤال، وإضاعةَ المال))[4].
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في هذه الآية الكريمة:
هذا تأديبٌ من الله تعالى لعباده المؤمنين ونهيٌ لهم عن أن يَسألوا عن أشياء مما لا فائدةَ لهم في السؤالِ والتنقيب عنها؛ لأنَّها إن ظهرَت لهم تلك الأمور ربَّما ساءتهم وشقَّ عليهم سماعُها.
قال البخاري رحمه الله تعالى: عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: كان قومٌ يسألون رسول الله استهزاءً، فيقول الرَّجل: مَن أبي؟ ويقول الرجل تضِلُّ ناقتُه: أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ... ﴾ [المائدة: 1011]، وظاهر الآية النهيُ عن السؤال عن الأشياء التي إذا عَلِم بها شخص ساءته، فالأَولى الإعراض عنها وتركُها.
وفي الصحيح: ((ذَروني ما تركتكم؛ فإنما هلكَ مَن كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلاِفهم على أنبيائهم))[5]، وفي الحديث الصحيح: ((إن الله تعالى فرَضَ فرائضَ فلا تضيِّعوها، وحدَّ حدودًا فلا تعتَدوها، وحرَّم أشياء فلا تنتَهِكوها، وسكَت عن أشياءَ رحمةً بكم غيرَ نسيان، فلا تَسألوا عنها))[6].
ثم قال تعالى: ﴿ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 102]؛ أي: قد سأل هذه المسائلَ المنهيَّ عنها قومٌ من قبلكم، فأُجيبوا عنها ثم لم يُؤمنوا بها فأصبَحوا كافرين؛ أي: بسببها؛ أي: بُيِّنَت لهم فلم يَنتفعوا بها؛ لأنهم لم يَسألوا على وجه الاستِرشاد، بل على وجه الاستِهزاء والعناد[7].
قال المُناويُّ في التعليق على هذا الحديث:
"أي: اترُكوني من السؤالِ ((ما تركتُكم))؛ أي: مدَّة تركي إياكم من الأمر بالشيء والنهي عنه، فلا تتعرَّضوا لي بكثرة البحث عمَّا لا يَعنيكم في دينكم، مهما أنا تارككم لا أقول لكم شيئًا، فقد يوافق ذلك إلزامًا وتشديدًا، وخذوا بظاهر ما أمرتكم، ولا تستكشفوا كما فعل أهل الكتاب..."[8].
[1] أشياء: ممنوعة من الصرف (أي لا تنون) كحمراء وصفراء.
[2] بعد انقطاع الوحي أمن الناس من نزول ما قد يَسوء، ومع هذا فإن سؤال التنطُّع والتعنُّت مكروهٌ دائمًا، وفي الحديث: ((مِن حُسن إسلام المرء تركُه ما لا يَعنيه)) أيسر التفاسير؛ الجزائري.
[3] ومن أمثلة ذلك سؤالُ قوم صالح الناقةَ، وقومِ عيسى المائدةَ، وفي الآية تحذيرٌ للمؤمنين أن يقعوا فيما وقع فيه غيرُهم، فيَهلِكوا كما هلَكوا، وقال صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ أعظم المسلمين جرمًا مَن سأل عن شيء لم يُحرَّم على المسلمين، فحُرِّم عليهم من أجلِ مسألتِه))؛ متفق عليه.
[4] أيسر التفاسير؛ الجزائري ج1 ص 371.
[5] أيسر التفاسير؛ الجزائري ج1.
[6] رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه رحمهم الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ ص. ج رقم 34300.
[7] تفسير ابن كثير رحمه الله تعالى.
[8] صحيح الجامع الصغير وزيادته للألباني (في التعليق على الحديث).
-------------------------------
* لمزيد من الفائدة :