لم تعدم البشرية وسيلة للتواصل منذ وجودها الأول، فإذا "كلام العيون" هو الذي ساد في البدايات، فإن تلك "اللغة" تطوّرت عبر الأزمان نحو اختراع الكلام المنطوق، والذي تطوّر بدوره من مجرد وسيلة للتواصل، إلى وسيلة راقية للتعبير.
اخترعت البشرية الشعر في البداية لتسجل من خلاله تاريخها، فكانت "الإلياذة"، و"الأوديسا"، و"الإنياذة"، وغيرها من الملاحم والمطولات التي حفظت لنا فصولا كاملة من التاريخ البشري الذي اختلط فيه الواقع بالأسطورة، والتاريخ بالخيال.
لكن الشعر، يبدو في أحلى تجلياته، وهو يعبّر عن عاطفة الحبّ، تلك العاطفة التي شغلت البشرية من الإنسان الأول.
للعرب إسهاماتهم في أشعار الحب والغزل، وهم الذين قادوا مسيرته في مرحلة مهمة من التاريخ الإنساني، في زمن الدولة الإسلامية، حين كانت الأندلس ملتقى الشرق مع الغرب.
في كتابه "أحلى 20 قصيدة حب في الشعر العربي"، يلجأ الشاعر المصري فاروق شوشة إلى انتقاء 20 قصيدة، من أزمان عربية مختلفة، يقول إنها تكاد تكون أفضل ما يمثل تلك الأزمان، مبينا في مقدمة الكتاب أن الاختيار لم يكن سهلا.
ويتجول شوشة في كتابه متنقلاً بين العصور المختلفة في رحلة تبدأ من العصر الجاهلي مروراً بالأموي والعباسي؛ مجنون ليلى وجميل بثينة وقيس ليلى وكثيرة عزة، والعباس بن الأحنف ويزيد بن معاوية، وابن الرومي وأبو فراس الحمداني والشريف الرضي، ومن الأندلس والمغرب العربي يختار ابن زيدون، والحصري القيرواني، ثم من العصر الحديث أبو القاسم الشابي، وعلي محمود طه، وإبراهيم ناجي ومحمود حسن إسماعيل.
يبدأ مع الشاعر المنخل اليشكري، في قصيدته "فتاة الخدر" التي قالها في زوجة النعمان بن المنذر، والتي قتل بسببها، ثم ينتقل إلى عمر بن أبي ربيعة في واحدة من أشهر قصائده بمحبوبته "نعم"، ويقول:
تَـهـيم إِلــى نُـعـمٍ فَـلا الـشَمل جـامِعٌ
وَلا الحَبل مَوصولٌ ولا القَلبُ مُقصِر
أما "مجنون ليلى" قيس بن الملوح، وهو أحد أعلام الحب العذري، فيختار له قصيدة يقول فيها:
فَـقـال بَـصير الـقَومِ أَلـمحتُ كـوكباً
بَــدا فــي سَـوادِ الـلَيلِ فَـرداً يَـمانِيا
فَـقُـلتُ لَــهُ بَــل نــارَ لَـيـلى تَـوقَّدَت
بِـعَـليا تَـسـامى ضَـوؤهـا فَـبَـدا لِـيا
ومن "جميل بثينة"، وشعره العذري، يختار قصيدة، منها:
أَلا لَــيــتَ رَيــعـانَ الـشَـبـابِ جــديـدُ
ودَهــــراً تَــولّــى يـــا بُـثَـيـنَ يَــعـودُ
فَـنَـبـقـى كَــمـا كُــنّـا نَــكـونُ وَأَنــتُـمُ
قَـــريــبٌ وَإِذ مــــا تَـبـذُلـيـنَ زَهــيــدُ
وليزيد بن معاوية، يختار قصيدة مليئة بالتشبيهات والاستعارات وصور الحب المتجددة، وهي القصيدة التي يقول فيها:
وأمطرت لؤلؤاً من نرجس وسقت
ورداً وعـضّت عـلى العناب بالبَردِ
أما الشريف الرضي، فيقول:
يا ظَبيَةَ البانِ تَرعى في خَمائِلِهِ
لِـيَهنَكِ الـيَومَ أَنَّ القَلبَ مَرعاكِ
هَبَّت لَنا مِن رِياحِ الغَورِ رائِحَةٌ
بَــعـدَ الـرُقـادِ عَـرَفـناها برَيّـاكِ
وللحصري القيرواني، يختار قصيدة معروفة لدينا بسبب غنائها:
يـا ليلُ الصبُّ متى غدُه أقـيامُ الـسَّاعةِ مَـوْعِدُهُ
رقـــدَ الـسُّـمَّارُ فـأَرَّقـه أســـفٌ لـلـبـيْنِ يــردِّدهُ
كـلِفٌ بـغزالٍ ذِي هَـيَفٍ خـوفُ الواشين يشرّدهُ
وللشاعر التونسي أبو القاسم الشابي، يختار قصيدة غناها فيما بعد المطرب السعودي محمد عبده، يقول فيها:
عـذبة أنـت كـالطفولة كالأحلام
كـالـلحن كـالـصباح الـجـديد
كالسَّماء الضَّحُوكِ كاللَّيلَةِ القمراءِ
كـالـوردِ كـابـتسامِ الـولـيدِ
وللشاعر إبراهيم ناجي، يختار قصيدة معروفة هي الأخرى لدينا، بعد أن غنتها كوكب الشرق أم كلثوم، وهي قصيدة "الأطلال"، ومنها:
يـا فُؤَادِي رَحِمَ اللّهُ الهَوَى كَانَ صَرْحاً مِنْ خَيَالٍ فَهَوَى
اسْقِني واشْرَبْ عَلَى أَطْلاَلِه وارْوِ عَنِّي طَالَمَا الدَّمْعُ رَوَى
كَيْفَ ذَاكَ الحُبُّ أَمْسَى خَبَراً وَحَدِيْثاً مِنْ أَحَادِيْثِ الجَوَى
وَبِسَــاطاً مِنْ نَدَامَى حُلُمٍ هم تَوَارَوا أَبَداً وَهُوَ انْطَوَى
في القرن العشرين، تبوأ الشاعر الراحل نزار قباني مرتبة عالية بين شعراء الحب والغزل، فهو "شاعر المرأة" بامتياز، لكثرة ما وردت في أشعاره، ويقول في إحدى قصائده:
"ياربِّ قلبي لم يَعُدْ كافياً
لأنَّ مَنْ أُحِبُّها . . تعادلُ الدُنيا
فَضَعْ بصدري واحداً غيرَهُ
يكونُ في مساحةِ الدُنيا".
ويقول أيضا:
"لو خرجَ الماردُ من قُمْقُمِهِ
و قالَ لي: لبَّيْكْ
دقيقةٌ واحدةٌ لديكْ
تختارُ فيها كُلَّ ما تريدُهُ
من قِطَع الياقوتِ والزُمرُّد
لاخترتُ عينَيْكِ.. بلا تردُّد".
وفي مقطع آخر يقول:
"لو كنتِ يا صديقتي
بِمُسْتَوى جنوني..
رَمَيْتِ ما عليْكِ مِنْ جواهرٍ
وبعتِ ما لديْكِ من أساورٍ
ونمتِ في عيوني".
ثم يقول:
"أشكوكِ للسَّماءْ
أشكوكِ للسَّماءْ
كيفَ استطعتِ، كيفَ، أن تختصري
جميعَ ما في الأرضِ من نِساءْ".
عند الشاعر الراحل محمود درويش، اختلط شعر الغزل بشعر القضية التي حملها درويش على كاهله طويلا، كما اختلط بالهمّ الإنساني الكلّي الذي ما فتئ درويش يستقصيه في جميع أشعاره.
ولعل قصيدة "ريتا" تشي بخيارات الشاعر الغزلية التي يفصلها عن غيرها من الخيارات حين يقول:
"اسم ريتا كان عيداً في فمي
جسم ريتا كان عرساً في دمي
وأنا ضعت بريتا.. سنتين
وهي نامت فوق زندي سنتين
وتعاهدنا على أجمل كأس، واحترقنا
في نبيذ الشفتين
وولدنا مرتين
آه.. ريتا
أي شيء ردَّ عن عينيك عينيَّ
سوى إغفاءتين
وغيوم عسلية
قبل هذي البندقية
كان يا ما كان
يا صمت العشيّة
قمري هاجر في الصبح بعيداً
في العيون العسلية
والمدينة
كنست كل المغنين، وريتا
بين ريتا وعيوني .. بندقية".
وفي قصيدة أخرى، يقول درويش:
"سألتك: هزّي بأجمل كف على الأرض
غصن الزمان!
لتسقط أوراق ماض وحاضر
ويولد في لمحة توأمان:
ملاك..وشاعر!
ونعرف كيف يعود الرماد لهيبا
إذا اعترف العاشقان!
أتفاحتي! يا أحبّ حرام يباح
إذا فهمت مقلتاك شرودي وصمتي
أنا، عجبا، كيف تشكو الرياح
بقائي لديك؟ وأنت
خلود النبيذ بصوتي
وطعم الأساطير والأرض.. أنت!".