"سيد الخراب" لكمال قرور: جمهورية الخراب، أو حين يتنازل الشعب عن ذاته...
ربما بسبب حالة التلوث التي أصابت المحيط الإعلامي الناتجة عن الصحف الصفراء والمراحيض العمومية التي يغذيها المال العام، وربما بسبب التوقف المتوقع لصحيفة الخبر الأسبوعي الثمينة كقارورة الأكسجين النقي الأخيرة في محيط أصابه العفن وعمت عليه الفوضى. فبعد أن فعلها معي القلم التحقت به لوحة المفاتيح وأصبحت تخونني هي الأخرى، لتتفاقم المشكلة من قلق في العبارة إلى ندرة في الحروف...
وبغية التخفيف من حالة التسمم الإعلامي هذه، التي لا يحق لي الاحتجاج عليها بالرغم من أنها تمول بأموال الشعب وما أدراك ما أموال الشعب، قررت العودة إلى روية كمال قرور "سيّد الخراب" من خلال قراءة ثانية. هذه الرواية التي وضع عليها صاحبها اللمسات الأخيرة منذ مدة بعد مخاض عسير وتنتظر طريقها إلى رفوف المكتبات، لكن الوراقين وأنصاف الصحفيين يمتنعون عن إلقاء ولو القليل من الضوء عليها، بالرغم من أن صاحبها تمنّع عن تخصيص فصل لطيّابات حمّام مولانا، لكنه نسي أو تعمد عدم رشق بعضهم ببعض "الطوروات"...
عودتي إلى الرواية في قراءة ثانية جاءت بعد لحظة من التأمل ومحاولة اصطياد إجابة لسؤال ظل يراودني منذ سنوات عن الفرق بين الدعارة والسياسة؟ الرواية أجدها تجيب في أحد جوانبها عن هذا السؤال. الدعارة المتعارف عليها هي عملية يعرض من خلالها الطرف الأول جسده لإمتاع الطرف الثاني بمقابل معلوم متفق عليه، أما السياسة فهي شعب كامل يقبل بأن يعرض للمتعة مقابل الفتات، ففي رواية سيد الخراب لو لم يجد سيدنا هذا الشعب "الطحان" يبيع شرفه بالمجان ويزيد عليه أحيانا لما استمر 40 سنة في الحكم، ولما وصل الحكم إليه أصلا...
الرواية تحمل عنوان "سيد الخراب، ما جاء في جمهورية الخراب للعلامة بن خشد، ولم تذكره كتب التاريخ والسير والجرائد الصفراء" أصدرتها "فيسيرا" للنشر، هي في الأصل تقع في 128 صفحة وتحمل عنوانا آخر هو "جمهورية الخراب"، لكن كمال قرور أضاف مقدمة من أربعة فصول في حوالي 40 صفحة بمثابة خارطة لفك رموز "جمهورية الخراب"، إذا هي رواية في رواية. بالرغم من بساطة وسهولة لغة الرواية، فإنها تحتوي على مستويات متعددة من القراءة والإسقاطات، وحتى لا يتوقف القارئ عند المستوى الأول أضاف الرواي هذه المقدمة..
في رأيي ورأي الكثيرين لو لم يضف هذه المقدمة واحتفظ بالعنوان الأول، لصودرت الرواية في المطبعة، فالرواية مفخخة ومن الصعب فك شيفرة رموزها دون الانحراف بسبب العديد من المطبات. المقدمة التي تمت العودة من خلالها إلى مقدمة بن خلدون، تكشف عن وعي تاريخي عميق وتفرض على المتلقي استقراء فصول الرواية وتدعوه إلى عدم الوقوع في فخ الإسقاطات السهلة، فالرواية لا تعالج فترة بعينها ولا تستهدف رئيسا معينا، بل هي نبوءة للآتي...
كتاب الفيلسوف بن خشد، لا يصف حال جمهورية أفلاطون، ولا مدينة الفارابي، بل على العكس تماما هو يصف "جمهورية الخراب" ويتنبأ بمصيرها، هي ليست دولة بعينها بل هي نموذج جامع لجمهوريات منطقة "العربوش" –عرب بوش- ، وهي المنطقة التي تحكمها السلالات "الغالبة"...
لن أخوض في أحداث الرواية "النبوءة"، حتى لا أفرض على المتلقي مستوى معين من القراءة والاسقاط، لكن روح الرواية كما جاء في الفصل الثالث من مقدمة الرواية على لسان الشيخ سيد أحمد الرفاعي: "بعد سنوات سيعود صدام ليدعي أنه المهدي المنتظر أو المسيح الدّجال لا تصدقوه. لا مهدي غير الشعب"، إذا ليس علينا انتظار المهدي، ولا انتظار تحسن الأمور لأنها ستسوء..، بل يجب على كل واحد منا أن يكون المهدي، فالتغيير يبدأ من الفرد.
كانطباع شخصي، عادت بي الرواية إلى "عرس بغل" للطاهر وطار، مع اختلاف أن الطاهر وطار كان ينقد لكنه لا يقترح الحلول بطريقة واضحة، لأن جيل الطاهر وطار ربما كان يعرف ما الذي لا يريده لكنه يجهل ما يريد بالضبط، إنه جيل تائه...
كمال قرور بشّر بقرب بداية عصر الخراب، واستعمل في ذلك شخصية سيد أحمد الرفاعي الذي كان ظهوره إيذانا بأن عصر الخراب وشيك. كما تنبأ بن خشد بحتمية سقوط جمهورية الخراب من خلال نبوءة الولي سيدي لخضر البوهالي، فلا اليسار المعتدل ممثلا في شخصية المخطار، ولا الإسلام التقليدي ممثلا في شخصية السيد الإخجاني وأتباعه سيحملان التغيير. بل إن شخصية "نطفة" التي تختلف اختلافا جذريا عن والدها السيد الإخجاني، الفتاة الجميلة التي تربت على الفروسية، والتي تتمتع بحيلة واطلاع واسعين هي التي ستوقع بمولانا وتحقق نبوءة الولي سيدي لخضر البوهالي.
كمال قرور لم يوضح العلاقة التي تربط "نطفة" التي ستقبل بالزواج من مولانا وستستجيب في النهاية للطبيعة البشرية أيضا، ووالدها السيد الإخجاني، الذي عرف بالصلاح كما لم يسبق له الزواج؟
الرواية بحق تخل في خانة الأعمال الجادة، التي يتخندق فيها كاتبها مع مجتمعه، كما أنها تكشف عن وعي حضاري وتاريخي لا يستغربهما من سنحت له الفرصة للتعرف على الأستاذ كمال قرور، الذي أشكره على بادرته لأنها من المرات النادرة التي ينزل فيها كاتب من برجه العاجي ويستطلع فيها رأي القارئ..
هنيئا للأستاذ كمال قرور، ولشعوب جمهوريات الخراب...
فارس بوحجيلة
قسنطينة في، 22/09/2010
التوقيع
لايكفي أن تطرق باب الإنسانية لتحس بمجيئها نحوك , عليك أن تخطو تجاهها و التوقف عن الاختباء خلف الزمن,