المهرج الصغير – محمد الفاضل
أسند رأسه الصغير المتعب فوق الرصيف البارد وهو يحتضن رفيقه الأثير على قلبه , ينام بقربه ولا يفترقان أبداً, لقد أصبح أنيسه في وحدته القاتلة , حاول أن يخلد إلى النوم ولكنه لم يفلح البتة , بدأ موتور معدته يعزف صوتا نشازا ويصدر قرقعة مثل صرير باب قديم أكل عليه الدهر وشرب , معلناً تمرده ورفضه الانصياع إلى أوامره . ولطالما حاول أن يلقمه بضع كسرات خبز قديمة كان يحتفظ بها في كيس قماش متسخ تكسوه بقع زيت وتتوزع الرقع فيه على كامل مساحته , عله يهدأ ويتوقف عن الشكوى والتذمر المستمر .
حاول أن ينال قسطاً من الراحة بعد ماكابده أناء النهار من مشقة أثقلت كاهله في البحث عن بقايا خبز يسد بها رمقه , يذرع الحي جيئة وذهاباً ويحدوه الأمل أن يؤمن قوت يومه ليبعد عنه شبح الجوع.كان يحرص على انتعال رفيقه المفضل الذي يفوق حجمه جسده النحيل وهو يسير مترنحاً مثل مهرج سيرك مع فارق أن وجهه لاتعلوه المساحيق ويخلو من أية تعابير ضاحكة.
عاد بذاكرته إلى الوراء قليلاً , يوم قرر أحد القناصة أن يمارس هوايته المفضلة ويتسلى باختيار ضحيته ويقرر بدون رحمة أن يرسله إلى العالم الاَخر دون أن يعبأ بما سوف تؤول إليه أمور عائلته عندما يفجعون بخبر موته. في ذلك اليوم المشؤوم كان والده يصرخ ملء حنجرته " حرية " " حرية " مع مجموعة من المتظاهرين ولم يكن يعلم أنها سوف تكون كلماته الأخيرة.
يومها قرر أن يحتفظ بحذاء والده وأصبح ميراثه الوحيد , مرت الأيام ثقيلة وبإيقاع رتيب وبدت على محياه علامات التعب والهزال وهو يتحامل على نفسه ولم يعد يقوى على الحركة كما كان يفعل قبل فقدان والده . الذئاب البشرية تحاصر المدينة حصاراً مطبقاً وتمنع عن الأهالي الطعام والدواء في محاولة مستميتة لقهرهم , في ذلك المساء الرمادي زاره طيف والده في المنام وبدأ يسأله عن أحواله وتلمس وجهه الشاحب وكم هاله ماأصاب ولده من هزال حتى بدا كالأشباح.
" لماذا تركتني وحيداً ياأبي " لماذا "
" خذني معك فقد خارت قواي ولم أعد أطيق العيش وحيداً "
" لن أتركك مرة أخرى ياولدي الحبيب " " ثق بي , أعدك "
أشرقت الشمس في صباح ذلك اليوم وبدأت خيوط الشمس تتسلل على إستحياء , وبدأ الأهالي يتجمعون أمام ذلك الملاك الطاهر وهو ينتعل حذاء والده وعلى مقربة منه بقايا شظايا خبز قليلة وتعلو وجهه ابتسامة لم يفهموا كنهها .
السويد – 10 / 3 / 2016