1- بغية الايضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، الناشر:مكتبة الآداب
وقد اختُلف في وقوع التخلص في القرآن؛ فقيل: لا يقع فيه؛ لأنه يقع في الغالب متكلفا، والقرآن لا تكلف فيه. وقيل: إنه قد وقع فيه؛ كقوله تعالى في أول سورة يوسف: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}.
فالسورة موضوعة لقصة يوسف، وقد افتتحها بذكر القرآن، ثم تخلص إليها هذا التخلص.
2- من "الطراز لأسرار البلاغة و حقائق علوم الإعجاز" ليحيى بن حمزة العلوي اليمني
الفصل السادس: فى ذكر التخلص والاقتضاب
وقع الخلاف فى ورود التخلص فى القرآن، وحكي عن أبي العلاء محمد الغانمي أنه أنكر وروده فى التنزيل، وزعم أن كتاب الله تعالى خال عنه. وهذا فاسد؛ فإن كتاب الله تعالى لا واد من أودية البلاغة إلا وهو آخذ منه بنصيب ... ومعناه فى ألسنة علماء البيان أن يسرد الناظم والناثر كلامهما فى مقصد من المقاصد غير قاصد إليه بانفراده و لكنه سبب إليه، ثم يخرج فيه إلى كلام هوالمقصود بينه و بين الأول علقة ومناسبة ...
المثال الأول من كتاب الله تعالى
وهو قوله: "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) والذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) [الشعراء: 69- 81] ثم قال: "رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً والحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ" (83) [الشعراء: 83]، ثم أردفه بقوله: "وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) [الشعراء: 90- 91] ثم قال: "فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ والغاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) [الشعراء: 94- 95] إلى قوله: "فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) [الشعراء: 102] فلينظر إلى هذا الكلام الذى يسكر العقول رحيقه، ويسحر الألباب تحقيقه، وهو غاية منية الراغب، ونهاية مقصد الطالب؛ فإنه متى أنعم النظر فى مبانيه، و تدبر أسراره و معانيه- علم قطعا أن فيه غنى عن تصفّح الكتب المؤلفة، وكفاية عن الدفاتر المؤتلفة، فيما يقصد من معرفة هذا الأسلوب من علوم البلاغة. وقد اشتمل على تخلّصات عشرة منتظمة نوضحها بمعونة الله تعالى.
التخلص الأول
هو أنه لما أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بتلاوة نبأ إبراهيم صلوات الله عليه، و ما كان له مع أبيه و قومه من الخصومة والجدال فى عبادة الأوثان والأصنام- صدر القصة بذلك شرحا لصدره وتسلية له فيما يلاقى من قريش، ثم خرج إلى شرح حال إبراهيم وما جرى له، فانظر إلى حسن ما رتّب إبرهيم كلامه مع أهل الشرك حين سألهم عما يعبدون سؤال مقرر لا سؤال مستفهم، فأجابوه بما هم عليه من ذلك، وبالغوا فى الجهل والإفراط فى الغي، فقالوا: نعبد أصناما.
ولقد كان يكفيهم ذلك فى الإجابة عما سألهم، لكنهم تعمقوا تهالكا فى الإصرار وتماديا فى نفارهم عما دعاهم إليه بقولهم: "فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ" (71).
التخلص الثانى
أنهم لما أجابوه أراد أن يحقق عليهم الأمر حتى لا يكون لهم سبيل إلى الجحود، فخرج عن ذلك إلى إبطال ما قالوه من عبادة آلهتهم وأنحى عليها من البرهان جرازا مقضبا، ومن الإفحام كلاما منظما مهذبا، فصدره بالاستفهام تأدبا منه وملاطفة لهم، ولم يأت بحجته على جهة القطع منه بها،كمن ينكر الحدوث فى العالم فتقول له: هل يجوز عليه التغير؟ ولم يقل من أول و هلة: إن قولكم هذا باطل لا حقيقة له.
ثم أورد فى إبطال إلهيتها أدلة ثلاثة:
أولها- أنها لا تسمع دعاء، ولا تدرك نداء؛ لكونها جمادا حجارة صلدة لا حياة لها ولا حراك بها. ومن هذه حاله فكيف يكون أهلا للعبادة.
وثانيها- قوله: أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ؛ لأن من كان فيه نفع فهو حقيق بما يفعل فى حقه من رفع المنزلة وعلوالدرجة.
وثالثها- قوله: أَوْ يَضُرُّونَ (73)؛ لأن كل من قدر على النفع فهو قادر على الضرر و عكسه أيضا؛ لأن حق من كان قادرا على شيء أن يكون قادرا على ضده؛ لأن القدرة صالحة للأمرين الضدين جميعا والمختلفين، فهذه إلزامات ثلاثة لا محيص لهم عنها، فإذا كان حالها هذه الحال من عدم السمع، واستحالة النفع والضر منها. فلا يليق بحالها العبادة التى هى نهاية الخضوع والذلة للمعبود، مع عدم الأهلية والاستحقاق، هذا محال فى العقول بلا مرية.
ثم أجابوه بالإقرار بما ألزمهم من عدم ذلك منها، فزاد إقرارهم الإلزام تأكيدا و إفحاما فقالوا: الأمر فيها كما قلته لكنا وجدنا آباءنا كذلك يفعلون، فنادوا على أنفسهم بالجهالة، وأقروا بركوب الضلالة، وأنهم ما فعلوا ذلك عن نظر وتفكر وتدبر، فوصفوا نفوسهم بالقصور عن مراتب النظار، وانخرطوا فى سلك أهل الغباوة والأغمار، وزعموا أنه لا عمدة لهم فى ذلك إلا وجدان الآباء، واقتفاء آثار الأسلاف والرؤساء.
التخلص الثالث
أنه لما تحقق تعويلهم على التقليد خرج إلى إبطال أمره وتزييفه بقوله: "قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) [الشعراء: 75- 76] فأورد الرد عليهم بالاستفهام على جهة الإنكار متعجبا من حالهم حيث جعلوا ما لا يكون حجة و برهانا وليس حجة، بل هو شبهة منكرة، وأخرجه عن أن يكون حجة، كأنه قال: أفلا ترون ما جعلتموه مستندا لعبادتكم أنتم ومن سلف من آبائكم القدماء، هل مثله يعبد مع كونه لا يسمع ولا ينفع ولا يضر ولا يملك شيئا. وفيه تعريض بحالهم وتجهيل لهم وأن من هذه حاله من عبادة حجر لا يضر ولا ينفع فلا عقل له، ولا يكون معدودا من العقلاء.
التخلص الرابع
هو أنه لما ذكر أنهم لا يستحقون العبادة خرج إلى ذكر عداوته لمن هذه حاله، فلهذا قال عقيب ذلك: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ- كأنه صور المسألة فى نفسه على معنى "إنى فكرت فى أمرى ونظرت فى حالى فرأيت أن عبادتى لها عبادة للشيطان العدو فاجتنبتها". وإنما قال: «فإنهم عدوّ لى» بالإضافة إلى نفسه ولم يقل: فإنهم عدو لهم؛ ليريهم بذلك أنها نصيحة ينصح بها نفسه؛ ليكون ذلك أدعى لهم إلى القبول لقوله، و أبعث إلى الاستماع لخطابه، ولو قال: فإنهم عدو لكم- لم يفد هذه الفائدة.
وكان القياس فى الخطاب بالضمير أن يقول: فإنها عدو لى، أو فإنهن؛ لأنه راجع إلى الأصنام، والضمير فيمن لا يعلم أن يكون على هذه الصورة، ولكنه أورده على ضمير العقلاء لأمرين:
أما أولا فلأنهم لما زعموا أنها تستحق العبادة، وأنها يوجد من جهتها النفع ودفع الضر صارت لذلك بمنزلة العقلاء.
وأما ثانيا فلأنهم لما كانوا فى الإنكار على سواء وجه الخطاب إليهم على جهة تغليب حالهم على حالها.
التخلص الخامس
هو أنه لما ذكر أنها غير مستحقة للعبادة وذكر العداوة لها خرج إلى ذكر الله تعالى، فأجرى عليه تلك الصفات اللائقة بذاته من إعظام حاله، وإظهار جلاله، وتفخيم شأنه، وتعديد نعمه من لدن إنشائه، وإبداع ذاته إلى حين مرضه، ودنو وفاته، مع ما يرجى فى الآخرة من عفوه ورحمته؛ ليعلم أن كل من هذه حاله فهو حقيق بالعبادة واجب على الخلق الخضوع له، والاستكانة لعظمته. وفيه تعريض بحال ما يعبد من دونه فى الاتصاف بنقائض هذه الصفات كما ترى.
التخلص السادس
هو أنه لما فرغ مما ذكرناه خرج إلى ما يكون ملائما له ومناسبا فدعا إلى الله تعالى بدعوات أهل الإخلاص، وابتهل إليه ابتهال أهل الأمانة؛ لأن الطالب من مولاه إذا قدّم قبل سؤاله والتضرع إليه ذكره بالصفات الحسنى والاعتراف بنعمه كان ذلك أسرع للإجابة، وأنجح للمطلوب. ولهذا فإن كل من أراد حاجة إلى الله تعالى فإنه يستحب له تقديم الثناء على الله بما هو أهله، وذكر صفاته وحمده وشكره. ثم يسأل حاجته بعد ذلك- فإن ذلك يكون أقرب للإجابة وأسنى لإنجاح الرغبة وإنجازها كما ورد ذلك فى الآداب الشرعية.
التخلص السابع
هو أنه لما فرغ مما يخصه من الدعاء لنفسه ولأبيه بالدعوات الصالحة خرج عنه إلى ذكر البعث يوم القيامة ومجازاة الله من آمن به واتقاه وأخلص له العبادة بالجنة وأن كل من عصاه وعبد غيره فإنه مجازيه بالنار، فجمع فى ذلك بين الترغيب فى الطاعة والترهيب من المعصية، وضمّ إليه ذكر الجنة وإزلافها لأهلها من أهل التقوى وذكر النار وتبريزها لأهلها من أهل الغواية كعادته تعالى فى كتابه الكريم، إذا ذكر وعدا أتبعه بالوعيد وعكسه أيضا؛ ليكون حاصلا على الكمال ومراعاة المطابقة فى كل الأحوال.
التخلص الثامن
هو أنه لما فرغ مما ذكره عاد إلى سؤال المشركين ثانيا عند معاينة الأهوال فى يوم الجزاء بقوله: وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93)
[الشعراء:92- 93] وإنما أورده على جهة التوبيخ والاستهزاء وأنهم لا ينصرونكم فى دفع السوء عنكم، ولا ينتصرون فى دفع ما يخصهم أنفسهم بحال. ثم وصف حالهم فى النار بقوله: «فكبكبوا» أى الآلهة والغاوون، والكبكبة تكرير الكب؛ لأنه إذا ألقي فى النار فإنه يكب فيها مرة بعد مرة حتى يستقر فى قعرها، فجعل تكرير اللفظ دلالة على تكرير المعنى على جهة المطابقة، اللهم أجرنا من عذابك برحمتك الواسعة.
التخلص التاسع
هو أنه لما فرغ من ذلك خرج إلى حكاية ما يقول أهل النار فى النار من الخصومة الناشئة بينهم، وإظهار الحسرة والندامة المفرطة على ما كان منهم من عبادة غير الله ومساواته بمن لا يساويه، وانقطاع ما فى أيديهم من شفاعة شافع أو صداقة صديق كما يكون للمؤمنين فإن شفعاءهم الملائكة والأنبياء وأصدقاءهم هم أهل الإيمان والتقوى، فأما الكفار فلا شيء لهم من ذلك. فعند هذا تعظم الحسرات وتنقطع الأفئدة حسرة وإياسا عن النفع والخلاص عما هم فيه.
التخلص العاشر
هو أنه لما فرغ من ذلك خرج إلى ذكر تمنيهم الرجعة إلى الدنيا بقوله: «فلو أنّ لنا كرّة»، فننزع عما كنا عليه من عبادة غير الله وسلوك طريق التقوى، والكون من جملة المؤمنين فى ذلك. و«لو» ههنا بمعنى ليت فلا تفتقر إلى جواب مقدر وجوابها فتكون، أو تكون باقية على بابها وجوابها يحذف كثيرا وتقديره "فلو رجعنا لفعلنا كيت وكيت من الأفعال الصالحة".
فانظر إلى هذه الآية الشريفة كيف اشتملت على هذه التخلصات اللطيفة مع ما حازته من العجائب الحسان والأسرار ذوات الأفنان، والعجب من الغانمى حيث أنكر التخلص أن يكون واقعا فى كتاب الله تعالى، و ما ذاك إلا من أجل اشتغاله بفن الشعر والكتابة عن الاطلاع إلى أسرار كتاب الله تعالى، و هو أظهر من أن يحتاج إلى طلب وعناية
خاصة فى سورة الأعراف وسورة يوسف؛ فإنه سلك فيهما فنونا كثيرة، وتخلص إلى أودية مختلفة. والقرآن كله مملوء منه؛ لأنه لا يزال تكرير الكلام من وعد إلى وعيد، ومن ذكر قصص إلى ذكر أمثال، ومن ذكر أمر إلى نواه، ومن ترغيب إلى ترهيب، إلى غير ذلك فكيف يمكن إنكار ما هذا حاله وهو أوسع ما يكون فى التنزيل.