أحمد بن زيدون
وُلِدتُ في قرطبة سنة 1003م (394هـ) واسمي أحمد بن عبد الله بن زيدون أبي فقيه من سلالة بني مخزوم القرشيين، وجدّي لأمي صاحب الأحكام الوزير أبو بكر محمد ابن محمد بن إبراهيم، وكلمة صاحب الأحكام تعني أنه اشتغل بالفقه والقضاء.
تعلَّمت في جامعة قرطبة التي كانت أهم جامعات الأندلس يَفِدُ إليها طلاب العلم من الممالك الإسلامية والنصرانية على السواء.. ولمعت بين أقراني كشاعر.. وكان الشعر بداية تعرُّفي بفراشة ذلك العصر ولادة بنت المستكفي الخليفة الأموي الضعيف المعروف "بالتخلف والركاكة، مشتهرًا بالشرب والبطالة، سقيم السر والعلانية، أسير الشهوة، عاهر الخلوة" كما يقول عنه أبو حيان التوحيدي.
كانت ولادة جميلة مثقفة شاعرة مغنية، لها مجلس بقرطبة يضم أشهر مثقفي وشعراء هذا العصر،وقد أحببتها حبًّا ملك عليَّ حياتي، وأحبتني هي أيضًا، وعشت معها في السعادة أيامًا، ثم هجرتني لسبب تافه اختلف فيه المؤرخون بغناء إحدى جواريها في حضورها فأغضبها مني ذلك.. ولكي تغيظني وجدت عاشقًا جديدًا هو الوزير أبو عامر بن عبدوس..وقد حاولت إبعادها عن ابن عبدوس واستعادة الأيام الجميلة الماضية، لكنها رفضت، واتهمني ابن عبدوس بالضلوع في مؤامرة سياسية لقلب نظام الحكم وزُجَّ بي في السجن.. وكتبت قصائد كثيرة أستعطف فيها "أبا الحزم جهور" حاكم قرطبة، كما كتبت قصائد أخرى لأبي الوليد بن أبي الحزم ليتوسط لي لدى أبيه، وكان أبو الوليد يحبني ، لكن وساطته لم تنفع، فهربت من السجن، واختبأت في إحدى ضواحي قرطبة وبقيت أرسل المراسيل إلى الوليد وأبيه حتى تمَّ العفو عني، فلزمت أبا الوليد حتى تُوُفِّيَ أبو الحزم وخلفه أبو الوليد الذي ارتفع بي إلى مرتبة الوزارة.
أثناء ذلك كله لم أنْسَ حبي الكبير لولادة التي أهملتني تمامًا، فجعلني أبو الوليد سفيرًا له لدى ملوك الطوائف حتى أتسلى عن حبي بالأسفار وأنساه، لكن السفر زاد من حبي لولادة وشوقي إليها، فعدت إلى قرطبة.. وما لبثت أن اتهمت مرة أخرى بالاشتراك في محاولة قلب نظام الحكم على أبي الوليد بن جهور الذي غضب علي، فارتحلت عن قرطبة وذهبت إلى بلاط المعتضد بن عباد في أشبيلية، وهناك لقيت تكريمًا لم يسبق له مثيل، ثم زادت مكانتي وارتفعت في عهد المعتمد بن المعتضد، ودان لي السرور وأصبحت حياتي كلها أفراحًا لا يشوبها سوى حسادي في بلاط المعتمد أمثال "ابن عمار" و "ابن مرتين" اللذين كانا سببًا في هلاكي في الخامس عشر من رجب سنة 463 هجرية؛ إذ ثارت العامة في أشبيلية على اليهود فاقترحا على المعتمد إرسالي لتهدئة الموقف، واضطررت لتنفيذ أمر المعتمد رغم مرضي وكبر سني، مما أجهدني وزاد المرض علي فدهمني الموت.عام 1070م.
وبقيتُ حتى آخر يوم في حياتي شاعرًا عاشقًا، فبالشعر عشقت، وبالشعر خرجت من السجن، وبالشعر نلت حظوظي من الحياة.. ولم أنس أبدًا ذكرى ولادة وأيامي الجميلة معها.. وقد كانت حياتي المتقلبة، وحبي الكبير لولادة بالإضافة إلى أعمالي الشعرية والنثرية المتميزة موضوعات لدراسات وإبداعات كثيرة لعل أشهرها مسرحية الشاعر المصري فاروق جويدة "الوزير العاشق" التي قام ببطولتها عبد الله غيث وسميحة أيوب.
ومن أهم أعمالي الباقية للآن غير أشعاري "الرسالة الجدية" التي استعطفت فيها ابن جهور ليخرجني من السجن، و"الرسالة الهزلية" التي كتبتها على لسان ولادة ذمًّا في ابن عبدوس حبيبها الجديد، وهي الرسالة التي زادت الهوة بيني وبينها وعجلت بابن عبدوس ليزج بي في السجن.. وقد بقيت هاتان الرسالتان علامة على الموهبة الكبيرة والثقافة المتنوعة التي تميزت بها في أعمالي الشعرية والنثرية على السواء.
النونية الشهيرة
أَضْحَى التَّنَائِي بَدِيْلاً مِنْ تَدانِيْنا =وَنَابَ عَنْ طِيْبِ لُقْيَانَا تَجَافِيْنَا
ألا وقد حانَ صُبح البَيْنِ صَبَّحنا =حِينٌ فقام بنا للحِين ناعِينا
مَن مُبلغ المُبْلِسينا بانتزاحِهم =حُزنًا مع الدهر لا يَبلى ويُبلينا
أن الزمان الذي ما زال يُضحكنا =أنسًا بقربهم قد عاد يُبكينا
غِيظَ العِدى من تساقينا الهوى فدعوا =بأن نَغُصَّ فقال الدهر آمينا
فانحلَّ ما كان معقودًا بأنفسنا =وانبتَّ ما كان موصولاً بأيدينا
لم نعتقد بعدكم إلا الوفاءَ لكم =رأيًا ولم نتقلد غيرَه دينا
ما حقنا أن تُقروا عينَ ذي حسد =بنا، ولا أن تسروا كاشحًا فينا
كنا نرى اليأس تُسلينا عوارضُه =وقد يئسنا فما لليأس يُغرينا
بِنتم وبنا فما ابتلت جوانحُنا =شوقًا إليكم ولا جفت مآقينا
نكاد حين تُناجيكم ضمائرُنا =يقضي علينا الأسى لولا تأسِّينا
حالت لفقدكم أيامنا فَغَدَتْ =سُودًا وكانت بكم بيضًا ليالينا
إذ جانب العيش طَلْقٌ من تألُّفنا =وموردُ اللهو صافٍ من تصافينا
وإذ هَصَرْنا غُصون الوصل دانية =قطوفُها فجنينا منه ما شِينا
ليسقِ عهدكم عهد السرور فما =كنتم لأرواحنا إلا رياحينا
لا تحسبوا نَأْيكم عنا يُغيِّرنا =أن طالما غيَّر النأي المحبينا
والله ما طلبت أهواؤنا بدلاً =منكم ولا انصرفت عنكم أمانينا
يا ساريَ البرقِ غادِ القصرَ فاسق به =من كان صِرفَ الهوى والود يَسقينا
واسأل هناك هل عنَّي تذكرنا =إلفًا، تذكره أمسى يُعنِّينا
ويا نسيمَ الصِّبا بلغ تحيتنا =من لو على البعد حيًّا كان يُحيينا
فهل أرى الدهر يَقصينا مُساعَفةً =منه ولم يكن غِبًّا تقاضينا
ربيب ملك كأن الله أنشأه =مسكًا وقدَّر إنشاء الورى طينا
أو صاغه ورِقًا محضًا وتَوَّجَه =مِن ناصع التبر إبداعًا وتحسينا
إذا تَأَوَّد آدته رفاهيَة =تُومُ العُقُود وأَدْمَته البُرى لِينا
كانت له الشمسُ ظِئْرًا في أَكِلَّتِه =بل ما تَجَلَّى لها إلا أحايينا
كأنما أثبتت في صحن وجنته =زُهْرُ الكواكب تعويذًا وتزيينا
ما ضَرَّ أن لم نكن أكفاءَه شرفًا =وفي المودة كافٍ من تَكَافينا
يا روضةً طالما أجْنَتْ لَوَاحِظَنا =وردًا أجلاه الصبا غَضًّا ونَسْرينا
ويا حياةً تَمَلَّيْنا بزهرتها =مُنًى ضُرُوبًا ولذَّاتٍ أفانِينا
ويا نعيمًا خَطَرْنا من غَضَارته =في وَشْي نُعمى سَحَبْنا ذَيْلَه حِينا
لسنا نُسَمِّيك إجلالاً وتَكْرِمَة =وقدرك المعتلى عن ذاك يُغنينا
إذا انفردتِ وما شُورِكْتِ في صفةٍ =فحسبنا الوصف إيضاحًا وتَبيينا
يا جنةَ الخلد أُبدلنا بسَلْسِلها =والكوثر العذب زَقُّومًا وغِسلينا
كأننا لم نَبِت والوصل ثالثنا =والسعد قد غَضَّ من أجفان واشينا
سِرَّانِ في خاطرِ الظَّلْماء يَكتُمُنا =حتى يكاد لسان الصبح يُفشينا
لا غَرْو فِي أن ذكرنا الحزن حِينَ نَهَتْ =عنه النُّهَى وتَركْنا الصبر ناسِينا
إذا قرأنا الأسى يومَ النَّوى سُوَرًا =مكتوبة وأخذنا الصبر تَلْقِينا
أمَّا هواكِ فلم نعدل بمنهله =شِرْبًا وإن كان يروينا فيُظمينا
لم نَجْفُ أفق جمال أنت كوكبه =سالين عنه ولم نهجره قالينا
ولا اختيارًا تجنبناه عن كَثَبٍ =لكن عدتنا على كره عوادينا
نأسى عليك إذا حُثَّت مُشَعْشَعةً =فينا الشَّمُول وغنَّانا مُغَنِّينا
لا أَكْؤُسُ الراحِ تُبدى من شمائلنا =سِيمَا ارتياحٍ ولا الأوتارُ تُلهينا
دُومِي على العهد، ما دُمْنا، مُحَافِظةً =فالحُرُّ مَنْ دان إنصافًا كما دِينَا
فما اسْتَعَضْنا خليلاً مِنك يَحْبسنا =ولا استفدنا حبيبًا عنك يُثْنينا
ولو صَبَا نَحْوَنا من عُلْوِ مَطْلَعِه =بدرُ الدُّجَى لم يكن حاشاكِ يُصْبِينا
أَوْلِي وفاءً وإن لم تَبْذُلِي صِلَةً =فالطيفُ يُقْنِعُنا والذِّكْرُ يَكْفِينا
وفي الجوابِ متاعٌ لو شفعتِ به =بِيْضَ الأيادي التي ما زلْتِ تُولِينا
عليكِ مِني سلامُ اللهِ ما بَقِيَتْ =صَبَابةٌ منكِ نُخْفِيها فَتُخفينا
لابد لمن يتحدث عن الحبّ في الأدب الأندلسي من التوقف عندي وحبّي للأميرة ولادة بنت المستكفي بالله, آخر الخلفاء الأمويين في القرن الحادي عشر الميلادي. حيث نشأتُ في بيت علم وجاه واشتُهرت منذ مطلع شبابي بجودة شعري ونثري, وسعة ثقافتي ووسامة طلعتي, وشبّت ولادة في قصر الخلافة من أم أجنبية, فكانت آية في الجمال, كما وصفها المؤرخون وكذلك أنا في شعري, ميّالة للتحرر, فتحت قصرها لاستقبال الشعراء والأدباء بعد مقتل أبيها متحرّرة من القيود السابقة, فكان لمنتداها أثر كبير في المجتمع القرطبي إبان حكم أبي الحزم بن جهور فيه, وأثرٌ أعمق في حياتي وشعري منذ أن التقينا في ندوتها, وأنا وزير آنذاك في حكومة ابن جهور. ولم أكن أقلّ عراقة من الأميرة ولادة لتحدري من أسرة المخزومي المعروفة, فأُعجبت بي بادئ الأمر وهمتُ بها منذ أول لقاء في قصرها, فأخذنا نتبادل الرسائل الشعرية بعد فترة وجيزة التي عبّرت لنا عن حبنا الكبير على مدى ثلاثين سنة من حياتنا, ولكن ما وصل إليكم من شعر ولادة قليل جداً بالقياس إلى قصائدي فيها التي تملأ ديواني بالإضافة إلى رسالتي الهزلية التي وجّهتها إلى خصمي في حبها الوزير ابن عبدوس. لقد نعمت بحبي لولادة وشقيتُ لما لقيته من مؤامرات علي أدّت إلى بعدي عنها وعن قرطبة ولكنها لم تتمكن من تدمير حبّي الجامح لها. لقد أرسلت إليها بعد أوّل لقاء هذين البيتين الرقيقين:
إلا ذكرتُكِ ذكرَ العَيْن بالأَثَرِ =ما جالَ بَعْدَكِ لحْظي في سَنا قمرٍ
فهمتُ معنى الهوى من وَحْي طَرفِكِ لي= إن الحِوارَ لمفهومٌ من الحَوَرِ
تشير أشعاري في ولادة إلى أنها لعبت بعواطفي في بادئ الأمر مع أنها أعجبت بي منذ أول لقاء, فكنت أرسل إليها أبياتاً من شعري المعبّر بصدق عن حبي لها دون أن تتجاوب أو تردّ عليها إلى أن أعربت لي عن ميلها إلي بإرسال باقة من الياسمين لي بواسطة جاريتها عتبة الملازمة لها, ففرحتُ أيّما فرح, وأرسلت إليها الأبيات التالية أخاطبها فيها بصيغة المذكّر دفعاً للشبهات:
ورامشةٍ يَشْفِي الغليلَ نسيمُها= مُضمّخةِ الأنفاسِ, طيبةِ النَّشْرِ
أشارَ بها نحوي بنانٌ مُنْعَمٌ =لأَغيد مكحولِ المدامعِ بالسِّحْر
إذا هو أهدى الياسمينَ بِكَفِّهِ=أَخذتُ النجومَ الزُّهْرَ من راحةِ البَدْرِ
له خُلُقٌ عذبٌ, وَخلْقٌ مُحَسَّنُ =وطرفٌ كَعَرْفِ الطيبِ أوْ نَشْوَةِ الْخَمْرِ
يُعَلِّلُ نفسي من حديثٍ تَلَذُّهُ =كَمِثْلِ المنى والوَصْلِ في عُقْبِ الهَجْرِ
ولما لم تردّ بعثت إليها بأبيات لاحقة من أرق شعري فأرسلت إلي مع جاريتها عُتْبة قصاصة تقول لي فيها:
ترقَّبْ إذا جُنَّ الليلُ زيارتي= فَإني رأيتُ الليلَ أكْتَمَ للْسِّرِّ
وبي مِنْك ما لو كانَ بالشمسِ لم تَلُحْ= وبالبدْرِ لم يَطْلُعْ, وبالنجم لم يسْرِ!
وأحسستُ أني ملكتُ الدنيا كلها عندما قرأت بوحها بحبها لي لي.