من شعراء ما قبل الإسلام من تخطى عصره في توظّيف الرمز والرؤيا في بعض أشعاره كأمرىء القيس في معلقته الشهيرة حيث بقول في معلقته:
وليل كموج البحر أرخى سدوله
علي بأنواع الهموم ليبتل.
فقلت له لما تمطى بصلبه
و أردف أعجازا وناء بكلكل
ألا أيها الليلالطويل ألا انجلي
بصبح وما الإصباح منك بأمثل
فيا لك من ليل كأن نجومه
بأمراس كتان إلى صم جندل.
لقد أثارت هذه الأبيات ذات الرمز والرؤيا أصحاب البلاغة لما تشمله من عمق في الرؤيا عند الشاعر فقد ذكر الباحثون في " الموشح" أن الوليد بن عبد الملك تناقش مع أخيه مسلمة حول هذه الأبيات من شعر امرئ القيس والنابغة الذبياني في وصف الليل أيهما أجود .فأنشد الوليد قول النابغة .وأنشد مسلمة قول امرئ القيس، فضرب الوليد برجله طربا فقال الشعبي بانت القضية. يعني أن قول امرئ القيس هو الأجود.
هذه الرؤيا العميقة لصورة الليل عند امرئ القيس جعل النقاد والبلاغيين والباحثين يتحيرون في كشف أسرارها وخباياها فقد أيد أبو هلال العسكري في كتابه الصناعتين : الكتابة والشِّعْرَ ما رأه ابن طبا طبا في "عيار الشعر" حيث قال أن البيت الأول يدخل في "تشبيه الشيء بالشيء لونا مع إضافته أن فيه معنى "الهول ".أما "ابن رشيق" فقد ذكر في كتابه العمدة أن " البيت الأول يغني عن الثاني .والثاني يغني عن الأول ومعناهما واحد." وعندما نتناول البيت التالي من معلقة امرىء القيس :
فقلت له لما تمطى بصلبه وأردف أعجازا وناء بكلكل .
يقول شارحو هذه الأبيات أن امرىء القيس أبدع في توظيف الرمز والرؤيا لوصف الليل توظيفاً ذا دلالات رائعة عميقة حيث أضفى عليها أبعادا إنسانية بجعل لليل صلبا، وأعجازا وهي المآخير مفردها "عجز".و"كلكل" الصدر وجمعه "كلاكل" ".وأسبغ عليه أفعالا آدمية فهو يتمطى ويردف وينوء .
يقول الباحثون طول الليل هنا ُ يعبر عن حزن الشاعر وتجرعه للآلام والخطوب، فالمغموم الحزين دائما يطول ليله ويقاسي فيه الشدائد والسهر . فتتعالى نداءات "امرئ القيس" متوسلة من هذا الليل أن ينكشف ويصبح ولو أنه يعاني الهموم ذاتها في الإصباح . فالصبح والليل سيان وهذا ما نستشفه من قوله..".وما الإصباح منك بأمثل".فلا "حلكة الليل " رفعت همه ولا "فلق الصبح" بدد حزنه.وإنما تمازج الألوان ساهم في تعميق " أزمة رؤية الشاعر".ليختم هذه الأبيات الوصفية بصورة ولا أروع، إذ يصور النجوم وكأنها ثابتة في أماكنها لا تزول وكأنما شدت بحبال متينة إلى صخور شديدة الصلابة. وهذا برهان على استطالته لليله ومعاناته العظيمة فيه.
إن صورة الليل في هذه الأبيات كما فسرها كثيرٌ من شراح معلقة امرىء القيس هي صورة حقيقية من معاناة الشاعرالنفسية وهي صورة أخرى من حياة الشاعر البائسة الَّتِي يسيطر عليها الألم والوحدة والقهر العميق وهو محق في كل أحزانه الَّتِي تفرقت به تفرق السُبل وأقبلت عليه من كل حدب وصوب فأصبح أشقى من غبار في مهب الريح من طرد أبيه له ومن غربته ووحشته وفقد أمه إلى هجر حبيبته وبنت عمه سلمى أو كما كان يحب أن يسميها فاطمة الَّتِي تركته ولم تغفر خطاءه الغير مقصود بدار جلجل ومائه والقصة معروفة، إلى قتل أبيه وسعيه للثأر ثم أخيرا إلى تفرق الكل من حوله وصار طريدا بعد إن كان يطارد وأضحى مطلوبا وقد كان طالباً كما شرحه كثير من شراح شعره .
هذه الأبيات حيرت كثير من الباحثين والنقاد قديماً وحديثاً كل فسره حسب رؤيته وهنا تكمن العبقرية والإبداع في شعر امرىء القيس مما جعل كثيرٌ من الباحثين يقول أن امرء القيس تخطى زمانه كأنه سابق جميع العصور من بعده. ..
وهذه الأبيات ليس من صنع الخيال ولا من صنع العقل كما يعتقد البعض وإنما هي رؤيا عميقة عاناها الشاعر في لحظة من لحظات معاناته وقلقه وتأزمه. وهي من أروع ما أبدع فيه امرىء القيس في معلقته، حيث أن الرؤيا في الشعرهى موجة إبداعية ينفتح فيها الشاعرعلى عوالم إنسانية ثرية في التعبيرعن معاناته وانفعالاته وتأزماته.