قلما نجد مثيلها في أمة من الأمم في ذلك الزمن. كما أنه أرسى لنا بناء القصيدة وأوزانها وقواعد اللغة العربية وبلاغتها. إنه تاريخنا يجب علينا أن نعتزبه، فليس من الوفاء أن نوصمه بالجهل.
إن هذا الشعرفي ذلك العصر مرجعنا في مختلف قضايانا الشعريه والأدبية واللغوية، وهو ديوان العرب في تلك الحقبة من الزمن، وكذلك مرجعنا في تفسير كثير من معاني كلمات القرآن الكريم، فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما لما سئُل عن معنى الأية الكريمة:
"يوم يكشف عن ساق ويُدعون إلى السجود فلا يستطيعون" (القلم 42)
قال: إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر فإنه ديوان العرب أما سمعتم قول الراجز:
صـــبراً عنا ق إنه شـر بــاق
قد سن لي قومك ضرب الأعناق
وقــامـة الحرب بنا على ســاق
وفي التفسير: كشف الساق يراد به الشدة في البلاء، وقد كانوا إذا ابتلوا بشدة كشفواعن الساق.
وعن محمد بن سلاَّم الجمحي صاحب طبقات فحول الشعراء قال: "ما عُرض لابن الخطاب أمر إلا واستشهد فيه بالشعر."وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال " أفضل صناعات الرجل الأبيات من الشعر يقدمها في حاجته، يستعطف بها قلب الكريم، ويستميل فؤاد اللئيم"
وقال أيضاً " الشعر جزل من كلام العرب تسكن به ثائرتهم، ويطفأ غيظهم ويبلغ بها القوم في ناديهم، ويعطى به السائل" .
وقال أبوهلال العسكري:"لا تعرف أنساب العرب وتواريخها وأيامها ووقائعها إلا من جملةأشعارها، فالشعر ديوان العرب وخزانة حكمتها ومستنبط آدابها ومستودع علومها."
إذا لم نعرف هؤلاء الشعراء الذين كانوا قبلنا لما عرفنا مثل هذا الشعر الراقي في معناه لغة ً وأدباً، وحكماً وأمثالاً، لذلك ليس من الإنصاف والوفاء أن نوسم هذا الشعرالعظيم الذي حفظ لنا تاريخنا في ذلك الزمن بالجهل، وإذا كان في نظر البعض أن هذه التسمية تليق به فلماذا نتعلم الطيش والنزق ونكتبه في كتبنا وندرسه لطلابنا في مدارسنا وجامعاتنا. وإذا كان لابد لنا من هذا النعت فهل ننعت الكرم في ذلك العصر ونقول الكرم الجاهلي والوفاء بالعهد الوفاء الجاهلي وما شابه ذلك من الشجاعة والمروءة والأمانة. وقد قرأتُ لأحد الكتاب قوله "لابد لنا أن نستمر على هذه التسمية فقد اقتدى عليها آباؤنا السلف والخلف" ، فنقول فهل يا ترى نكون مثل ما قال الأولون "إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون."
يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " كان الشعر علم قوم ولم يكن لهم علم أصح منه "
هناك في ذلك العصر مكارم أخلاق ووفاء بالعهد و شهامة وشجاعة كما سجلها لنا التاريخ وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق". ومما يروى عنه صلى الله عليه وسلم أن سفانة بنت حاتم الطائي وقد وقعت في الأسر في إحدى الغزوات وعندما عرفتّه بأبيها أنه كان كريماًً في ذلك العصر قال لها يا جارية هذه صفات المؤمن حقاً لو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه، فقال لأصحابه خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق والله يحب مكارم الأخلاق.
ومن أهمية اللغة العربية في ذلك العصر أن القرآن الكريم لم ينزل بلغة قريش وحدها وإنما نزل بلغة أكثر القبائل العربية ليتحداهم بما لديهم من قوة البلاغة في اللغة و الخطابة والشعر وبأن يأتوا بآية من مثله،
وكلامنا هذا بصدد الشعر واللغة العربية ومكارم الأخلاق في ذلك العصر شعراً كان أم خطابة أم نثراً وليس بصدد الديانات والحكم بغير ما شرعه الله ورسوله والتقاليد الوثنية السائدة في ذلك العصر. ونؤكد ذلك بما قاله سيد قطب – رحمه الله – في كتابه في ظلال القرآن " فالجاهلية كما يصفها الله و يحدد قرآنه هي حكم البشر للبشر لأنها هي عبودية البشر للبشر والخروج من عبودية الله ورفض ألوهية الله والاعتراف في مقابل هذا الرفض بالوهية البشر وبالعبودية لهم من دون الله.
ويتابع قوله: إن الجاهلية ليست فترة من الزمان ولكنها وضع من الأوضاع هذا الوضع يوجد بالأمس، ويوجد اليوم، ويوجد غداً، فيأخذ صفة الجاهلية المقابلة للإسلام، مناقضة للإسلام....فالعبودية لغير الله جرّتهم الى كل الضلالات السابقة وتحكيم الأهواء والعادات والتقاليد، وهي بناءً على ذلك تعني مفهوم الضلالات والسفه والطيش وتحكيم العادات والتقاليد بعيداً عن منهج الله في السياسة والاقتصاد والعقائد والحياة الاجتماعية .. وعدم تحكيم شرع الله."
ويقول الدكتور شوقي ضيف في كتابه: تاريخ الأدب العربي: "... وقد أخذت (يعني كلمة الجاهلية) تطلق على العصر القريب من الإسلام أو بعبارة أدق على العصر السابق له مباشرة وكل ما فيه من وثنية وأخلاق قوامها الحمية والأخذ بالثأرواقتراف ماحرمه الدين الحنيف من موبقات."
إذن لم يكن العرب بتلك السلبية التي تتبادر إلى الذهن بمجرد ذكر الجاهلية ويظهر ذلك جلياً في خطب أكثم بن صيفي وعمرو بن كلثوم، وعامر بن الضراب وغيرهم، وفي كثير من أشعار شعراء تلك الحقبة من الزمن حيث تؤكد هذه الخطب وهذه الأشعار بأن للعرب نفوساً كبيرة وأذهاناً بصيرة وحنكة خبيرة ومعارف واسعة أكثرها من نتاج قرائحهم وثمار تجاربهم كما تشهد هذه الآراء والحكم على عمق نظرتهم السياسية والاجتماعية والإنسانية.
إننا عندما نقرأ كثيراً من شعر ذلك العصر نجد فيه من الوصف للشهامة و المروءة والأمانة والعفة ومكارم الأخلاق والوفاء بالعهد بالإضافة الى الحكمة والشجاعة وقوة بلاغة وإتقان اللغة العربية مما نعتز به أكثر مما نجده في كثير من أشعارنا وفي مؤلفاتنا في هذه الأيام والأمثلة على ذلك كثيرة لا حصر لها. فمن الأشعار التي تُعبِّر عن مظاهر الإيمان والأخلاق الحميدة التي أمرنا بها الإسلام قول عمرو بن كلثوم في إحدى قصائده:
فلا العزِّى أدين ولا ابنتيها
ولا صنمي بني طسم أديرُ
أربّاً واحد اً أم ألف رب
أدين إذا تقسمت الأمـور
ولكن أعـبد الرحمن ربي
ليغفر ذنبي الرب الغفور
فتقوى الله ربكم احفظوها
متى ما تحفظوها لا تبورا
ويقول أوس بن حُجر:
وباللأت والعزى ومن دان دينها
وبالله إن الله منهن أكبرُ
ويقول ورقة بن نوفل:
بدينـك ربـاً ليس رباً كمثله
وتركك جنات الجمال كما هيا
وإدراكك الدين الذي قد طلبته
ولم تــك توحــيد ربك ساهيا
أدين لرب يستجيب ولا أرى
أدين لم لا يسمع الدهر داعيا
أقول إذا صليت في كل بيعة
تباركت قد أكثر باسمك داعيا
ويقول النابغة الذبياني:
ولما وقاها الله ضربة فأسه
وللـبّر عـين لا تغمَّض ناظره
فقال تعالي نجعل الله بيننا
على ما لنا أو تنجزي ليَ آخره
فقالت معاذ الله أفـعل إنـني
رأيتك مسحورا يمينك فاجره
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لوفد غطفان الذين قدموا عليه من الذي يقول:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ً
وليس وراء الله للمرء مذهبُ
قالوا: نابغة بني ذبيان، فقال لهم:
فمن قائل هذه الأبيات:
أتيتك عارياً خلقاً ثيابي
على وجلٍ تظن بي الظنونُ
فألفيت الأمانة لم تخنـها
كذلك كان نوحٌ لا يخونُ
قالوا: هو النابغة، قال: هو أشعر شعرائكم.
وقال لبيد بن ربيعة العامري:
ألا كل شىء ما خلا الله باطل
وكل نعيم لا محالة زائلُ
وكل امرىء يوماً سيعلم سعيه
إذا كشفت عند الإله الخصائل
وقال أيضاً:
ما عاتب المرءَ الكريم كنفسه
والمرءُ يصلحه الجليس الصالح
وقال عدي بن زيد العبادي:
كفى واعظاً للمرء أيام دهـره
تروح به الواعظات و تغتذي
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
فكـلُ قرين بالمقارن يقــتدي
فإن كان ذا شرٍ فجــانبه سرعةً
وإن كان ذا خير ٍ فقاربه تهــتدي
إذا ما رأيت الشر ينعت أهـله
و قام جناة الشر بالشر فأقــعد
وكذلك نرى عنترة يعطينا دروساً أخلاقية تربوية في الشجاعة والعفة والمروءة، نرى من خلالها شخصية المعلم المربي، فيقول:
أغشى فتاة الحي عند حلـيـلـها
وإذا غزا في الحرب لا أغشاها
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي
حتى يواري جـارتي مأواها
إني أمـرؤ سمح الخلـيقة ماجدٌ
لا أتبع النفس اللجـوج هواها
ويقول:
أبصرتُ ثمُّ هويتُ ثم كتمتُ ما ألقى
ولم يعلم بذاك مـناجـي
فوصلتُ ثم قدرتُ ثم عففتُ
من شرفٍ تناهى بي إلى الانصاج
ويقول أيضاً:
لئن أك أسوداً فالمسك لوني
وما لسواد جلـدي من دواءٍ
ولكنْ تبعـد الفحشا ء عـنـي
كبعد الأرض عن جو السماء
ويقول الشنفرى هذه الأبيات الرائعة التي تنم عن منتهى العفة واحترام المرأة لا كما ينا دي به شعراء المرأة هذه الأيام:
لِقَدْ أَعْجَبَتْنِي لا سُقُوطاً قِناعُها
إذا مامَشَتْ ولا بِذاتِ تلفتِ
تبِيتُ بُعَيْدَ النَّومِ تُهْدي غُبُوقَها
لجارا تها إذا الهد ية قلـت
كأ ن لها في الأرضِ نَسْياَ تَقُصَّهُ
على أمِّهـا وإ ن تُكلمك تبْلُتِ
أُميمَةُ لا يُخْزي نثاها حَليْلَها
إذا ذُكرالنِّسوانُ عفََّّتْْ وجَلَّتِ
تبيتُ بمنجا ة عن اللوم بيتها
إذا ما بيوت بالملامة حلت
إذا هو أمسى آب قرة عينه
فآب السعيد لم يسل أين ظلت
فدّقَّت وجَلَّت واسبكرَّت وأُكْمِلت
فلَوْ جُنَّ إنْسانٌ من الحُسْنِ جنّت
إن هذا الشعر الرائع العفيف بعيد كل البعد عن معنى كلمة " الجاهلية "
و نعجب عند ما نرى امرئ القيس في ذلك العصر يأتي في شعره من أحوال أهل الجنة
وما فيها من نعيم مخلّد فيقول في إحدى قصائده:
الأعم صباحاُ أيها الطلل البالى
وهل يعمن من كان في العصر الخالي
وهل يعـمن إلا ســعـيد ٌ مخــلدٌ
قليل الهموم ما يبيت بأوجال
ويقول:
الله أنجح ما طلبت به
والبر خير حقيبة الرجل
ويقول الأعشى:
فلا تحسبنّي كافراً لك نِعمةً
على شاهدي ، يا شاهد الله فأشهد
ويقول عروة بن الورد العبسى، أمير الصعاليك في ذلك العصر يخاطب رجلاً ثريا بخيلاً فخر عليه بماله وضخامة جسده:
إني امرؤ عافي إنائي شركة
وأنت امرؤ عافي إناؤك واحـدُ
أقسِّم جسمي في جسوم كثيرة
و أحسو قراح الماء والماء بارد
أتهزأُ مني أن سمنتَ و أن ترى
بجسمي مسَّ الحق والحق جاهد
عن عبدالملك بن مروان قال من أجل هذه الأبيات: ما سرّني أن أحداً من العرب ممن ولدني. لم يلدني إلا عروة بن الورد لقوله هذه الأبيات.
انتهى.