لم أعرف أن اللؤلؤ يسكن فى الأعماق.. وأن الشطئان المهجورة لا تحمل غير بقايا العشاق!
والعشق تميمة أيامى..
أيامى طافت بكل فيافى الأرض المجهولة.. عاشت كل حكايا الأمس.. رشفت كل كئوس الصبر.. غزلت كل شباك الصيد.. لكنها لم تعثر يوماً على لؤلؤتى المفقودة.
هذا تابوتك - أوراقك وأقلامك، موتى كتابة إذن! هذه هى ميتتك القادمة..
الموت خنقاً بالكلمات؟ رمياً بالقصائد؟ ضرباً بالقوافى؟
ستغرقين داخل بياض الصفحة وتغيبين.. لن يفتقدك العالم..
كونى الرواية، انتشرى كما الألم فى القلب، كما السم فى البدن، كما النار فى هشيم المحتضر!
انتشرى وليسمعك العالم تجأرين فى جحيمك، انشرى جرحك للشمس حتى يرى الكون ضخامته وغلظته،
جففى دموعك فى قصائد وخبئيها فى علب الهدايا وامنحيها مجانية للعالم.. كونى الأحجية، كونى السؤال،
كونى الألم المشاع يتسرطن فى جسد الأرض وينتشر فى أثير السماء
اكتبى وكونى القصيدة الملغزة، كونى الأغنية الحزينة، كونى حلم البكاء يستعصى ويتعذر.. اكتبى..
كونى الناى.. كونى الأوتار المشدودة إلى جذع العالم.. كونى شيفرة النشيج.. كونى الربابة تبكى.. كونى البكاء المستحيل!
ليتنى أستطيع أن أسد منافذ قلبى أمام هذه الأشياء، كل يوم يتسلل منها الكثير إلى قلبى اللاهث،
عانيت لسنوات من هذه الثغرة القلبية المكشوفة أمام جرثومة البكاء، تعبت جداً من كثرة ما أغلقتها كل ليلة،
كما يغلق الرعاة أكواخهم ليلة الريح، ولكنى أتخاذل دائماً أمامها، وأفتحها بنفسى،
آمنت أنه من الصعوبة على مثلى أن يتخذ قراراً كهذا، قراراً بألا يبكى، كم هى محرجة الوعود التى كنت أقطعها أمام شحوبى فى المرآة،
ألا أعاود العَبَث بالدموع ليلة أخرى.
يكون القارب أكثر أمناً حين يكون بالمرفأ، لكنه لم يُصنع لهذا السبب.
حين يغلق الرب باباً، يفتح نافذة
دائماً ما تكون المسافة إلى قمة الجبل أطول مما نظن، فمن المحتم أن تأتى لحظة نكتشف فيها أن ما بدا قريباً ما زال بعيداً.
حين نواجه شيئاً يهددنا حقاً، من المستحيل أن ننظر حولنا، بالرغم من أن هذا آمن شىء لنفعله وأكثر شىء منطقى.
لا تعنى الشجاعة غياب الخوف، لكنها تعنى القدرة على ألا تدع هذا الخوف يشلك.
إذا انتبهنا جيداً، سندرك أنه ليس هناك يوم يشبه الآخر، وأن كل صباح يجلب معه هبة خفية.
فى أرضى التى اقتطعتُها
من مسرح الأفاعى
رحابِ البوار والضباعِ
بنيتُ بيتاً من عروقى وضلوعى
بيدىّ حرثتها
وبذورى زرعتها
مستجلباً لها الماء الشحيح
عبر القفار والبرارى
غيرَ باغى
فوارغ المجد المقامِ
على الفراغِ
ولكن من رحاب الشوك والضباعِ
يرجمون البيت بالحجارِ
وثمارى يجنونها بالعصىِّ
متسللين فى الليل مع الأفاعى
غير أنى بيدى، بذراعى
أصدُّ زواحف الجدب حولى،
أقى القلب فى الإنسان من الضياعِ
والحقائق العالية تقصر دون بلوغها الحروف والعيون والآذان.. وإنما خلقت الحروف للتعبير عن أشتات العالم المادى وجزيئاته، وهى مجرد رموز ومصطلحات ونظائر لما نرى حولنا من شجر وحصى ورمل وبحر وتلال ووديان وجبال.. أما عالمنا الداخلى.. وسماواتنا الداخلية.. وسرائرنا العميقة.. فتقصر دونها الحروف ولا تصورها كلمات..
وكلما كان شعورنا حميماً، وكلما كان حبنا متغلغلاً فى شغاف القلب مالكاً ناصية السر، ساكناً لب الفؤاد عجز اللسان وتضعضعت الكلمات وتقطعت العبارات.
هذه الطمأنينة العجيبة! العالم العجيب الموشى بالأساطير الحقيقية. عالم الحب. عالم الحب والنبالة. مطهر النفوس الملوثة ومربع جماحها. انقذف فى اتساع الوجود، فى نور السموات والأرض. اغتسل، انبثق من كهوف الذات البشرية. إنها ثورة الإنسان. الثورة العظمى ضد الخيانة وعنف الشجار وجليد اليأس.
إن الليل هو عالم النفس، وأما النهار فهو عالم العيون والأسماع والأبدان.
إننا بالنهار جزء صغير من العالم الواسع الكبير، ولكن العالم الواسع الكبير كله جزء من مدركاتنا حين ننظر إليه بالليل، وهو فى غمرة السبات أو فى غمرة الظلام.
ذلك النجم البعيد الذى تلمحه بالليل هو منظور من منظوراتك ووجود منفرد بك أمام وجودك!
ذلك الصمت السابغ على الكون هو شىء لك أنت وحدك رهين بما تملأه به من خيالك وفكرك، ومن ضميرك وشعورك.
تلك المدينة الصاخبة التى نضيع فيها إذا أضاءتها الشمس هى شبح مسحور يلقيه رصد الليل تحت عينيك، وهى ضائعة كلها إذا لم تأخذها فى حوزة نفسك، ومجال بصرك.
فإذا كان من الضرورى أن نكسر الأشياء المغلقة لكى نعرف ما فى داخلها ففى الحب ليس هذا ضرورياً.. فبين المحبين لا توجد قشور..
ولا توجد أعماق.. فكل ما عند المحبين أعماق قريبة.. ملموسة.. مرئية.. ولذلك فأنا لا أحتاج إلى أن أمزق حبيبى لأرى جلده،
ولا أن أمزق جلده لأرى قلبه، ولا أن أكسر قلبه لأسمع دقاته.. إننى فى داخله فى كل لحظة، وهو يتكلم بلسانى، ويرى بعينى،
ويخفق بقلبى، ويتخيل بعقلى، ويمشى على ساقى.. ويرانى دنياه، وأراه دنيتى.. فنحن معاً دنيا لاثنين.. وفى الوقت نفسه نحن - رغم ذلك - اثنان مختلفان
فالحب كلهيب المدفأة التقليدية يحتاج لكى يظل يتراقص دائماً إلى أن نلقى إليه من حين إلى آخر بقطع جديدة من الخشب
فإذا توقفنا عن ذلك اعتماداً على قوة اللهب وحدها ظل اللهب عالياً إلى أن يستنفد مخزونه القديم ثم يخفت شيئاً فشيئاً إلى أن ينطفئ
ويظل دافئاً لفترة ومستعداً لأن يتأجج من جديد إذا استدركنا الأمر ومنحناه دفعة أخرى، أما إذا أهملناه للنهاية فإنه يفقد دفئه
ويصبح رماداً بارداً قد يستحيل إشعاله من جديد، والحب الصادق باستمرار أكثر قدرة على مقاومة هذا المصير،
وأكثر استعداداً لأن يرتفع لهيبه ويتراقص مرة أخرى مع كل بادرة صغيرة تلقى إليه.