رد على مداخلة الأستاذ عواد الشقاقي
سيدة النبع الأستاذة عواطف عبد اللطيف
لؤلؤة النبع الشاعرة المتألقة سفانة بنت الشاطىء
آل النبع الكرام جميعاً
السلام عليكم
بداية إذا أردنا تسليط الضوء على نص ما أو محاكمته بنيوياً فهناك عدة مستويات للنقد يمكننا من خلالها ان نحاكم النص أو حتى نسلط الضوء عليه بصورة انطباعية موضوعية منها النقد التركيبي والدلالي والصوتي والبلاغي والمعجمي ، غير أننا اليوم بصدد تسليط الضوء على نص الشاعر محمد سمير ( المرأة الصامتة ) بقراءة ووجهة نظر انطباعية محضة .
ولكي تكون هذه القراءة شبه مفصلة وشاملة لابد من المرور على بنية القصيدة من ناحية الشكل والصياغة
القصيدة من ناحية البناء تجري على تشكيل الكامل التام وقد جاءت الأشطر فيها مختلفة الأطوال من ناحية عدد التفعيلات على سبيل الإيقاع والنغم الذي جاءت به القوافي ( قبور ، حضور ، فتور ، زهور ، بحور ، صخور ، جسور ، بذور ، عيون ، الجدار ، الدثار ........ ألخ ) مما ولّدت ظرفاً عروضياً أحاط بالشاعر فجعلت القصيدة غير متناسقة ولا متساوية بعدد التفعيلات ، فعلى سبيل المثال جاءت القافية الأولى ( القبور ) بعد ( 8 ) تفعيلات وجاءت الثانية ( حضور ) جاءت بعد ( 6 ) تفعيلات والثالثة ( فتور ) جاءت بعد ( 9 ) تفعيلات ........ ألخ
وهذه الأطوال غير المتناسقة والمفرطة بعدد التفعيلات في بعض الأشطر خرجت عن القاعدة العروضية للقصيدة الحرة مما أدت إلى أن جعلت القارىء يركض لاهثاً وراء المعنى مما يولّد حالات الإجهاد لدى المتلقي والتي غالباً ما تؤدي إلى عزوف القارىء عن إتمام قراءة القصيدة بعد إصابتهم بالملل .. فلو نقرأ المقطع التالي
هل تذكرين ؟
كم مرة أوصلت بعض رسائلي لزميلةٍ
وعلمت فيما بعد أني قد قطعت علاقتي
والقلب أصبح خاوياً
أو لم تكوني تجرُئين على الدخول إلى العرين ؟
هنا إنتهت الجملة الشعرية في هذا المقطع بتمام المعنى فيها .. ولو قمنا بإحصاء عدد التفعيلات في هذه الجملة نجده ( 15 تفعيلة ) وهذا كما ذكرت سلفاً يلقي بظلال سلبية على النص لدى القارىء حيث أنه سيشعر بالإجهاد من طول الجملة وصولاً إلى المعنى.
وهذه الأخطاء العروضية هي شائعة ومألوفة لدى شعرائنا المعاصرين إلا عند الشعراء المعروفين ممن يكتبون القصيدة ذات الشطرين لما يمتلكوه من أذن شعرية مرهفة تمج أي خروج عن القاعدة العروضية وكذلك قواعد العروض نفسها تنكر على الشعر الحر طول الأشطر المفرط وغير المتناسق .. أقول هذا مع تقديري للأستاذ الشاعر محمد سمير
...........................
((
قصيدة التفعيلة منذ أيام الرواد كالسياب ونازك والبياتي ودرويش ،أخذت شكلها الفني كقصيدة تكتب على أحد البحور الصافية وهي التي تتكرر نفس التفعيلات فيها ،وقد أعتبر خضوع عدد التفعيلات (للدفق الشعري عند الشاعر)أحد أساسيات هذه القصيدة .فلا يؤخذ على الشاعر طول النفس الشعري في الشعر التفعيلي خصوصاً إذا كان الشاعر متمكناً من لغته وصوره الشعرية وعاطفته الدفاقة ،بل بالعكس قد يستمتع المتلقي وهو يقرأ قصة مثل قصة المرأة الصامتة ، ولإثبات وجهة نظري يرجى الرجوع إلى درة شعر السياب (أنشودة المطر ) لنرى طول الدفق الشعوري لديه ،وما زلنا نستحضرها ونستشهد بها .وفي هذه القصيدة وفي كل قصائدي ألجأ إلى (تدوير)الأسطر ولا أفضل تسكين أواخر الأسطر إلا لضرورة فنية .وهذا لا يستطيع عمله أي شاعر تفعيلة .كما أنني لا أستسيغ تسمية طول عدد التفعيلات ب(الأخطاء العروضية) لأنها ببساطة ليست أخطاءً عروضية )).
................................
وبعد كل ذلك ودخولاً إلى عمق النص ومحاورته دلالياً إبتداءً من الألفاظ وما تحمله من معانٍ تنسجم وموضوع النص إلى التراكيب البلاغية وما تحملها من بيان واستعارات وصور شعرية وما تشي به من مكنة فنية لدى الشاعر ومقدرة ومهارة لغوية يستطيع من خلالها إيصال المعنى للمتلقي بسلاسة وخلق حالة النشوة والدفء والتفاعل لديه ، نبدأ بعتبة النص الأولى ((المرأة الصامتة ))
هذا العنوان الصادم والمكهرب بهزة شعورية داخلية ، يبعث لدى المتلقي من الوهلة الأولى إلى تساؤلات عدة حول الأسباب التي أدت إلى أن يتخذ النسق الشعري عنواناً لقصيدة شعر وهو امرأة في حالة صمت ، مما يبعث بعد ذلك على حالة من الرغبة الشديدة والإغراء لدى المتلقي للبحث والتقصي عن أسباب هذا الصمت بعد ترسخ مسبق في الأذهان أن المرأة والصمت يشكلان ثنائية على مستوى العمل الأدبي تؤكد أن هناك حتماً عملاً وصناعة شعرية بامتياز ..
فالعنوان هنا علامة رمزية تحمل بين تركيبها اللغوي إشارات ورموز تبين مدى إمكانية الشاعر من خلق عتبته النصية واللعب على المتلقي إلى حد بعيد لغرض تهيئته نفسياً وشعورياً إلى الدخول إلى عمق النص ..
من ربعِ قرنٍ
تحملين جنين حبي
بين أضلعك التي تحيا بصمت
بين سكان القبور
من هنا استطاع المتلقي الدخول إلى الأجواء التي وقف طويلاً ومتنظراً أمام عتبة النص لغرض التمكن من الدخول إليها ولم يستطع بعد التوتر الشعوري الذي حصل لديه نتيجة البحث والتقصي في عنوانه في كيفية هذا الدخول ..
وعند الوهلة الأولى من الدخول تبدأ عملية مسح سريعة في ذهنية هذا المتلقي ولخمس وعشرين سنة من الحمل الذي رافقه ( بصورة بديهية يلمسها المتلقي ) حالات من المخاض العسير للولادة في ظل تراكمات وإرهاصات من مشاعر الشوق واللهفة والمشاعر الساخنة حد الغليان والتي تحمل إشارات الموت والنزع من داخل قلب الحبيبة والتي تحيط بهذا الوليد وقد لوّحتْ بكل ذلك للمتلقي ، المفردة المنتقاة وحسن التعبير ومكنة الشاعر المتألقة للإيحاء بأنه ( الحب ) الذي كان قيد الأسر والتمنُّع من البوح به لأسباب لم تزل مجهولة حتى أنهكته تلك السنوات الخمس والعشرين العجاف وأخذت من ملامح جمال الروح والجسد مأخذاً ترك آثاراً من الحسرة واللهفة ومشاعر الإحباط واليأس في إمكانية الولادة من جديد وبعث الحياة والأمل..
وأتيتِ عند الأربعين
لكي تبوحي – ياجبانة – بعدما
ظهرت علينا كلَّ أعراض الكهولة والفتور
لِمَ لمْ تبوحي حين كنتُ أزوركم ؟
ما كان يفصل بيننا عند المبيت سوى الجدار
لو كنت أعلم كنت قد
أحدثت خرقاً بالأظافر في الجدار
من هنا نجد أن المتلقي قد حلّق في سماوات من النشوة والمتعة بعد أن استطاع النفاذ إلى أعماق النص وتمكنه من محاورة دلالاته والاستمتاع ببلاغة ألفاظه وماتكتنزه الجمل الشعرية من بديع التصوير وألوان المشاعر والعاطفة الجياشة
لو كنت أعلم كنت قد
أحدثت خرقاً بالأظافر في الجدار
وأكثر من ذلك حينما أدرك المتلقي مدى معاناة الحبيبين طيلة ربع قرن من الحرمان من التواصل واللقاء الذي يجمع بين قلبين كانا لو حصل وتحقق هذا اللقاء لحامت فوق رؤوسهم فراشات السعادة والهناء ولأصبحت الحياة حولهما روضة تشع نوراً وتفيض عطراً وماء.. وأيقن أيضاً بأن الشاعر هو من عاش هذه التجربة بكل تفاصيلها على اعتبار أنه قرأ نصاً ولم يقرأ قصة النص التي سردها الشاعر محمد سمير ، وهذه تحسب للشاعر لما أفاض عليها من العاطفة والأحاسيس الحارة وعايش مواقفها ببراعة الأسلوب ودقة التعبير
أسفي على تلك السنين
الضائعات
الممحلات
الحاملات
أسىً .. وحرماناً يذيب حشاشة القلب الحزين
رغم النضوج .. أنا وأنت الآن نبدوا نادمين
كمن يصّفُ في أريحا
أو كمن رقصت على درج السلالم
وما تعكسه حالة ( الأسف هذه على السنين الضائعات ) من عمر الحبيبين دون أن يفصح كلٌ منهما مشاعره تجاه الآخر وبالتالي ضياع العمر بكامله والعيش بالحرمان من بعضهما البعض لما تمثله هذه السنين من فترة الشباب التي تمثل إزدهار الحياة أمامهم وأجمل سنين العمر .. هذه الجملة الشعرية التي حملت بين ثناياها سيلاً متدفقاً من المشاعر والعاطفة الجياشة وقد وفِّقَ فيها الشاعر ونجح أن جعل النص ينبض بالحياة والجمال ..
لكن ما يحسب على الشاعر هنا هو الإخفاق في حالة التشبيه من ناحيتين
الأولى – عندما شبه الشعور بحرارة ومرارة الندم وهو ماحاصل فعلاً في الزمن الماضي نتيجة الـ ( 25 سنة ) من البعد والحرمان ، بمن يصِّيف في أريحا المدينة الساخنة الأجواء في فصل الصيف وهنا جاءت حالة التصييف شبه افتراضية لأنها جاءت بصيغة الفعل المضارع ( يصيّف ) الذي هو لزمن المستقبل أي أن وجه الشبه لم يحصل فعلاً وكأنه افترض الندم ، وهنا التشبيه فقد واقعيته ولكن لوجاء الفعل ( يصيف ) بصيغة الماضي لكان التشبيه مستوفياً شروطه مع صورة رائعة
الثاني – تشبيه الندم بمن رقصت على درج السلالم وهذا بالحقيقة كسر ظهر الصورة في الجملة الشعرية لأنه تشبيه بسيط لم يكوّن صورة شعرية بليغة ومثيرة كما الأولى ، وعليه فإن حذفه يكون رد اعتبار للصورة الشعرية والنص بالكامل
...........................
((
عندما يلجأ الشاعر إلى الأمثال الشعبية أو الأساطير التراثية فإنه يعني ذلك ويخطط له حتى يوضح الصورة أكثر ويقربها للمتلقي ،وذكر المثل الشعبي يعتبر بمثابة ظلال ألوان توضع على اللوحة الفنية من أجل تقريب الفكرة إلى ذهن المتلقي ، فالمثلان السابقان الدارجان في بلادنا (كمن يصيف في أريحا ) أو (كمن رقصت على درج السلالم) ينطبقان مئة بالمئة على الحالة ،وعادة نطلقهما على أي حدث يحدث في غير محله أو زمانه ،فالتصييف في فلسطين يكون في رام الله حيث أسكن ،وأريحا هي مشتى فلسطين ،وللمتلقي أن يقارن الحالتين ،فامرأة تعترف بحبها له بعد 25 سنة وبعد أن بلغا سن الأربعين هو فعلاً حدث في غير زمانه ، وامرأة تعترف بحبها لرجل متزوج (ومخلف دستة عيال ) هو حدث في غير مكانه .
أعتقد أنني وفقت في ذلك أخي عواد))
.........................
لم يبق من عمري وعمرك
ما يساوي ما انقضى
جملة شعرية تضج بالعاطفة ومشاعر الشوق والحنين والحسرة والحرقة على ما فات ومن الصعب عودة الزمن إلى الوراء وتعويض سني الحرمان
لكن شِعري سوف يبقى
صفحةً ذهبيةً
من لون شَعرِك
ضمن سفر الخالدين
خاتمة من أروع ما يمكن في التصوير وبلاغة التركيب والاستعارة عندما صوّر الشاعر الشِعر تعبيراً عن حالة الحب والتغزل بحبيبته الذي يتصل بلون شَعَر حبيبته الذهبي من ناحية كون عادة الشعر الذهبي يكون متموج وكذلك الشعور لدى الشاعر في شِعره يكون متموج ومنساب في قلب الشاعر المحب .. مما يبدع لنا وصفاً مذهلاً وذلك بأسلوب لطيف ووصف جميل وبلاغة بأن هذا الحب سيبقى خالداً في ضميرهما وإلى الأبد
وافر احترامي لكم
.......................
أشكرك أخي الحبيب الأستاذ عواد الشقاقي
عن هذه المداخلة النقدية الرائعة
وأنا أحترم وجهة نظرك رغم بعض الإختلاف
محبة لا تنضب أبداً