لا شك أن بمقدور الحب أن يجعل من الأشياء الخاوية التافهة ضئيلة القيمة أشياء ثمينة ذات بهاء ورونق.
فالحب لا ينظر بالعين بل بالفؤاد، ولذا صوّر الناس كيوبيد المجنّح أعمى معصوب العينين. كذلك فإن العقل فى الحب ينقصه سداد الرأى،
وما معنى الجناحين مع فقدان البصر إلا التسرع الأهوج. وما وُصِف الحب بأنه طفل إلا لأنه كالطفل مخدوع فى اختياره.
إن النفس الإنسانية دغل كثيف.. غابة.. كهف تختبئ فيه الأفاعى.. وفيه أيضاً إلى جوار الأفاعى.. الكنوز واللآلئ النادرة.
وأنا لا أعتقد بوجود نفوس عادية.. وأعتقد بأن كل نفس موهوبة.. وإنما هى تصبح عادية حينما يغفل صاحبها عن اكتشاف هباتها..
ويضل الطريق إليها.. ولا يكلف نفسه مشقة البحث وعناء الاختبار.
إنها الحرية إذن مفتاح الشقاء الإنسانى.. وهى أيضاً مفتاح اللذة.. وبالحرية وللحرية نتعذب ونعانى..
ونتخبط بين السكك والمذاهب.. ونخوض الحروب والمجازر والمذابح.. ونمشى فى الدم.. ونمرض ونشيخ ونموت..
وتتحول حياتنا إلى نزال وحركة دائبة لا تهدأ.. وأى تكاليف لا تردّنا عن طلب الحرية.. وأى ضريبة لا تروّعنا.. وأى خسارة لا تخيفنا..
وأى عذاب لا يضعفنا.. فنحن نحب حريتنا أكثر مما نحب سعادتنا.. لأن حريتنا هى شرط وجودنا.. جوهر وجودنا.. حقيقتنا.. لذتنا العميقة.
بالحرية نكون أنفسنا.. وبدونها لا نكون شيئاً.
اتركى لى وصية على شكل خارطة، أتبعها إليكِ كلما أوغلت فى البلادة.. اتركى لى رقم غيمة،
ارسمى الطريق على جبينى بإصبعك الواهنة هذه وسأتذكره حتماً،
أعطينى أى شىء منكِ يضىء باتجاهك يوماً ما.. لا تمرقى هكذا، اتركى لى تعويذة تطرد لعنات الوجوه من بعدك..
لقد تعبتُ لنكون معاً، اجعلينا نبقَ معاً فى الخلف هناك، لا أريد أن تكونى شفقاً وأكون تراباً، لا أريد أن تكونى ترتيلاً وأكون صمغاً،
لا أريد أن تكونى موسماً وأكون مجرد تذكرة! إنى أختار أن أكون معك، خبيئينى.. وسألتزم الصمت حتى نعبر.
وليست المعونة الصادقة هى المعونة التى تدخل فى رقابة العُرف أو فى رقابتك أنت بينك وبين صديقك،
ولكنها المعونة التى لا حسيب عليها غير الضمير، ولا باعث لها غير اتفاق الهوى وامتزاج الشعور.
كثير من الأصدقاء يعينون أصدقائهم فى الضيق لأن العرف يحمد لهم هذه المعونة ويتخذهم مثالاً للأمانة والوفاء وجميل الفداء.
وكثير من الأصدقاء يعينون المرء على الشئون التى يشعر هو بمعونتهم أو بتقصيرهم فيها،
لأنه يحمد لهم ما صنعوا ويجزيهم بما أسلفوا ويرد لهم ما أقرضوا.
أما الشئون التى لا رقابة عليها للمرء ولا للعرف فالمعينون عليها أقل من القليل.
إن المتعصب هو إنسان قد اختار بإرادته أن يعطل عقله ويوقفه عن التفكير واستقبال المؤثرات المختلفة
وأن يشل قدرته على استكشاف وجه الصواب فى آراء الآخرين والاستفادة بها.. فكيف أحترم من يهتم بغذائه وشرابه وملابسه
ثم لا يهتم بتلقيح عقله بآراء الآخرين، أو من ليس قادراً على التنازل عن رأيه إذا ثبت له خطؤه،
أو من ليس قادراً على الفصل بين الأشخاص وبين آرائهم التى يختلف معها فيحاور أفكارهم ويقبلها أو يرفضها بغير أن يرفض هؤلاء الأشخاص أو ينقص احترامه لهم.
لم تكن إلا وهماً.. طيفاً صنعته من أبخرة الحلم.. ورغبة ترقد تحت أهداب العين تهيأت لى فى صورة امرأة..
مجرد أمنية عذبة راودتنى ذات ليلة صيف، على شاطئ البحر،
الذى يملك ذاكرة سحرية مليئة بالأساطير والحضارات الميتة وعرائس البحر الوهمية، وجزر الأحلام الكاذبة..
امرأة رأيتها فى مرايا النوم، وصنعت منها حبيبة تضىء بجمال عينيها ظلمة النفق الذى لا نهاية له.
إن أطفالكم ما هم بأطفالكم؛
فلقد ولدهم شوق الحياة إلى ذاتها،
بكم يخرجون إلى الحياة، ولكن ليس منكم
وإن عاشوا فى كنفكم فما هم مِلكُكُم
قد تمنحونهم حبكم ولكن دون أفكاركم،
فلهم أفكارهم.
ولقد تئوون أجسادهم لا أرواحهم؛
فأرواحهم تسكن فى دار الغد، وهيهات أن تلمّوا به، ولو فى خطرات أحلامكم.
وفى وسعكم السعى لتكونوا مثلهم، ولكن لا تحاولوا أن تجعلوهم مثلكم؛
فالحياة لا تعود القهقرى، ولا هى تتمهل عند الأمس.
كانت الشوارع ملاجئى.. ولا يمكن لإنسان أن يفهم فتنة الشوارع إلى أن يضطر إلى اللجوء إليها،
إلى أن يغدو قشة تذروها زفرة من الريح إلى هنا وهناك.
اندثر عالمى الذى يقطنه الآدميون، وبت وحيداً تماماً فى العالم واتخذت من الشوارع أصدقاء،
وتحدثت الشوارع إلىّ بتلك اللغة الحزينة المريرة المؤلفة من البؤس، والشوق، والندم والفشل، والجهد المهدور الإنسانى.
وكنت وحيداً أمام الصخرة يتخللنى الشلال بأصواته وألوانه، لم يكن سوانا، ولم يكن غير الهدير الأبدى،
وقد عدنا إلى لحظة الخلق قبل ملايين السنين عندما لم يكن هناك بشر ولا حيوان،
عندما سحق النهر تلك الصخور التى تحبس مجراه ليتحرر شلالاً يبعث صرخة الصخر وصرخة الأرض لتلك النجوم والمجرات البعيدة التى انفصلت عنها،
نداء الأرض لأن تعود إلى رحم الكون الذى فارقته، وكنت لحظتها والشلال واحداً، يهدر قلبى معه، ننادى معاً، لا نريد تلك العزلة والبعد، نريد أن نعود، أن نعود.