الموت يقبض بناجذيه على أضلاعه المتهتكة، سمادير الضياع تحوم أمام عينيه فيما نهر من الأرق ينهال دماً من دماغه على عينيه فيكاد يدفعهما من محجريهما.
صوت أمه من الخارج:
- بنيّ... أقبل فالغداء جاهز.
يقوم متهالكاً، في وده لو لقي الخلاص كيفما يكن، ذكرياته القاتلة والأجواء العفنة التي عرفها في حياته تكاد تذهب بما بقي من عقله بعدما جففت ينبوع عواطفهوتركته هيكلاً ليس به من الإنسانية إلا رسمها.
- أرجوك يا بني، إنك تمزق فؤادي بحال، أرجوك، حاول أن تغير.
- لو كان التغيير في يدي أكنتِ رأيتني هكذا؟ أتحسبين أن أحداً يلج باب الشقاء راغباً؟
تطرق وقد ملكها اليأس، حاله سكين تذبحها منذ زمن ولا تستطيع دفعها، لا وسيلة تعرفها إلا سلكتها فلم تأت بنتيجة.
الهاتف يرن.
-تلك خطيبتك، هذه خامس مرة تتصل بها اليوم.
-ليس بي قدرة على الكلام، أرجوكِ دعيني مني ومنها.
يسرع إلى غرفته، الموت يحف به من كل جهة وما هو بميت.
لمعت في ذهنه فكرة على حين غرة:
- أيستحق شيء في الدنيا مما فعل بك هذا أن تضيع حيلاتك من أجله، أن تنغمس في درك الهلاك على هذه الصورة بسببه؟
دمرتك ذكرياتك وأهلها، لكنها أشياء لا يد لك فيها أتاها الآخرون لا أنت.
أترى أن من الحكمة تعذيب نفسك انتقاماً ممن لا يعنيهم أمرك أتعذبت أم لم تتعذب؟
لو أن كل الدنيا كانت كمن تقهرك ذكرياتهم لكان في الأمر نظر، لكنهم باعترافك قلة، بل ما جعلك تثور عليهم أنك لم تر مثلهم فيمن تعرف.
أليس في هذا سلوى لك يا رجل؟
فتح النافذة بحثاً عن قليل نقاء، كانت ابنة الجيران الصغيرة على الشؤرفة المقابلة، ابتسمت له فكأنما جعل الله جمال الدنيا كلها وشفافيتها في بسمتها تلك.
رد لها الابتسامة بأخرى كانت كبعثة الميت من مرقده، وبقلب بزغ فيه الأمل بين خرائب السواد وأطلاله ردد في داخله:
- لأمثالك، لأمثالك فحسب، يجب أن أعيش.
التوقيع
الأديب هو من كان لأمته و للغتها في مواهب قلمه لقب من ألقاب التاريخ
الأخ العزيز القاص عبد الله راتب
قصة متقنة ، يضور البطل بها قمة الألم
ولكن الابتسامة لا تلبث ان تداعب فكره
لماذا لايعيش ، ومن يستحق ان يموت من أجله؟
فيقرر وأد الهزيمة في أعماقه