صورة البطل في رواية «الصهبة» لمحمد جبريل
-----------------------------
صورة «منصور سطوحي» في رواية «الصهبة» لمحمد جبريل
بقلم: أ.د. حسين علي محمد
..........................
(1)
«منصور سطوحي» بطل رواية «الصهبة» (1990م) طالب بكلية العلوم، لم يختر الكلية، وإنما اختارها له أبوه صاحب السلطة الأبوية القاهرة. الذي يُريد أن يكون ابنه نسخة منه.
والقارئ للرواية يُلاحظ ـ على امتداد صفحاتها ـ أن الأب تعمّقت في داخله مفاهيم «السيطرة الأبوية» عن طريق القهر والقوة، وهو يريد إلغاء الطرف الآخر وإقصاءه ـ الذي هو ابنه ـ .
ويموت الأب، ولكن الأم تحاول أن تُذكِّر «منصور سطوحي» بسطوة أبيه دائماً، وتستحضر جبروته الخفي حتى يظل حاضراً في صفحات الواقع المعيش.
لقد هجر «منصور سطوحي» كلية العلوم ـ التي اختارها أبوه، والتي لم يحبها هو في بومٍ ما ـ ويُريد أن يُدير المكتبة التي تركها أبوه، واستمر إغلاقها تسعة أشهر بعد وفاته، كما يود أن يغير اللافتة، ولكن أمه ترفض.
ويلتقي «منصور سطوحي» في المقهى ـ الذي يقضي فيه أمسياته ـ ببدر المنشاوي (الموظف بأرشيف الحقانية)، وجابر محجوب (ميكانيكي سيارت بشارع قبو الملاح)، وحسن الهُن (بقصر ثقافة الأنفوشي).
يسمع «منصور سطوحي» من صديقيه طقوس «الصهبة»: «إن المرأة التي لا تُنجب، والتي يشق عليها الإنجاب تقف في المزاد، حتى يُرفع النقاب فيزول العقم»(1).
نادت الصهبة البطل «منصور سطوحي» فاستجاب لها، ودخل المزاد، وفاز به، وكانت طقوس «الصهبة» التي نظّمت هذا الاحتفال الحاشد تفرض على «منصور سطوحي» بعد رفع النقاب أن يمضي بالمرأة خطوات، ثم يتركها. ولكنه نسي هذه الطقوس حينما رفع النقاب فرأى المرأة جميلة:
«الوجه كان كالجنة، ليست من السيالة ولا بحري، ولا من الحياة نفسها، كأنها تنتمي إلى عالم السحر الذي يجوس داخله»(2).
ويفقد «منصور» المكبوت دائماً من أبيه ـ قدرته على السيطرة على ذاته، فيقيل المرأة في ثغرها، ويطوقها بساعدي الحنين فلا تستطيع فكاكاً منه، ويخيم الوجوم ـ الممزوج بالدهشة المُباغتة ـ على المتفرجين الذين كانوا يُشاركون في طقوس «الصهبة» ، ولكنهم لا يُحاولون أن يمنعوه من فعلته الشنعاء التي ارتكبها، أو أن ينتزعوا المرأة من بين أحضانه، وحين يفوق من غاشية السحر التي أصابته يتراجع إلى الخلف، فيفسحون له الطريق، ويترك الساحة إلى شارع «حداية».
«تراجع إلى الخلف فأفسحوا لـه الطريق. عدّل من وقفته وسار إلى الأمام فانفرجت اللمة الصامتة، سار بخطوات متثاقلة كأنه يجر خوف الحياة كلها .. بدت المسافة من منتصف الساحة إلى أول شارع «حداية» بعيدة، أو أنها المستحيل. ماذا يفعلون لمن يُخالف ما توارثوه؟ ولماذا تركوه حتى أنهى ما فعل؟ ومن أين تأتي الضربة المُقبلة؟»(3).
لقد قلب طقس «الصهبة» حياة «منصور سطوحي» رأساً على عقب «فهو يعيش ـ منذ هذه اللحظة ـ حياة المُطارَد الذي لا يدري من أين ستأتيه الضربة المنتظرة؟. إن الشك بدأ يسم حياته وحس التهديد الخفي لا يُبارحه، وفي أحلامه تزوره هذه المرأة المجهولة ، فتلاقيه في الميناء الشرقية مرتدية الملاءة وإن خلعت النقاب. وتُوافيه في منامه فيصحو وهو لا يدري إن كان ذلك حقا أم خيالاً. ويلتمس العون من الشيخ عرفة الدجيش إمام المسجد، ومن أصدقائه، ولكن لا أحد يستطيع أن يُنقذه مما يُعانيه، فيقدم بلاغاً لنقطة شرطة الأنفوشي، بناءً على اقتراح من أخته «منيرة»:
ويفاجئه الضابط:
« ـ كل التحريات أثبتت أن الصهبة التي أبلغت عنها من شغل خيالك ..
بحلقت عيناه:
ـ لكنني شاهدتها بنفسي ..
هز الضابط رأسه:
حتى روّاد المقهى نفوْا أنهم حادثوك في الأمر من أصله ..
لم يخف دهشته:
ـ بدر المنشاوي وجابر محجوب؟.
قاطعه الضابط:
ـ وحسن الهن .. وغيرهم .. أجمعوا على أنهم لم يروا شيئاً .. ولم يُحادثوك في أي شيء مما تصورته ..
أهمل ما حرص عليه من تأدب:
ـ أنا لم أتصور! .. كل ما رأيته صحيح .. وشاهدته ..
صاح الضابط:
ـ هل تتعاطى شيئاً؟ ..
قاوم انفعاله:
حتى السيجارة لا أدخنها ..
تخلل صوت الضابط رنة سخرية:
ـ إذن تغط جيداً قبل أن تنام! .. »(4).
فارق «منصور سطوحي» صديقيه بدر المنشاوي وجابر محجوب، وقرر أن يقطع علاقته بالجميع «فلا يفتح المكتبة، ولا يتردد على المقهى، يُلازم حجرته، فلا يهجرها»(5).
ولكن طقوس الصهبة تُطارده.
فما أن اتخذ قراره، حتى طاردته في عقر داره، وهذا النص يكشف ذلك:
«لما سلّم وأولى الطريق ظهره، كان قد اتخذ قراراً بأن يلزم البيت لا يُغادره، لا يرى أحداً ولا يراه أحد. تعالت زغاريد وأصوات طبول ومزامير ونايات ودفوف ودربكات وشخاليل. تصوّر ـ لفرط اقترابها ـ أنها في داخل الشقة.
انتطر من فراشه.
جرى إلى الصالة، أمه ومنيرة وماجد غلبتهم الحيرة فاكتفوا بتبادل النظرات.
قال:
ـ هذه أصواتهم ..
تساءلت الأم:
ـ من هم؟
همس:
ـ الصهبة»(6).
وتنتهي رواية «الصهبة» بانجذاب «منصور سطوحي» إلى «الصهبة» ثانية، وتتساءل الأم: هل انجذب؟ في حين «يهمس في أعماقه هاجس: لكي تفر مما يشغلك، اقذف بنفسك داخله»(7).
(يتبع)
(2)
«منصور سطوحي» مُطارد باستبداد والده، وهو ضحية لهذا الاستبداد. ويتجلى استبداد والده في عدة مواقف تختزلها الرواية. فحسبها بصفحاتها القليلة التي تقترب من المائة أن تُشير، لا أن تُفصِّل.
وفي بنية رواية «الصهبة» التي تميل إلى المُقابلة، نرى الموقف والنتيجة متجاوريْن من خلال لا وعْي البطل، وسنتوقف أمام ثلاثة مواقف:
*الأول: حينما أحب البطل قرض الشعر (من الطبعي أن ذلك كان في فترة المُراهقة، لكن القاص لا يُشير) فقد أشار عليه والده بدخول القسم العلمي ـ لا الأدبي الذي يُوافق هوايته ـ ثم أشار عليه فيما بعد بالكلية العلمية، وفي الجمل التالية لاستدعاء هذا الحوار يُقرر الروائي النتيجة بأن البطل رسب، ثم هجر الدراسة في كلية العلوم، بلا تردد، بعد وفاة أبيه.
«كان الشعر هوايته ... لكن انزعاج أبيه بدا واضحاً لمّا عرف نيته:
ـ كيف تفكر في مستقبلك؟
قالت الأم:
ـ اتركْه وما يفضله ..
قال وهو يهز قبضة يده:
ـ حتى الموت .. فأنا المسئول عن حياته ..
همس بقلق:
ـ ذلك ما أحبه ..
اقترب منه كأنه يهم بضربه:
ـ لن تعرف مصلحتك أكثر مني ..
سأل:
ـ ولماذا القسم العلمي؟ ..
قال:
ـ الكليات النظرية تُخرِّج مدرسين أو متعطلين ..
أضاف وهو يضغط على الكلمات:
ـ المستقبل للكليات العملية
رسب أول عامين في كلية العلوم .. ونجح ـ بالخوف من أبيه ـ في العامين التاليين، فلما مات أبوه هجر الدراسة بلا تردد»(8).
*الثاني: تدخل والد منصور في اختياراته لأصدقائه:
«رفض أبوه صداقته من ابن عم هلول الفكهاني:
ـ صادق من هو في ثوبك ..
وهو يُغالب ارتباكه:
ـ عبد الهادي في نهائي الطب ..
عبَّر تدلي الشفة السفلى عن استياء:
يهمني أصله لا مهنته ..
أردف كلماته بنظرة صاعقة، كوّمته في نفسه»(9).
والفقرة السابقة على هذه الفقرة تحدد للقارئ أي صداقة ارتبط بها «منصور سطوحي» بعد رحيل والده. إنها ـ كما أشرنا من قبل ـ صداقته ببدر المنشاوي (الموظف بأرشيف الحقانية، وجابر محجوب (ميكانيكي السيارات)، وحسن الهُن (الموظف بقصر ثقافة الإسكندرية، وهي كلها صداقات مع أبناء الشعب من الطبقات الكادحة والفقيرة.
*الثالث: تدخل الأب في تصرفات ابنه الذاتية، فهو الذي يُقرِّر لـه متى يحلق شعره، فتراه يُقرر ذات يوم أن يحلق رأس ابنه ويتركه دون شعر (ربما فعل ذلك ليجبره على الجلوس في البيت والمُذاكرة، حيثُ يُشير النص بأن الوظيفة المطلوبة من «منصور» هي المُذاكرة فحسب):
«كانت تُشقيه ملاحظات أبيه: هل تظن أنك تقوى على فعل ذلك؟ .. أنت تفعل ما أقرره. وظيفتك الوحيدة هي المُذاكرة. دع لي الأمر ولا تفكر فيه. سأقر الصواب فيما بعد.
وهمس يوماً في أذن الحلاق، وغادر المكان. جرى الحلاق بالماكينة على رأسه في منتصفها، قهرته المُفاجأة، فظل صامتاً، أتم الرجل ما بدأه، وإن لم يُفلح في مُغالبة الدموع التي طفرت من عينيْه»(10).
***
ونتيجة لما مضى لا يحمل البطل «منصور سطوحي» أي ذكرى طيبة لأبيه:
«قال كمن يهمس لنفسه:
ـ كنتُ أتمنى أن أحب أبي بدلاً من أنْ أخافه»(11).
ولعل كلمته «يهمس» في الوصف، مع الإشارة للخوف في الحوار دليل على سلطة الأب، وعلى سطوته، حتى بعد رحيله!
وتُحاول أم «منصور» بعد موت أبيه ـ أن تقوم بنفس دور الأب الذي كان يقوم به «فهي تنتمي إلى ذلك العالم الآفِل، الذي يُحاول مُمارسة نفس طقوسه في القهر والتحكم والسيادة المُطلقة رغم تغير الظروف»(12).
فحينما أراد أن يفتح المكتبة التي ورثتها الأسرة عن الأب بعد الوفاة بتسعة أشهر، وقفت الأم في وجهه:
«قالت في نفاد صبر:
ـ ماذا تريد؟ ..
كأنه ينتظر السؤال:
ـ المكتبة ..
تقوّس حاجباها:
ـ مالها؟ ..
قال وهو يعدل ـ بعفوية ـ ياقة البيجامة:
ـ منيرة تزوّجت .. وماجد يستعد للوظيفة ..
أضاف بسرعة كأنه يقضي على التردد داخله:
ـ حرام أن تظل المكتبة مغلقة ..
حدّقت فيه بنظرة غير مصدقة:
ـ إنها كل ما تركه أبوك .. فهل ترثه بمفردك؟ ..
وهو يُقاوم انفعاله:
ـ ولماذا لا أُديرها لحسابنا؟ ..
اصطنعت التعجب:
ـ وتهجر المقهى؟!..
وشاب صوتَه تذلل:
ـ أريد أن أستقل بحياتي .. فساعديني! ..
قالت في لهجة جادة:
ـ أُفضِّل أن أبيع المكتبة ليتقاسم ثمنها الجميع ..
وعلا صوتها:
ـ لا تنس أني امرأة .. ولا مورد لي! ..
فال بتعمد واضح للدهشة:
ـ أنتِ أمي كذلك .. وأنا مسئول عنك! ..
غلب النشيجُ صوتها:
ـ من كان يتحمل مسئوليتي .. مات! ..» (13).
إن هذه الأم تنتمي إلى الماضي الذي مات ولا يُريد أن يرحل، وإنما يُريد أن يُمارس سيطرته على الأحياء .. وهي تتذكّر زوجها ـ والد البطل ـ وتصفه بأنه «كان رجلاً فاضلاً»(14) (كأن منصور سطوحي غير ذلك، فلا هو رجل، ولا هو فاضل.
إن «منصور سطوحي» في نص «الصهبة» يبحث عن ذاته في مواجهة الآخر الغائب / الحاضر (أو بتعبير آخر: الميت / الذي يُمارس حياته من خلال الأم).
وأمه لا تتركه يفعل ذلك أو يحققه، وتظل هي صوت الأب الراحل المقيم، والغائب / الحاضر من خلال من خلال إعلانها عن وجوده في كل لحظة:
قالت وهي تمسح دمعة في طرف عينيها:
ـ يجب أن تحرص على ذكرى أبيك.
قال باستهانة:
ـ على ذكراه لا على جثته! ..
زعقت:
ـ هل كنت تجرؤ على قول هذا في حياته؟ ..
قال كمن يهمس لنفسه:
ـ كنت أتمنى أن أحب أبي بدلاً من أن أخافه! ..
... تحشرج صوتها:
ـ ألم تكن تحب أباك؟ ..
مسح الحجرة بنظرة غير واعية:
ـ كنت أحبه .. لكني كنت أخافه أكثر! ..
استطرد وهو يغمض عينيه بتأثر:
ـ ليتني أطعته لأني اقتنعتُ بآرائه .. لا لخوفي منه .. »(15).
وهكذا فإن هذه الرواية تُرينا من خلال عرضها لموقف الأب من البطل كيف كان «منصور سطوحي» ـ البطل ـ ضحية استبداد أبيه المتسلِّط، الذي فرض عليه أن يلتحق بالقسم العلمي، فكلية العلوم ـ رغم هوايته للأدب وقرضه للشعر ـ ولهذا فقد فشل «منصور » في دراسته بكلية العلوم في حياة الأب، وهجرها بعد موته.
ولما كان الذي يحكم علاقة البطل بأبيه الخوف (وليس الحب)، والطاعة (وليس الحوار والإقناع)، فإننا يُمكننا أن نقرر أن «منصور سطوحي» ضحية السلطة الأبوية في المجتمع(16). هذه السلطة المستبدة القاهرة عند الأب، والتي تبغي أن يكون الابن صورة متجسِّدة للأب، أو الأب صورة دائمة ومستمرة في الابن.
ويفشل الابن / البطل في تحقيق ذاته، ومن ثمّ يتمرّد، ويُحاول أن يجد نفسه من خلال الانجذاب ـ في طقوس «الصهبة».
(يتبع)
(3)
ما الصهبة؟ ..
«لن تجد إجابة واضحة لهذا السؤال، ذلك أن «الصهبة» ليست كياناً ماديا متماسكاً ومحدد الملامح مثل الأماكن التي نعرفها، ليست مولداً أو جلوة، أو حلقة ذكر. تختلف «الصهبة» عن هذه الأماكن جميعها»(17).
ومثلما هي مختلفة في المكان مختلفة في الزمان
«قال جابر محجوب:
ـ للموالد مواعيدها .. أما هذه الصهبة فقد أتت في أغسطس »(18).
إنها طقس يرسمه المؤلف من خلال عيني البطل.
« اختلف المشهد أمامه عن الصورة التي ألفها. ليسوا من طرق أكل الزجاج، وازدراد الأفاعي والقبض على الحديد الملتهب، وغرس الأسياخ في الخدين، وطعن الجسم بالخناجر، وابتلاع النار، ولا من الشاذلية والرفاعية ولا المولوية أو الدراويش مَنْ طالما تابع مواكبهم في مولد الحي. استند إلى الباب الحديدي لبيت، أول الميدان الصغير. أهمل ـ لطول قامته وقوف العشرات أمامه، يُشاركونه، ويُشاهدون ويُعانون الزحام الذي تزايد فصار خانقاً. انفسح المكان لما تشابكت أيدي الرجال. وقفوا في حلقة متجهين إلى الداخل، وتشابكت أذرع النساء داخل الحلقة متجهات إلى الخارج تعالت الدفوف والمزامير والدربكات والشخاليل، وبدأ الرقص: يتحرك الرجال إلى الداخل . وتتجه النساء إلى الخارج. يرفع الرجال أيديهم فيسهل طريق النساء في العودة إلى الداخل. والعشرات أفسحوا للطريق، صنعوا دائرة أوسع لصق الأبواب والجدران، وعلى مداخل الشوارع. شدة انسجام الموسيقى مع الرقص، وحركات التوقف، تبديل الأوضاع والحركات، تشابك الأيدي والأذرع وانفصالها كأنه الذكر، وإن اختلف الذكر بتطوح الرءوس، واهتزازات الأجساد والأيدي، والدعوات الرتيبة المتتالية. بدا كل شيء جديداً، وغير مألوف. ليسوا من الغجر، للغجر سحنتهم ولهجتهم وزيهم، ولم تشر الأحاديث إلى أنهم يُمارسون الغناء وأعمال السحر والتنجيم والوشم وختان البنات، ولا ضبطوا متلبسين بسرقة بيت أو دكان أو خطف طفل، ولا هم جماعة مُغلقة ترفض الاختلاط»(19).
إن محمد جبريل من خلال هذا الوصف يصنع أسطورته الخاصة، أو واقعيته السحرية المنبعثة من بيئته المصرية التي أحبها وعشقها، كما صنع أدباء أمريكا اللاتينية ـ تماماً ـ واقعيتهم السحرية المنبعثة من بيئتهم وأعراقها وتقاليدها.
وطقس «الصهبة» ـ الذي استنبته محمد جبريل في هذه البيئة ـ طقس لجماعة تحتفي بالحياة، وليست كالجماعات الأخرى المغيبة عن واقعها «السحر والتنجيم» أو المُغَيَّبة عن عقيدتها «الشاذلية والرفاعية والمولوية والدراويش»، أو المُغيبة عن بيئتها والتي تحس بانفصالها وعدم انتمائها «الغجر».
إن هذه الجماعة التي تُمارس طقس «الصهبة» تحتفي بالحياة، وتُريد للمرأة العاقر أن تحمل وتلد وتُشارك في تقديم الأطفال (رمز المستقبل) كي تستمر دورة الحياة.
«النساء المنقبات يحلمن بالخصوبة، الجميع يشغلهم علاج العلة، من يرفع النقاب يظفر بثواب إنقاذ حياة»(20)..
ومن ثم يُحاول البطل « منصور سطوحي » أن يُساهم في إنقاذ حياة امرأة، رغم أنه هو نفسه أن يُحقق ذاته في هذه الحياة، أو يعيش الحياة كما يهوى، فلم يُفلح. لقد حاول إنقاذ حياته هو عدة مرات بعد وفاة أبيه، ولكن أمه التي تمثل الماضي المندثر ـ وقفت في طريقه:
وقفت في طريقه عندما أراد أن يترك الكلية التي دخلها رغم أنفه، ولم يستطع الاستمرار فيها:
« لم تصدق الأم: هل يهجر الدراسة بعد أن أوشك على بلوغ الغاية؟! ..
أخلت وجهها للدهشة:
ـ تريد أن تُصبح أقل من أخيك؟! ..
قال وهو يهز رأسه:
ـ لا تشغلني الكثرة ولا القلة .. ما يهمني هو ما أطمئن إليه ..
استطرد من بين أسنانه:
ـ كان همه أن أصبح صورة منه! ..
واجهته بنظرة غاضبة:
ـ كان أبوك رجلاً فاضلاً ..
دون أن يُجاوز هدوءه:
ـ لا أُنكر .. ولكنه اختار التجارة .. أما أنا فقد كانت لي حياة أخرى»(21).
ووقفت أمه في طريقه ـ أيضاً ـ حينما حاول أن يضع لافتة جديدة للمكتبة، رمزاً لحياته المستقلة والمنفصلة عن حياة أبيه، ولكن أمه عاودت الرفض بشراستها المُعتادة التي ورثتها عن أبيه:
«أمه واجهت فكرته بغضب لم يعهده من قبل. اصطبغت عيناها بحمرة، وسرت في وجهها ارتعاشة، وتمتمت شفتاها بما لم يستطع تبينه ..
قال يُحاول تهدئتها:
ـ ستظل المكتبة باسم أبي .. كل ما أطلبه أن نغيّر اسمها! ...
لم تُخف قلقها:
ـ أنا أعرف بك من نفسك .. اليوم تغير اسم المكتبة .. وغداً تصبح المكتبة باسمك ..
عانى للإفلات من حصار نظراتها:
ـ ألم تُقرري وهي مُغلقة أن نعرضها للبيع؟!
وهي تُقاوم الغضب:
ـ كان شرطي أن يظل للمكتبة اسمها .. مكتبة سطوحي! ..
قال:
ـ أغلقناها تسعة أشهر .. فتأثرت مبيعاتها .. والأفضل أن تبدأ من جديد! ..
ضغطت على الكلمات:
ـ سيظل للمكتبة اسمها! ..
واستطردت وهي توليه ظهرها:
ـ إن لم يُعجبك شرطي .. فعندي أغراب يُوافقون عليه! .. »(22).
إن موقف الأم الرافض لتركه الدراسة التي اختارها له أبوه، ورفضها تغيير لافتة المكتبة يشي بثباتها وحفاظها على ذكرى الزوج الغائب، وعدم قدرتها على استيعاب أن يتغيّر الأبناء، وأن تكون لهم حياتهم المستقلة عن حياة الأبوين، أو أن تصير لهم ذواتهم المختلفة عن ذات والدهم الراحل.
ومن هنا فإن «الصهبة» تمثل طقس الحياة، والتجدد، والعطاء، والخصوصية. وكلها أشياء حاول أن يتشبث بها «منصور سطوحي»، وحاول أن يراها ويعيشها بجمالها الأخّاذ في تلك اللحظة التي جرى فيها في «الصهبة» ورفع النقاب عن الوجه الجميل الذي يمثل الحياة، والتجدد، والخصوصية! .. فقد قابل وجهاً كأنه الجنة!
وبدأت نفسه تتحرر من قيود السلطة الأبوية التي أحكمها أبوه الراحل من حوله، ومارست أمه دور المحافظة عليها. هذه السلطة التي حاول دائماً أن يخرج عنها، وأن يفلت من مطاردتها.
وإذا كانت الأم (الوجه الآخر للسلطة الأبوية) قد وقفت منه موقفاً سلبيا وهو يُعاني المطاردة إثر مشاركته في «الصهبة» ، فإن ضابط الشرطة (الوجه الآخر لسلطة الحكم) يرفض هذا الخروج:
«قال له الضابط:
ـ كل التحريات أثبتت أن الصهبة التي أبلغت عنها من شغل خيالك ..
بحلقت عيناه:
ـ لكنني شاهدتها بنفسي ..
هز الضابط رأسه:
ـ حتى روّاد المقهى نفوْا أنهم حادثوك في الأمر من أصله»(23).
(يتبع)
(4)
إن «الصهبة» تمثل الحياة بالنسبة إلى البطل «منصور سطوحي» ، هذه الحياة التي ظل يبحث عنها طوال حياته، فما أن وجدها حتى تمسَّك بها، وإن أنكر عليه الآخرون ذلك.
فمن «منصور سطوحي» وماذا يريد؟
ليس هناك فاصل بين الأدب / النص، والمؤلف / الرؤية، والذات، والأعماق. ومن ثم فإنني أرى أن «منصور سطوحي» هذا، فيه ملامح من محمد جبريل ذاته، وإلا كان النص سيرة ذاتية وليس رواية.
فـ«منصور سطوحي» بطل سكندري، ومحمد جبريل روائي سكندري المولد والنشأة والتكوين والهوى، وهو مرتبط ببيئته ارتباطاً كبيراً(24).
يقول محمد جبريل عن بيئة بطله في الرواية:
«وُلِد في السيالة .. شقة تطل على مسجد المسيري .. لم يتركها إلى حي آخر، إلا للمكتبة خلف المرسي أبي العباس، أو للكلية في محرم بك، أو لزيارة أخواله في العطّارين، وآخر أعمامه الأحياء في اللبان»(25).
ويقول عن بيئته هو في حوارٍ معه:
«تفتح وعيي على الإسكندرية. شهِدتْ طفولتي وصباي ومطلع شبابي، هي صورة الوطن في ذاكرتي، وهي المكان الذي تخلَّقتْ فيه حتى الآن غالبية أعمالي، وبالذات تلك المنطقة ما بين المنشية وسراي رأس التين، تضم أبا العباس والبوصيري، وياقوت العرش، وعلي تمراز، والميناء الشرقية، وحلقة السمك، والسيّالة، والصيادين، والمسافر خانة، والحجازي، والموازيني، وشارع الميدان ... وغيرها .. »(26).
فكلاهما: البطل والمؤلف يشاركان في بيئة واحدة، هي بيئة «بحري» في الإسكندرية.
إن محمد جبريل ينتمي إلى ما يُسمى «جيل الستينيات» في الرواية، وهذا الجيل من أبنائه: بهاء طاهر، ومحمد مستجاب، وزهير الشايب، وضياء الشرقاوي، وعنتر مخيمر، وحسني سيد لبيب، وصنع الله إبراهيم، وإبراهيم أصلان، ويوسف القعيد، وجمال الغيطاني ... وغيرهم. وهذا الجيل «بدأ مسيرته في الحياة والأدب مع شعارات يوليو 1952م البراقة وخيال الحلم القومي، الذي كان يسعى نحو تحقيق إمبراطورية ترفرف عليها رايات الحرية والوحدة والاشتراكية. وقد زاد إيمانهم بهذا الحلم لأن الفكر الاشتراكي والأدب الواقعي والنقد الاجتماعي أخذ يغزو ساحة الثقافة العربية وبسط مبادئه الفكرية والجمالية على قضايا الوطن والإبداع، وقد تفتحت مشاعر هذا الجيل وطاقاته الإبداعية في الخمسينيات والستينيات، حيث كان معظمهم يخطو نحو العشرين أو الثلاثين من عمره. وكانت خطب جمال عبد الناصر وبعض إنجازاته توحي لكثير منهم بأن الحلم القومي أمل قريب المنال. ولكن الحلم الجميل سرعان ما تحوّل إلى كابوس مرعب مع تداعيّات الخامس من يونيو (حزيران) 1967م، وكانت السقطة مدمرة للأحلام، وخيبة للآمال»(27).
وحينما صحا هذا الجيل على الحقيقة المروعة، وحاول أن يُبدي رأيه، وهو ابن الثورة ـ كما يرى ـ فإن السلطة أبعدتهم إلى الهامش وجعلتهم خارج المؤسسة الثقافية.
يقول بهاء طاهر وهو أحد مبدعي الستينيّات الكبار، ومن المُجايلين لمحمد جبريل:
«ظللنا ـ جيلي وأنا ـ خارج المؤسسة الثقافية وأحياناً على هامشها، وكان الهامش يتألف بالذات من الملحق الأدبي لصحيفة «المساء» المحدودة الانتشار ... ومجلة « المجلة » ... ثم قلة (؟) الصفحات الأدبية في بعض المجلات الأخرى إلى جانب البرنامج الثاني في الإذاعة. تلك هي المنابر التي كانت متاحة في مطلع الستينيات للإبداع، وقد كانت عظيمة القدر في ذاتها، ولكنها محدودة التأثير لأنها بعيدة أو مُبعدة عن الجمهور الواسع»(28).
كان الأدب الجديد الذي يتشكّل على هامش المؤسسة الثقافية، والذي تكتبه هذه الكوكبة « هو المعبر الحقيقي عن التغيير الذي حدث، فقد تفكك البناء المنظم الذي أشاعته الرواية والقصة الواقعيتان ولم يعد للقصة بداية ووسط ونهاية بشكل محدد، ولم تعد البيئة هي تلك البيئة الواضحة التي يخوض البطل صراعاً في نطاقها ويغيرها بفعله الإيجابي. ذلك أن الكاتب قد شعر على عكس كاتب الواقعية بالعجز عن السيطرة على هذه البيئة، وهكذا فقد تداخلت الأزمنة والأمكنة في القصة الواحدة، وأحياناً في المشهد الواحد من القصة. وفي مُقابل البطل الواقعي الإيجابي الذي يحمل رايات الثورة الظافرة ظهر البطل الضد، أو فلنسمه بصراحة البطل المهزوم، ذلك أن حس الهزيمة الداخلية كان أبرز سمة للواقع الجيد في الستينيات الذي حظر كل محاولة للتعبير الحر عن الذات وللتحرك الفعّال. وكان الوصف الدقيق للأشياء وللجزئيات غير المترابطة يعبر بدقة عن عالم نفسي فقد التماسك والترابط في مقابل عالم خارجي شديد الصلابة والتحديد»(29).
ولقد كانت أبرز سمة مشتركة في تلك المدرسة الأدبية ـ مدرسة الستينيّات ـ هي الاحتجاج والتمرد: «كان عملها كله صيحة احتجاج وتمرد. كانت تلك الأعمال دعوة غير مُباشرة للتغيير لأنها تقول بكل وضوح وصدق: إن هناك صدعاً في الدولة وصدعاً في الروح»(30).
(5)
إننا نرى أن «منصور سطوحي» الذي يريد أن يحتفي بالحياة المتخيلة، أو البكر التي لم تفقد براءتها ليس إلا تجسداً لمحمد جبريل الذي يريد هو أيضاً أن يحتفي بالحياة، وأن يجد ذاته، ولكنه مُطارَد من السلطة « الأبوية » التي هي رمز للرؤساء المباشرين له بدءاً من رئيس المؤسسة الصحفية التي يعمل بها، مروراً بالأدباء الكبار الذين يقفون حجر عثرة في سبيل تحقق الحياة الأدبية بثرائها وزخمها للأجيال التي يسمونها شابة رغم تخطي معظم أفرادها حاجز الخمسين من العمر، ووصولاً إلى القيادة السياسية التي يرى أنه يختلف معها، وأنها متسلطة، ورافضة لرغبة الحياة عند بطلها (الذي هو جزء منه).
وحينما تكون «الصهبة» هي البديل للواقع، فإن ضابط الشرطة يرفض الاعتراف بوجود « الصهبة » وتكون مواجهته للبطل صادمة ومستفزة، فيقول له في غلظة وقسوة، دون مواراة:
«كل التحريات أثبتت أن الصهبة التي أبلغت عنها من شغل خيالك»(31).
ويسخر في لغة تكشف روح السخرية الحارقة:
«تغطَّ جيداً قبل أن تنام»(32).
ومن ثم، فإننا نرى أن «الصهبة» ليست مجرد مرثية فردية لأحلام «منصور سطوحي» المجهضة في واقع مر، يصفع أحلامه، ويجهضها ويجعلها لا تكتمل، وإنما هي مرثية لجيل كامل حاول أن يُحقق ذاته، ولكن العوائق كانت جمة، كما كانت الإحباطات مُروعة.
وقد أحسن الكاتب حينما جعل بطله في النهاية ينزا ويُشارك في طقوس «الصهبة»، التي تعني الحياة والتجدد ومحاربة العقم، حتى لو قالت له السلطة، أو قال الرافضون للحياة: إنها حلم وليست حقيقة، وعليه أن يتغطى جيداً قبل أن ينام.
........................
الهوامش:
(1) محمد جبريل: الصهبة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1990م، ص 8 .
(2) السابق، ص 17 .
(3) السابق، ص 18 .
(4) السابق، ص 90 ، 91 .
(5) السابق، ص 94 .
(6) السابق، ص 94 ، 95 .
(7) السابق، ص 96 .
(8) السابق، ص 26 ، 27 .
(9) السابق، ص 42 .
(10) السابق، ص 55 .
(11) السابق، ص 55 .
(12) سمير الفيل: البطل المأزوم بين عجز الذات والخلاص المرير، مجلة «إبداع»، عدد سبتمبر وأكتوبر 1990م.
(13) محمد جبريل: الصهبة، ص ص 24-26 .
(14) السابق، ص 28 .
(15) السابق، ص 55 ، 56 .
(16) مصطفى بيومي: الصهبة ندّاهة منصور سطوحي، عن صورة مخطوطة بالآلة الكاتبة، ص 1 .
(17) محمد جبريل: الصهبة، ص 8 .
(18) السابق، ص 8 .
(19) السابق، ص 12 ، 13 .
(20) السابق، ص 13 .
(21) السابق، ص 27 ، 28 .
(22) السابق، ص 53 ، 54 .
(23) السابق، ص 90 .
(24) لاحظ من كتبوا عن هذه الرواية ميل محمد جبريل إلى اتخاذ الإسكندرية مسرحاً لأحداثه، انظر د. ماهر شفيق فريد في مقالته «صهبة محمد جبريل» حيث يقول: «الإسكندرية هي مسرح هذه الدراما الداخلية المحرمة، ونحن نجد لمحات من أسماء الشوارع والمساجد والشواطئ، فمحمد جبريل سكندري أصيل يرى مدينته بعين التوحد والذوبان والمحبة، وليس كلورنس داريل مثلاً الذي يخلق أسطورته الأوربية الخاصة، ويخلع عليها الإسكندرية»، مجلة «أكتوبر»، العدد (703)، 15 أبريل 1990م، ص 55، وانظر د. محسن خضر في مقالته عن «الصهبة» حيث يقول: «الإسكندرية هي القاسم المشترك بين «قاضي البهار» و«الصهبة»، وهي مسقط رأس المؤلف، والمكان المفضل لأغلب رواياته وقصصه القصيرة » صحيفة «الحياة»، (لندن) في 22/10/1990م، ص10.
(25) محمد جبريل: الصهبة، ص 7 .
(26) محمد أحمد الحمامصي: حوار مع الروائي الكبير محمد جبريل، مجلة «الثقافة الجديدة»، العدد 49، أكتوبر 1992م، ص 51 .
(27) د. طه وادي: محمد جبريل روائيا: قضية جيل بين الوعي الأيديولوجي والوعي الفني، مجلة «الثقافة الجديدة»، العدد 49، أكتوبر 1992م، ص24 .
(28) بهاء طاهر: شهادة عن نفسه وعن جيله بعنوان «... وسأنتظر »، تذييل رواية خالتي صفية والدير، روايات الهلال، العدد 511، القاهرة – يوليو 1991م، ص 159 .
(29) السابق، ص 161 ، 162.
(30) السابق، ص 162.
(31) محمد جبريل: الصهبة، ص 90 .
(32) السابق، ص 91 .
.................................................
*فصل من كتاب «صورة البطل المطارد في روايات محمد جبريل»، دار الوفاء لدنيا الطباعة، الإسكندرية 1999م.