د. يوسف ربابعة*
لو قُدّر لأحدنا أن يسمع حوارا يدور بين شخصين على إحدى الفضائيات دون أن يعرف مرجعية كلّ منهما لما استطاع أن يحدّد انتماءهما العقائدي بشكل دقيق، بل ربما يعتقد أن كلّ واحد منهما ينتمي لدين مناقض للآخر، لكن الدهشة تكون أشدّ حين يكتشف أن الشخصين ذاتهما ينتميان إلى أمّة واحدة هي الأمة الإسلامية! وذلك حسب ادعاء كلّ منهما، وقد يبدو الأمر أكثر غرابة حين يتهم كلّ منهما الآخر بأنه خارج عن نطاق العقيدة الإسلامية وملّتها ومخالف لتعاليمها في الكتاب والسنّة، ولا تستطيع بعد ذلك أن تميّز بين مَن يملك الحقيقة ومَن لا يملكها؛ لأن أمر الحوار والنقاش لا يمكن أن يحكم عليه بمرجعيات موضوعية وأسس علمية.
وهذا المشهد هو واحد من آلاف المشاهد التي نسمعها ونراها على شاشات التلفاز، فضلا عن الكتب التي تباع على قارعات الطرق، تحذرك من الفِرَق الضالّة التي إن اتبعتها فإن مصيرك سيكون إلى جهنم وبئس المصير، وأن عليك إن أردت النجاة أن تتبع سبيل الفرقة الناجية، التي تسير على الكتاب والسنّة ! ويا للعجب لست أدري كم فرقة ضالة وكم فرقة غير ضالة في هذا الزخم الذي يتكاثر كالقنابل الانشطارية في وجهنا يوما بعد يوم، وكلّما جاءت فرقة لعنت أختها، وكلّما استقوى مذهب اضطهد منافسه، وكلّما استغنى حزب أفقر بقية الأحزاب، وكلّ هذه الأحزاب والفِرَق والمِلَل تدّعي بأنها تسعى من أجل وحدة الأمة امتثالا لقوله تعالى "واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا"، ومن هنا تبدو الحاجة ملحة لتعريف معنى الأمة الإسلامية، وعناصر تشكّلها، ومادتها، ثم هل يمكن أن تكون الأمة الإسلامية بهذا الضيق والتعصّب والانغلاق الذي يفرض عليها حدودا وقوانين لا يمكن اختراقها؟ وهل تكون هذه الأمة التي امتدّت من الشرق إلى الغرب غير قادرة على تذويب الفروق الفكرية واحتوائها ضمن إطار إنساني شامل وواسع؟ كلّ تلك الأسئلة تبدو وجيهة وراهنة في الوقت الذي تجنح أهواء المذاهب والفرق والأحزاب نحو الاستئثار بحمى الإسلام، وكأنه حكر لا يحقّ لأحد ولوجه، حتى إنني أستغرب بعض الخطباء عندما يصدحون بالمصلّين وبأعلى صوتهم قائلين "يا حماة الإسلام وحراس العقيدة!" ولا أدري كيف يمكن أن ندرب جيشا ونجهزه بكلّ الأسلحة من أجل حراسة العقيدة!، بل كيف يمكن الدفاع عن العقيدة التي أرادها الإسلام دينا لكلّ الناس حين قال تعالى:"وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا".
يقوم مفهوم الأمة الإسلامية على أسس ثلاثة، ليست هي القواعد التي يقوم عليها بناء الأمة في المجال الفكري والتجربة التاريخية فحسب؛ بل لأن هذه الأسس هي جزء لا يتجزّأ من ماهية الأمة -أي أمة- نفسها وعناصر بنائها ماضيا وحاضرا، واستمرارها مستقبلا، ومن أهم هذه الأسس الأساس الثقافي الذي يمثل أول قاعدة في بناء الأمة، وهو الذي يحدّد ماهيتها ومرجعيتها وضوابط وحدتها، وهو الذي يبيّن رسالتها، وقد حدّد القرآن الكريم ملامح هذا الأساس حين جعل الوحدة والاتحاد أساسا مكوّنا لوجود الأمة وتحقّق معناها، فقال تعالى:"وَإِن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون"، وفي العهد النبوي تجلّت وحدة الشعور الثقافي من خلال المرحلة التأسيسية التي بدأت في المدينة، من خلال ما عرف بـ" صحيفة المدينة"، التي جاء فيها: "هذا كتاب من محمّد النبيّ بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومَن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس"، ممّا أعطى للجماعة المسلمة في المدينة خصائص الأمة الواحدة المترابطة بروابط المصلحة العليا والتصوّر ووحدة القيم والرسالة والمشروع الحضاري، والمنفتحة على الجميع في امتداد لا يحدّه جنس ولا لون ولا لغة ولا رقعة جغرافية، إلا ما كان من إيمان بمبادئ هذه الأمة والتزام بمرجعيتها المؤسسة على الشريعة، بما يحقق وحدة الإدراك لكلّ ما يتصل بهذه المرجعية، أساسا لاحترام ما ينبثق عنها من مبادئ وأحكام تمثل نظاما متكاملا للسلوك الفردي والجماعي على السواء.
أما الأساس الثاني فهو الأساس الاجتماعي الذي يقوم على مجموعة من الصلات والعلاقات المتشابكة والمصالح المشتركة التي تمثل شرط بناء المجتمع وحقيقته معا، وقد عبّر الإسلام عن هذه الصلات بمجموعة من التشريعات التي تخص علاقات الأفراد فيما بينهم، وعلاقة الفرد بالمجتمع والدولة، وذلك على شكل دوائر تبدأ من الأسرة وتتسع لتصل إلى ما لا نهاية، حيث لا تتوقف العلاقة في الإسلام عند حدود ومحدّدات. والأساس الثالث هو الأساس الاقتصادي الذي قام في الإسلام على مجموعة من التشريعات، حيث ربطت الجانب الاقتصادي بمبدأ ديني لا ينفصل عنه، كالزكاة والصدقات والوقف، وما إلى ذلك.
وحتى تكون رسالة الإسلام عالمية غير منكفية على ذاتها فقد أشار القرآن الكريم إلى مجموعة من الخصائص الإنسانية التي تتصف بها الأمة الإسلامية، ومن أهمها أنها أمة التوحيد، القائم على وحدة الإنسان ووحدة الوجود ووحدة الخالق ووحدة التوجه والاتجاه، ثم إنها أمة العلم، ذلك أن أول ما نزل من القرآن، كان قول الله تعالى: "اقرأ باسم ربك الذي خلق"، فالقراءة هي مبتدأ الوحي والمدخل إلى إدراك قيم الأمة وتصورها والوسيلة التي تتجدد بها معاني الدين في نفس الإنسان، وهي الأمة التي ورثت الحضارات والأفكار السابقة والأديان الماضية، قال تعالى" والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير* ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير"، وهي كذلك أمة الحوار؛ ذلك أن القرآن الكريم هو في أحد وجوهه كتاب منهج الحوار بامتياز، ليس لأنه أورد حوارات الأنبياء مع أقوامهم، بل لأنه أورد آراء المخالفين حتى للخالق سبحانه، وأمر بمنهجية خاصة في الحوار حين قال تعالى:" ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن"، وهي أمة الحرية، حرية المعتقد وحرية الفكر، من دون أن يكون الخلاف مدعاة للتنافر والقتال والاقتتال، فقد أكد القرآن احترام حرية الفرد والجماعة، ووضع مبدأ "اللإكراه" حين قال تعالى:"لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"، وهي إلى جانب ذلك كلّه أمة العدل أساس بناء المجتمع واستمرار قوته وحفظ حقوقه وحمايته، قال تعالى: "والسماء رفعها ووضع الميزان* ألا تطغوا في الميزان* وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان"، وهكذا هي الأمة الإسلامية بخصائصها الإنسانية المنفتحة على الفكر الإنساني والحاملة لكلّ معاني الخير والعدل والعدالة والحقّ والهدى، وهي لا تحتاج إلى حراس يقفون على حدود العقيدة حتى لا يتسلل إليها المخربون.
أختي العزيزة رائدة زقوت
بارك الله فيك أن نقلتِ لنا هذا الموضوع القيم ،والذي فتح شهيتي للكتابة في نفس السياق .
أعدك في القريب العاجل بمقالات تبين لنا :
أين الخلل ...وما هو العمل ؟؟؟
أشكرك مرة أخرى ولي رجعة
تحياتي العطرة