لا تخلد إلى الراحة حتى وإن أرخت سدائل جفونها، تظل ما بين الأمل وانحناءة الأيام وشحوب السنوات تحلم أن تحقق وعداً،
تكسر حواجزها لتتوالد المحاولات، لعل الجدار السميك ينهار، لعل البحر يضيق، يدفأ الرمل، يصير فراشاً يحتويها هازجاً بالندى.
لكن السنوات لا ترأف بالحلم، تسرقه ثمرة ثمرة، لا تنتظر عسر الولادات المؤجلة.
يجب أن تكون فينا زهرة لم تُرو، وجوع لم يشبع، ورغبة لم تُنل، وصيحة لم تسمع..
بهذا نستطيع أن نكون جديرين حقاً بالحكمة والتمييز، خليقين بفهم القلب الإنسانى ومخاطبته،
قديرين على أن نحمل إليه العزاء، ورسالات السماء.
وهل ينال العفو امرؤ يحتفظ بثمار جرمه؟
فى عالمنا هذا الذى يتمشى الفساد فى جميع مسالكه.. ربما استطاع الغنى الآثم أن يحوّل العدل عن مجراه.. وكثيراً ما رأينا الهدية الدنسة تشترى ذمة القضاء..
لكن الأمور لا تجرى فى السماء على هذا المنوال.. هناك لا تجدى الحيل ولا الألاعيب.. بل يبدو الجرم فى صورته الصريحة.. ونلزم أنفسنا على مواجهة خطايانا.. وعلى الاعتراف بما اقترفناه.
بعد ذلك ماذا عسانى أصنع؟ هل أبتغى الوسيلة بالندم؟ وأى إثم لا يمحوه الندم؟ ومع ذلك ما جدوى الندم لمن لا يستطيع أن يندم؟ فيا ويلى من شقى تعس، وويل لقلبى المظلم ظلمة الموت، ولروحى التى وقعت فى الشراك، تحاول الخلاص فلا تزداد إلا قيداً، أنجدينى يا ملائكة السماء، حاولى أن تخلصينى! واركعا أيتها الركبتان العنيدتان..
ويا أيها القلب الفولاذى الأوتار، كن رقيقاً ناعماً كأنك عضلات طفل حديث الولادة، عسى أن يأتى الخير.
المدخل دائماً لأى عمل أكتبه يمثل لى هماً بطول سور برلين وحاجزاً لكلماتى كجدار عازل يجعل الأفكار من خلفه متصارعة كدبابير مزعجة، الأفكار كثيراً ما نعتقد أنها بعيدة عنا ولكنها فى الحقيقة تسكننا وفى نفس الوقت نلهث دوماً لكى نصطادها فى دواخلنا!
إننى أحب هذه الحياة حباً لا تكلف فيه وأريد أن أتكلم عنها بحرية: إنها تمنحنى كبريائى لكونى إنساناً.
ومع ذلك، ما أكثر ما قيل لى: لا شىء يدعو للفخر. بلى، ثمة ما يدعو إلى ذلك: هذه الشمس، هذا البحر،
قلبى المتوثب بالشباب، جسدى بما فيه من طعم الملح، والمدى اللامحدود الذى يلتقى فيه الحنان والمجد فى الصفرة والزرقة.
فلأقف قوتى وطاقتى على تحقيق ذلك.. كل شىء هنا يتركنى بكراً، فأنا لا أتخلى عن شىء من ذاتى،
ولا أتحجب بأى قناع: يكفينى أن أتعلم بصبر علم الحياة الصعب الذى يفوق كل فنون الحياة.
فى كل كائن وفى كل شىء على السواء تتعايش الظلمات والنور وتتشابك.. فلُبّ الثمرة التى تخضمونها يغذّى جسدكم،
بيد أن مذاقها الطيّب وعطرها ولونها تغذى نفسكم. و(النور) الكائن فيكم يتغذّى بالجمال والمعرفة ففكروا بتغذيته من غير انقطاع،
ولا تكتفوا بإتخام الجسد. وحواسكم منذورة لتلقف الجمال ولمسه واستنشاقه وتذوقه والإصغاء إليه وتأمله..
إن حواسكم الخمس مصافى (نور).. فقدموا إليها العطور والأنغام والألوان.
تحاول كل هذه التفاصيل القاتلة أن تنسينى المكان الذى رأيت فيه النور لأول مرة.. تتوه من الذاكرة أول حصاة رميتها فى شقاوة الطفولة الأولى.
أنزل من البيت، أتسكع فى المدينة الكبيرة، أمشى بدون هدف، أبحث عن أى ذريعة للتسكع.. حتى جئت إلى هنا.. فأدركت أنه فى هذا المكان،
يمكننى أن ألمس تعاسة الذين تؤرقنى حيواتهم ومصائرهم.
كنت أحاول الخروج من جلدى، والتحديق فى الآخرين والمرئيات والأشياء.. حتى أحاول صيانة روحى من اليأس وحماية قلبى من التحجّر.
ذو الوجهين منافق، وذو الوجه الواحد ميت!
يعيب الإنسان أن يصنع له نفساً ووجهاً غير وجهه، وأن يبدو للناس بوجهين يلعن أحدهما الآخر، ويعلم هو أنهما - كليهما - ملعونان.
ولا يعيبه أن يكون له مائة وجه ينمّ كل منها على سمة من سماته ومعنى من معانيه، ويعرض لنا من ذهنه وسليقته وقلبه فى ساعة ما ليس يعرضه فى ساعة أخرى. لأن كل وجه من هذه الوجوه حق وليس بكذب، وجوهر وليس بطلاء، وصفحة من كتاب لا تتم قراءته إلا باستعراض جميع الصفحات.
ذو الوجهين فى كل وجه من وجهيه كذب وطلاء.
وذو الوجوه المنوعة السمات.. المعددة الملامح.. المفرقة المعانى، راوية صادق الخبر يرينا كل يوم بينة جديدة على صدقه ولوناً جديداً من تمامه ونقصه، ونفساً جديدة فى تعبير جديد.
والرجل الذى لا تختلف له صورة من صورة ولا تمثال من تمثال هو جماد يختلس عنوان الحياة.