أسماء الله الحسنى .. الأَحَد
لفضيلة الدكتور : محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم ، إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
من أسماء الله الحسنى : ( الأَحَد ) :
أيها الإخوة الكرام ، مع اسم جديد من أسماء الله الحسنى ، والاسم اليوم ( الأحد ) .
1 ـ ورود اسم ( الأَحَد ) في القرآن الكريم والسنة النبوية :
وقد ورد أيضاً في السنة الشريفة الصحيحة ، فعن ابن ماجة ، أخرج ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول :
(( اللَّهمَّ إِني أسألُكَ بأني أَشْهَدُ أنَّكَ أنْتَ اللهُ ، لا إلهَ إلا أنتَ ، الأحَدُ الصَّمَدُ ، الذي لم يَلِدْ ولم يُولَدْ ، ولم يكن له كُفُوا أحَدٌ ، فقال عليه الصلاة والسلام : والذي نفسي بيده لقد سأل اللهَ باسمه الأَعظَمِ ، الذي إِذا دُعِيَ به أجابَ ، وإِذَا سُئِلَ بِهِ أعْطَى )) .
( الأحَد ) اسم من أسماء الله الحسنى ، ورد في سورة الإخلاص في قوله تعالى :
اختلف العلماء في اسم الله الأعظم ، فبعضهم قال : الرحمن ، وبعضهم قال : الله ، هذا الاختلاف يحسم بحقيقة رائعة ، وهي أن اسم الله الأعظم هو الاسم الذي أنت بحاجة إليه في ظرف معين ، فإذا كنت فقيراً فاسم الله الأعظم بالنسبة إليك هو اسم الغني ، وإذا كنت ضعيفاً فاسم الله الأعظم بالنسبة إليك هو اسم القادر ، وإذا كنت تائهاً فاسم الله الأعظم هو اسم الهادي ، وكل هذه الأسماء تدور مع الإنسان ، فتارةً التواب ، وتارةً المغني ، تارةً الرحيم ، تارةً القوي ، تارةً الناصر ، فكل حالة أنت فيها هناك اسم من أسماء الله الحسنى هو بالنسبة إليك اسم الله الأعظم .
والذي يلفت النظر أنه ورد في القرآن الكريم في آية هي أصل في هذه الدروس :
إذا كنت مظلوماً فادعُ الله باسمه الناصر ، وإذا كنت مضطراً فادعُ الله باسمه المجيب ، وفي كل حال أنت فيه هناك اسم من أسماء الله الحسنى شفاء لك ، وحصن لك ، وأساس في حلّ مشكلتك .
المؤمن الصادقُ خاضع لله ، متواضع مع خَلق الله :
أيها الإخوة ، المؤمن الصادق يتعامل مع الله تعاملا يوميا ، يتعامل مع الله تعاملا ساعيًا ، المؤمن الصادق يناجي ربه ، يستعين به ، يستغفره ، يتوب إليه ، يتوكل عليه ، يعبر لربه عن محبته ، يا رب ، إني أحبك ، وأحب من يحبك ، فكيف أحببك إلى خلقي ؟
ورد في بعض الآثار القدسية :
(( ذكرهم بآلائي ، ونعمائي ، وبلائي )) .
[ ورد في الأثر ]
المؤمن الصادق له مناجاة مع الله ، المؤمن الصادق يمرغ جبهته في أعتاب الله ، المؤمن الصادق عزيز عزة لا توصف ، لكن أمام الله فهو في منتهى الذل ، في منتهى الانكسار ، في منتهى الخضوع .
وهناك حقيقة تلفت النظر : كلما مرغت وجهك في أعتاب الله عز وجل رفعك الله ، وزادك عزاً وقوةً وحكمةً ، فبقدر ما تخضع له فيما بينك وبينه يرفع شأنك .
أنا لا أتصور أن في الأرض من آدم إلى يوم القيامة إنسانًا رفع الله ذكره كرسول الله عليه الصلاة والسلام ، وأتصور أيضاً أنه من إنسان خضع لله ، وكان عبداً ، وفي أعلى درجات القرب في سدرت المنتهى كرسول الله عليه الصلاة والسلام ، قال تعالى :
﴿ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ﴾
( سورة النجم )
الإنسان من شانه العبودية ، والله من شأنه الربوبية ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ :
[ الترمذي عن أنس ]
لكن ذرة واحدة من كبر تحجبك عن الله .
للتقريب : جاءك ضيوف كثر ، وما عندك شيء تقدمه لهم ، إلا كأس لبن أضفت خمسة أضعافه ماء ، وجعلته شراباً سائغاً ، الكأس من اللبن قبِل خمسة أضعافه ماء ، لكن لا يقبل قطرة نفط واحدة ، لأن هذه القطرة تفسده .
لذلك : " رُبَّ معصية أورثت ذلاً وانكساراً خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً " .
(( لو لم تذنبوا ، لخفت عليكم ما هو أكبر )) .
يا الله ! ما الذي هو أكبر من الذنب ؟ قال :
(( العجب )) .
[ الجامع الصغير بإسناد حسن عن أنس ]
فشأن العبد أن يتذلل لمولاه ، لكن المشكلة أن الذين شردوا عن الله يستكبرون على الله ، وهو يتذللون ، وينبطحون أمام عبد لئيم ، فإن لم تكن عبداً لله فأنت عبد لعبد لئيم ، والعبد اللئيم لا يرحم ، ولا يسترضى ، ولا يؤمَن جانبه ، فإن لم تكن عبداً لله فأنت عبد لعبد لئيم .
2 ـ بين اسم ( الأَحَد ) والواحد :
أيها الإخوة ، ( الأحد ) من مشتقات الواحد ، الواحد ( الأحد ) ، فالواحد مفتتح العدد ، أول عدد واحد ، أما ( الأحد ) فهذه للنفي ، ما جاء من أحد ، أما الواحد فللإثبات ، جاء واحد من القوم ، في الإثبات تستخدم لفظ ( واحد ) ، وفي النفي تستخدم لفظ ( أحد ) ، ما أطلّ علي أحد من الخلق ، ودعوت قوماً فجاءني منهم واحد ، الواحد لا شريك له ، لكن ( الأحد ) لا مثل له ، وهناك فرق بينهما ، الواحد من حيث الكم ، أما الأحد فمن حيث النوع ، فالواحد لا شريك له ، أما ( الأحد ) فلا مثل له .
لذلك قال تعالى :
﴿ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ﴾
( سورة مريم )
السمِيّ المشابه ، هل تعلم مشابها لله عز وجل ؟ كل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك .
أما الأحدية فقالوا : هي الانفراد ونفي المثلية ، والانفراد لذاته ، وصفاته ، وأفعاله .
3 ـ من معاني ( الأحد ) :
من معاني ( الأحد ) أنه يحتاجه كل شيء في كل شيء ، وليس محتاجاً إلى شيء ، يحتاجه كل شيء في الكون في كل شيء ، وليس محتاجاً إلى شيء ، أحد صمد ، وجوده ذاتي ، أما الإنسان فعبد لله ، وجوده معتمد على إمداد الله له .
بين العبيد والعباد :
لذلك ورد في القرآن عبيد وعباد ، والفرق بينهما كبير ، العبيد جمع عبد القهر أما العباد جمع عبد الشكر ، فأيّ إنسان ولو كان ملحداً ، ولو كان كافراً ، ولو كان فاجراً هو عبد لله ، بمعنى أن حياته متوقفة على إمداد الله له ، لو توقف القلب فأملاكه بالمليارات تنتقل إلى غيره ، كان رجلاً فأصبح خبراً ، قال تعالى :
﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ ﴾
( سورة المؤمنون الآية : 44 )
حتى العتاة ، الطغاة ، المستكبرون ، الملحدون ، الكافرون هم عبيد لله قهراً ، وكل مكانتك الاجتماعية مبنية على ذاكرتك ، وهناك حالات فقدِ الذاكرة ، كل مكانتك الاجتماعية مبنية على حركتك ، وأقل خثرة من الدم في أحد شرايين الدماغ تنتهي الحركة ، كل مكانتك الاجتماعية ، من عقلك ، والعقل قد يذهب فجأة .
فلذلك أي إنسان مهما كان قوياً ، ومهما كان متجبراً فهو عبد لله قهراً ، هذه عبودية القهر ، لكن المؤمن حينما عرف الله ، وأحبه ، وأقبل عليه ، وأطاعه ، وتقرب إليه فهذا عبد لله أيضاً من نوع آخر ، هذا عبد الشكر ، لذلك عبد القهر تجمع على عبيد .
علم ما كان ، وعلم ما يكون ، وعلم ما سيكون ، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون .
النفي المجمَل والإثبات المفصَّل في أسماء الله وصفاته :
أيها الإخوة ، من خصائص أسماء الله الحسنى أن الصفات الفضلى لله عز وجل أثبتتها النصوص الصحيحة من الكتاب والسنة ، لكن هناك خصيصة دقيقة ، النفي المجمل والإثبات المفصل .
يمكن أن تمدح إنسانا ، وأن تقول : هذا ليس لئيماً ، ولا بخيلاً ، ولا مجرماً ، أعوذ بالله ، هذا مدح ، من كمال الأدب مع الله عز وجل أن تنفي عنه النقص إجمالاً ، ومن كمال الأدب مع الله عز وجل أن تثبت كماله تفصيلاً ، هو رحيم ، ودود ، غني ، لطيف ، من كمال الأدب مع الله أن تنفي عنه النقص إجمالاً ، ومن كمال الأدب مع الله أن تثبت صفاته الفضلى تفصيلاً ، بعضهم قال في قوله تعالى :
﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً ﴾
( سورة الأنعام الآية : 115 )
﴿ كَلِمَةُ رَبِّكَ ﴾
هي القرآن الكريم ، والقرآن الكريم بين دفتيه كل ما في القرآن الكريم لا يزيد على شيئين ، أمر وخبر ، فالله أمرَك أو أخبرَك ، فأمره عدل ، وخبره صدق ، ما بين دفتي كتاب الله أمرٌ وخبرٌ ، أمره عدل ، وإخباره صدق ، هذا معنى قوله تعالى : ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً ﴾ .
بعضهم قال : القرآن حمّال أوجه ، يعني : يا عبادي منكم الصدق ومني العدل ، تتفاوتون عندي بصدقكم ، الصدق له معانٍ عميقة جداً ، المعنى الساذج البسيط الذي يتبادر إلى ذهن كل الناس أن الإنسان إذا حدثك فهو صادق ، هذا المعنى صحيح ، لكن هناك صدق الأقوال ، وهناك صدق الأفعال ، أن تأتي أفعالك وفق أقولك .
مَن هم الأنبياء ؟ الذين ما رأى الناس مسافة إطلاقاً بين أقوالهم وأفعالهم ، مَن هم المنافقون ؟ الذين رأى الناس بوناً شاسعاً بين أقالهم وأفعالهم .
فيا عبادي منكم الصدق ، ومني العدل .
أو :
﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً ﴾
هذا تمهيد ، بعضهم قال : لا ، ما بين دفتي القرآن وصف للواحد الديان ، وأمر وخبر ، فسورة الإخلاص تعريف بالله ، فهي ثلث القرآن ، هذه السورة تعدّ عند بعض العلماء ثلث القرآن الكريم .
معرفة الله والطريق إليها :
أيها الإخوة ، السبب أن أصل الدين معرفة الله عز وجل ، هذه كلمة للإمام علي رضي الله عنه : أصل الدين معرفته ، وشرف العلم من شرف المعلوم ، فمن الممكن أن تكتب دراسة مطولة على قصيدة الإلياذة لهوميروس ، قصيدة قيلت في عصور قديمة جداً ، وكلها ضلالات وآلهة وشرك ، فإذا درس الإنسان هذه القصيدة دراسة مفصلة ، وإنسان درس أسماء الله الحسنى ، فشرف العلم من شرف المعلوم ، وفضل العلم بالله على العلم بخلقه كفضل الله على خلقه ، فكلما ارتفع مضمون العلم ارتفع المتعلم ، وكلما ارتفع موضوع العلم ارتفع المتكلم .
لكن أيها الإخوة ، طرقُ معرفة الله عز وجل ثلاث ، يمكن أن نعرفه من آياته الكونية من الكون ، خلقه ، ويمكن أن نعرفه من آياته التكوينية أفعاله ، ويمكن أن نعرفه من كلامه قرآنه ، آياته الكونية عن طريق التفكر ، وآياته التكوينية عن طريق النظر ، وآياته القرآنية عن طريق التدبر .
مستحيل وألف ألف مستحيل أن تطيعه وتخسر ، مستحيل وألف ألف ألْف مستحيل أن تعصيه وتربح ، مستحيل وألف أَلف ألف مستحيل أن تقبل عليه وتُذل ، ومستحيل وألف ألف أَلف مستحيل أن تُعرض عنه وتعز ، سبحانك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت .
إذاً : هناك طرق ثلاثة لمعرفة الله : خلقه عن طريق التفكر ، وأفعاله عن طريق النظر ، وقرآنه عن طريق التدبر .
العلمُ بخَلق الله والعلمُ بأمر الله والعلمُ بالله :
أما العلوم فتقسم إلى أقسام ثلاثة علم بخلقه ، هذا اختصاص الجامعات في الأرض ، علم الفلك ، الفيزياء ، الكيمياء ، الرياضيات ، علم الذرة ، علم النفس ، علم الاجتماع ، علم النفس التربوي ، الجغرافيا ، التاريخ ، علم بخلقه ، والعلم بخلقه أصل في صلاح الدنيا .
والمسلمون إذا أهملوا اختصاصاً هم في أمس الحاجة إليه ، وتفوق بالاختصاص عدوهم ، أثموا جميعاً ، وعلم بأمره ، هذا اختصاصات كليات الشريعة في العالم الإسلامي افعل ولا تفعل ، الحلال ، والحرام ، والقرض ، والوكالة ، والحوالة ، والكفالة ، أحكام الزواج ، أحكام الطلاق هذا علم بأمره .
النقطة الدقيقة : أن العلم بخلقه ، وأن العلم بأمره يحتاجان إلى مدارسة ، كلمة مدارسة تعني أستاذا ، طالبا ، كتابا ، محاضرة ، مراجعة ، حفظا ، تلخيصا ، امتحانا ، شهادة ، هذه مدارسة ، فالعلم بخلقه يحتاج إلى مدارسة ، والعلم بأمره يحتاج إلى مدارسة ، لكن نتائج العلم بخلقه ، ونتائج العلم بأمره هذه المعلومات تستقر في الدماغ ، قد يكون الإنسان أمهر طبيب في الأرض ، وهو لئيم لؤماً لا يوصف ، قد يكون بأعلى اختصاص ، ويسلك سلوكاً لا يرضي .
فالعلم بأمره وبخلقه معلومات دقيقة جداً تحتاج إلى ذاكرة ، إلى متابعة ، إلى دراسة ، إلى انتباه ... والنتيجة معلومات تستقر في الدماغ ، ولا علاقة لها بالسلوك .
العلم بالله وثمراته في الإنسان :
إن العلم به يحتاج إلى مجاهدة ، قال بعض علماء القلوب : جاهد تشاهد ، العلم به يحتاج إلى ضبط الجوارح ، ضبط اللسان ، ضبط الدخل ، ضبط الإنفاق ، ضبط البيت ، يحتاج إلى بذل ، إلى عطاء ، إلى خضوع لله عز وجل ، إلى عمل صالح ، إلى تضحية ، إلى إنجاز للوعد ، تحقيق للعهد ، يحتاج إلى أخلاق ، من ثمار العلم به أن الله يلقي في قلبك الآمن ، والأمن أثمن نعمة على الإطلاق .
والله أيها الإخوة ، في قلب المؤمن أمنٌ لو وُزِّع على أهل بلد لكفاهم .
ومن ثمار معرفة الله عز وجل الرضى ، السكينة تسعد بها ولو فقدتَ كل شيء ، وتشقى بفقدها ، ولو ملكت كل شيء ، الحكمة ، السكينة ، الرضى ، الرحمة ، النور يقذف في قلبك ، ترى الحق حقاً والباطل باطلاً .
لا يضلك عقلك ، ولا تشقى نفسك ، ولا تندم على ما فات ، ولا تخشى مما هو آت ، كل الخير ، كل السعادة ، كل الرضى ، كل السلامة ، كل الذكاء في معرفة الله ، وطاعته :
أيها الإخوة الكرام ، لا زلنا في اسم ( الأحد ) ، وقد بينت في اللقاء السابق أن الواحد الذي لا شريك له ، والذي لا ند له ، ولا مثيل له ، ولا مشابه له .
لا يغيب عن بالكم أن الأعداد على نوعين ، أعداد كمية ، وأعداد نوعية ، فقد تقول : التقيت بأربعة طلاب ، هذا عدد كمي ، وقد تقول : هذا الطالب ترتيبه في النجاح الرابع ، الرابع نوعي ، الأربعة كمي .
لذلك الله واحد لا شريك له ، لكن الله أحد أي لا ند له ، ولا شبيه له ، ولا مماثل له .
2 – الكون يشهد أن الله ( الأحد ) الفرد الصمد :
أيها الإخوة ، هذا الكون العظيم ، كلمة كون عبر عنها القرآن الكريم بالسماوات والأرض ، والكون أو السماوات والأرض ما سوى الله ، في هذا الكون حقيقية واحدة ، أحدية هي الله ، الحق كل ما يؤكد وجود الله ، ووحدانيته ، وكماله ، هو الحق ، والحق كل عمل تتقرب به إلى هذه الحقيقة الوحيدة الأحدية ، اعتقادًا : كل ما يؤكد وجود الله ووحدانيته ، وكماله هو الحق ، وسلوكاً كل عمل يقرب إليه هو الحق ، هذا كلام شمولي ، وأما الباطل فكل ما يغفل هذه الحقيقة العظمى الأحدية أن الله موجود ، وأن الله واحد ، وأن الله كامل ، فهو الباطل ، أي توجه إلى غير الله ، أيّ تشريع صادر عن غير منهج الله ، أي تقييم لعمل بعيد عن منهج الله ، أي شيء يبتعد عن الله ، فهو الباطل ، بل أي عمل يبعدك عن الله أو يجعل حجاباً بينك وبين الله فهو باطل ، هذا كلام شمولي .
الله عز وجل أحد ، واحد أحد ، فرد صمد ، لم يلد ، ولم يولد ، هو الحقيقة الأحدية ، ولا شيء سواه ، ما سواه خاضع له ، فأيّ فكر ، أيّ كتاب ، أي تأليف ، أية قصة أي عمل ، أي طرح ، أي تفسير ، أي تعليق يؤكد وجود الله ، ويؤكد وحدانيته ، ويؤكد كماله فهو الحق ، وأي إغفال ، أو إبعاد عن هذه الحقيقة فهو الباطل ، وأي عمل يقرّب إليه فهو السلوك الحق ، وأي عمل يحجب عنه فهو السلوك الباطل ، هذا تعريف جامع مانع للحق والباطل .
الخير كله في اتباع منهج الواحد الأحد :
كلُّ عمل ، أو كل تصور ينطلق من منهج الله فهو الخير ، وكل عمل ، أو كل تصور يناقض منهج الله عز وجل فهو الشر ، وإذا بدا على شبكية العين أنه ممتع ، أو أنه نافع ، لكن في المآل يعد هذا شراً .
إذاً : الخير ما جاء به وحي السماء ، وما ناقضه فهو شر ، وإن بدا للناس ممتعاً أو مريحاً ، أو يعد كسباً لهم .
الجمال الحقيقي كل ما اشتق من الله عز وجل ، من تصور ، أو من موقف ، أو من عمل فهو الجمال الحق ، وهناك جمال الأخلاق ، وجمال التواضع ، وجمال الوفاء ، وجمال الرحمة ، فأيّ سلوك ، وأيّ تصور لم يؤخذ من منهج الله عز وجل ، بل أيّ سلوك تفلت من منهج الله فهو القبح بعينه ، هذه الحقيقة الأحدية هي ميزان الحق ، والخير ، والجمال .
الحق والباطل واللعب :
ولكن لا بد من وقفة متأنية : ما هو الحق ؟ الحقيقة أن الحق لابس خلق السماوات والأرض ، فكل شيء خلقه الله عز وجل هو حق ، كيف ؟ الآية الكريمة :
﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ﴾
( سورة التغابن الآية : 3 )
قال علماء التفسير : لابس الحق ، فالحق مشى مع كل شيء خلقه الله ، ولابس خلق السماوات والأرض .
أيها الإخوة ، ما تعريف الحق ؟ أحياناً الله عز وجل وصف آيات القرآن الكريم بأنها مثاني ، قال بعض العلماء : إن كل آية تنثني على أختها فتفسرها .
ما هو الحق ؟ نقيض الباطل ، ما هو الباطل ؟ الشيء الزائل ، فأي شيء باقٍ على الدوام إلى أبد الآبدين هو الحق ، وأي شيء زائل هو الباطل ، وقد قال الله عز وجل :
﴿ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ﴾
( سورة الإسراء )
وزهوق على وزن فعول ، وفعول من صيغ المبالغة ، وإذا بالغنا في الشيء فالمبالغة تتجه إلى الكم والنوع ، يعني أكبر باطل بالمئة السنة الماضية ، الباطل الذي شغل نصف العالم الشرقي ، والذي رفع شعار : ( لا إله ) ، ألم ينتهِ ؟
﴿ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ﴾
هذا الباطل عنده من القنابل النووية ما يدمر به القارات الخمس خمس مرات ، ومع ذلك :
﴿ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ﴾
يعني مليون نوع من الباطل زاهق ، وأكبر باطل زاهق ، فصيغة المبالغة تنصب على الكم أو النوع .
فالحق نقيض الباطل ، والباطل هو الشيء الزائل ، إذاً : الحق هو الباقي ، فكم من مذهب وضعي ظهر في الأرض ؟ كم من إيديولوجيات مِن صنع الإنسان ظهرت ، ثم انتهت ، بل ثم أصبحت في الوحل ؟ لأنها باطلة ، أما هذا الدين العظيم ، مع أن العالم كله في قاراته الخمس يحاربه ، بل إن حرباً عالمية ثالثة أُعلنت على هذا الدين وهو شامخ كالطود ، وهو يزداد نمواً ، بل هو الدين الأول نمواً .
هذا الذي دعا بعض العلماء الغربيين الذين هداهم الله إلى الإسلام ، وقد زاروا جالية إسلامية في بريطانيا ، وزارنا عالم كبير في دمشق ، وذكرت له هذا القول ، فقال : أنا سمعت هذا القول من فمه ، وقاله أمامي ، قال : أنا لا أصدق أن يستطيع العالم الإسلامي اللحاق بالغرب على الأقل في المدى المنظور ، لاتساع الهوة بينهما ، ولكنني مؤمن أشد الإيمان أن العالم كله سيركع أمام أقدام المسلمين ، لا لأنهم أقوياء ، ولكن لأن خلاص العالم في الإسلام ، بشرط أن يحسنوا فهم دينهم ، وأن يحسنوا تطبيقه ، وأن يحسنوا عرضه على الطرف الآخر .
ما هو اللعب ؟ هو العبث ، عمل بلا هدف ، كاثنين جلسا ليلعبا النرد إلى الساعة الثالثة ليلا ، ماذا ينتج عن هذا ؟ عمل بلا هدف ، تضييع للوقت ، بتعبير آخر قتل للوقت ، أما لو قرأت كتابا ، لو التحقت بجامعة ، وقرأت الكتاب المقرر ، وفيه امتحان ، ونجحت أخذت شهادة ، الشهادة فيها تعيين ، والتعيين فيه دخل ، الدخل معه زواج ، الزواج معه بيت ، وعمل ، أي أثر مستقبلي ، هذا الباطل تضييع للوقت .
بالمناسبة أيها الإخوة ، الإنسان وقت ، الإنسان بضعة أيام ، كلما انقضى يوم انقضى بضع منه ، وما من يوم ينشق فجره ، إلا وينادي : يا ابن آدم ! أنا خلق جديد ، وعلى عملك شهيد ، فتزود مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة .
إذاً : الحق نقيض الباطل ، والباطل الشيء الزائل ، الحق إذاً الشيء الثابت والباقي والدائم .
الحق نقيض اللعب ، واللعب هو العبث ، والعبث عمل بلا أثر مستقبلي .
من صفات اللعب : لما يشتري الأب سيارة صغيرة لابنه ، ويمضي وقتاً طويلاً في تحريكها فوق أثاث البيت ، يرافق هذا التحريك صوت منه يدل على صعوبة الطريق ، هذه السيارة الصغيرة تملأ عالمه كله ، فلو أخذتها منه يكاد يموت من البكاء ، حينما يصبح طبيباً ، ويُذكر بأعماله ألا يضحك على نفسه ؟
من صفات اللعب أنك إذا تجاوزته رأيته صغيراً ، هذا لعب ، وقت ضائع ، عمل لا طائل منه ، عمل لا هدف له ، عمل لا جدوى منه .
فلذلك ورد في بعض الأحاديث :
(( إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها ، ويكره سفسافها ودنيها )) .
هناك إنسان في الأفق الأعلى ، و إنسان في الأفق الأدنى ، إنسان تشغله معالي الأمور ، وإنسان يعيش في سفسافها ودنيها ، فلذلك الحق هو الشيء الثابت والهادف ، ليس باطلاً فهو ثابت ، وليس عبثاً فهو هادف .
الإنسان أين بطولته ؟ أين ذكاءه ؟ أين عقله ؟ في أن يربط نفسه مع الحق ، فإذا ربط نفسه مع الحق فله مستقبل في الدنيا والآخرة ، أما إذا ربط نفسه مع الباطل ، ما دام هذا الباطل قائماً ينعم به ، فإذا أزيح الباطل انتهى معه ، فكل الذكاء ، وكل البطولة ، وكل النجاح ، وكل الفلاح ، وكل التوفيق ، أن تربط نفسك مع الحق الأزلي الأبدي ، الثابت الباقي في الدنيا والآخرة .
هؤلاء الذين وقفوا مع النبي الكريم في محنته ، في أقسى أيام الدعوة ، أين هم الآن ؟ في أعلى عليين ، أسماءهم في لوحة الشرف ، وهؤلاء الذين انضموا للباطل القوي الغني ، قريش بقدرتها ، وغناها ، وأسلحتها ، وحقدها ، وفتكها ، أين هم الآن ؟ في مزبلة التاريخ .
أيها الإخوة ، هذا كلام دقيق ، الله عز وجل واحد أحد ، فرد صمد ، الحقيقة الإلهية حقيقة أحدية ، وأيّ تصور ، وأيّ فكر ، وأيّ طرح يؤكد وجود الله ووحدانيته وكماله فهو الحق ، وأي سلوك يقرب إليه فهو الحق ، وأي إغفال لهذه الحقيقة الأحدية فهو الباطل ، وأي سلوك يبعد عنها فهو الباطل ، من هنا كانت البطولة أن تكون مع الحق ، وأن تكون مع الشيء الثابت .
يروى أن أحد خصوم أبي حنيفة النعمان التقى به عند جعفر المنصور ، أراد هذا الخصم أن يوقع أبا حنيفة في حرج كبير ، قال له : إذا أمرني الخليفة ـ هو في حضرة الخليفة ـ أن أقتل إنساناً ، أأقتله أم أتريث ؟ فلعله مظلوم ؟ فسأله : هل الخليفة على الحق أم على الباطل ؟ قال له : على الحق ، قال له : كن مع الحق ، سؤال محرج جداً في حضرة الخليفة ، وكان شديداً قاسياً جداً ، فسأله أبي حنيفة : الخليفة على الحق أم على الباطل ؟ لا يتجرأ أن يقول : على الباطل ، قال له : على الحق ، قال له : كن مع الحق ، فلما خرج قال : أراد أن يقيدني فربطته .
إخواننا الكرام ، مرة ثانية النجاح كل النجاح ، الفلاح كل الفلاح ، الفوز كل الفوز التفوق كل التفوق ، البطولة كل البطولة ، أن تكون مع الحق ، مع الثابت ، أن تكون مع الله ، سبحانك إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت .
كل متاع الدنيا إلى مللٍ وفناء :
عندنا حقيقة دقيقة جداً في هذا الدرس ، لأنك مخلوق لمعرفة الله ، لأنك مخلوق لجنة عرضها السماوات والأرض ، أنت في أصل التصميم لا نهائي ، فلا شيء يملؤك إلا الله ، وقد تختار وظيفة ، بعد أن تصل إليها تمل منها ، تختار المال بعد أن تحوزه تمل منه ، قد تختار المرأة ، الشيء الأول الذي يمتعك بعد حين تمله ، كل شيء ما سوى الله يمل ، وكل شيء ما سوى الله يخبو لمعانه ، وكل شيء ما سوى الله لا يمكن أن يمدك بسعادة مستمرة ، بل متناقصة ، هكذا شاءت حكمة الله .
هؤلاء الذين بلغوا كل أهدافهم المادية ، يعيشون بحالة ملل ، وسقم ، لأن نفسه مصممة بأن تعرف الله .
بشكل أو بآخر حينما تختار هدفاً أرضياً ، وأنت مصمم لمعرفة الله ، هذا الهدف ما دام بعيداً عنك لعلك تحلم به ، فإذا وصلت إليه انتهى ، هذه مشكلة الناجحين في الحياة .
لذلك هناك جسر بين قارتين ، يعد ثاني جسر في العالم ، في أثناء افتتاحه افتتحه رئيس الجمهورية ، وإلى جانبه المهندس من بلد يعد أحد خمسة مهندسين في العالم ، بعد أن قص الشريط الحريري ألقى بنفسه في البحر ، فنزل ميت ، فذهبوا إلى غرفته في الفندق فرأوا ورقة كتب عليها : ذقتُ كل شيء في الحياة ، فلم أجد لها طعماً ، فأردت أن أذوق طعم الموت .
ليس ثمة أصعب من إنسان يعيش بلا هدف ، إن ربطت نفسك مع الحق فأنت مع الله ، أنت مع الباقي ، الأزلي ، الأبدي ، الذي كل شيء بيده ، وإن لم تصل لهذه الحقيقة فقد تستمتع بالمال أحياناً ، بالمرأة أحياناً ، بقصر ، ببيت ، بمركز ، بمنصب ، هذه الأشياء بعد أن تصل إليها تفقد لمعانها ، ويخبو بريقها ، وتشعر أنها أصغر بكثير بما كنت تتوقع .
مستحيل وألف ألف أَلف مستحيل أن تسعد بغير الله ، والدليل :
﴿ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾
( سورة الرعد )
هناك فراغ في النفس لا يملؤه المال ، لا يملؤه المنصب ، لا تملؤه الزوجة الجميلة ، لا يملؤه إلا معرفة الله .
أنت في أصل التصميم مصمم لمعرفة الله ، فأي شيء ما سوى الله صغير جداً أمامك ، قبل أن تصل إليه تتوقع أنه سيسعدك ، لكن بعد أن تصل إليه تكتشف الحقيقة المرة ؛ أنه ليس بشيء .
أحياناً في البدايات يكون المال كل شيء ، وفي منتصف الحياة المال شيء ، أما على فراش الموت المال ليس بشيء ، لهذا مرة عليه الصلاة والسلام قال :
(( صاحب هذا القبر ، إلى ركعتين مما تحقرون من تنفلكم خير له من كل دنياكم )) .
[ ورد في الأثر ]
خاتمة :
إذاً : معنى أن الله ( الأَحَد ) يعني حقيقة أحدية ، وأيّ شيء يؤكد وجوده وكماله ، ووحدانيته فهو الحق ، وأي سلوك يقرب إليه فهو الحق ، وأي تصور يغفل ذاته العلية فهو باطل ، وأي حركة تبعدك عنه فهي الباطل ، فلذلك كن مع الحق ، ولا تخشَ أحداً ، كن مع الحق فالمستقبل لك ، كن مع الحق فخطك البياني في صعود مستمر .
أستاذ شاكر السلمان
أحييك بتحية الاسلام
أسأل الله تعالى أن يمن علينا برحمة ومغفرة من عنده إنه قريب مجيب الدعاء
شكراً لك أستاذي لأنك كنت هنا
لك مني التقدير والاحترام / محمد