القصيدة القصيرة في ( ملكوت القصيدة)
باحث وناقد وصحفي
جمال خضير الجنابي
لقد تطورت القصيدة العربية من الشعر المنتظم في بنية البيت التقليدي والشعر المرسل غير المقفى إلى الشعر الحر الذي تميزت تفعيلاته بحسب الوثبة الشعورية وقد تعددت اضربه فأصبح يطلق عليه بشعر ألتفعيله , أو السطر الشعري , أو الجملة الشعرية فيما بعد وهي أوجه تحدد المسافة الزمنية لانتهاء السطر الشعري أو الجملة الشعرية , وإنما تخضع في نظر الدراسات المعاصرة إلى الدفعات الشعورية التي تنعكس بدورها على نظام الإيقاع الذي تتموج نغماته بتموج حركات النفس , وقد بدأ الاهتمام بهذا الجانب بوفرة ودقة منذ مطلع القرن العشرين , يرجع مصدره الأصلي في زعمنا إلى جماعة الديوان التي دعت إلى حركة التجديد في جميع المجالات ذات الشأن ببناء القصيدة العربية .
ويؤكد ( العقاد) في مقدمة لديوان المازني ( أن أوزاننا وقوافينا أضيق من أن تنفسخ لأغراض شاعر تفتحت مغاليق نفسه , وقرأ الشعر الغربي فرأى كيف ترحب أوزانهم بالأقاصيص الطويلة والمقاصد المختلفة , وكيف تلين في أيديهم القوالب الشعرية , فيودعونها ما لاقدرية لشاعر عربي وضعه في غير النثر , إلا يرى القارئ كيف سهل على العامة نظم القصص المسهبة والملاحم الصعبة في قوافيهم المطلقة ؟
وليت شعري بم بفضل الشعر العامي الفصيح إلا بمثل هذه المزية ).
ومن هنا يمكن الدخول إلى مجموعة الشاعر ( عادل الشرقي ) التي حملت عنوان ( ملكوت القصيدة ) والتي انقسمت إلى ثلاثة أجزاء حمل كل جزء عنوان ( اشتعال بحجم التشظي / ظلال البنفسج / ثلاثة وجوه
للقلق ، تنوعت بين ( الحرب / والحب ) ففي قصيدة ( أرتحالات ) التي تكونت من عشرين مقطع قصير :
من أطلق النار على قصائدي
وأشعل المكان ؟
من طرق الباب على سكينتي وأجج الإحزان ؟ ) ص21
أن البناء المقطعي ينمو بالقصيدة عن طريق استقلالية المقاطع النسبية بطريق التضاد والتقابل ، أو التضاد فلا يكون البناء بسيطا عند ذلك .
لكن هذه المقاطع تصبح شكلا بنائيا بسيطا إذ كان كل منها يكاد يكرر المقاطع الأخرى ، أو يضيف إضافة بسيطة إلى جوها النفسي والفكري , بحيث يبدو تقطيع القصيدة مصطنعا عنه .
) خلف كل الرؤى
خلف كل العيون
تبتني لك مملكة
وتمارس فيها طقوس
الجنون ) ص27
أن ما يميز هذا النمط من القصائد هو قصره الشديد إذ نجد الشاعر
( عادل الشرقي ) فيه مكتفيا ببضعة اسطر يفرغ من خلالها كل ما يحس به من هاجس شعري ، ولاشك أن هذا النمط يتطلب حساسية تجاه صدى الكلمات ويتطلب أيضا بينة تركيبية إنتاجية كما يقول:
( د. عبدا لله الغذامي ) قادرة على التوصل , ومن هنا إن الشاعر
( عادل الشرقي ) في هذا النمط يكون مدركا لأهمية الاقتصاد في اللغة , الأمر الذي يجعله معتمدا الأسلوب البرقي في مرسلته الشعرية , كما إن هذا الأداء يتطلب متلقيا على قدر من المعلومات الأدبية واللغوية والفنية تؤهله لاستنطاق مثل هذا النص , وهو وان بدا سهلا إلا انه يفشل في إحداث التأثير المطلوب إذ لم يحس التكثيف واختيار اللقطة الغريبة واعتماد الصدفة أو المفارقة .
أن في هذا النمط من القصائد مسألة جدل بين النص والقارئ وعلى وجه التحديد وعلى هذا الأساس يمكن القول إن النمط من البناء سائد في شعر التفعيلة وقد لا يجيد الشعراء بناء قصائدهم على وفقه , وذلك ما تبدو عليه القصائد من قصر شديد في بعض الأحيان يشكل صعوبة وسهولة في إن واحد , سهولة ظاهرة طافحة على السطح , وصعوبة تتمثل بتحقيق المنجز الجمالي المكتمل .
فقي قصيدة ( ظلال البنفسج ) والتي تكونت من ثمانية عشر مقطعا حمل كل مقطع عنوانا , حيث يقول في ( ظل خامس ) :
( كان هنا ..
ينام فوق الجفن مثل طائر حزين
مدثرا بخوفه
وعشقه
وحزنه الدفين لكنه لملم كل حزنه
وغاب قبل حين ) ص 37
إن ما نلاحظه على القصيدة هو مجيئها مكتملة على الرغم من قصرها , بمعنى إن الشاعر ( عادل الشرقي ) لم يعد بإمكانه إن يضيف إليها ما يشاء دون إن تختل فنيا , وهو ما يصح في هذا النوع من القصائد لان على الشاعر , هنا إن يعرف متى ينهي القصيدة عبر مراعاته لقدر معقول من الطول بحيث يتعذر تطويلها , أو إكمالها , ولذا يمكن القول إن هذه النمط على بساطته الظاهرة يعد أكثر الأنماط المحفوفة بالمخاطر .
ففي قصيدة ( الظل الأخير ) يقول :
( ختمت بالشمع
على أصابعي
وصغت من قصائدي
اصابعا أخرى
بلا يدين ) ص 50
إن القصيدة القصيرة , كيان قائم بذاته , مستقل متكامل بينما المقطع في القصيدة المقطعية مفردة في جملة , عضو في كيان متعدد الأجزاء يرتبط ويشترك مع المقاطع الأخرى بالفكرة وبالإطار الفني العام , بهذا المعنى يمكن إن نقول ( قصائد أسئلة بلا مرايا ) تشكل سلسلة من قصائد المقطعية حيث يقول :
( جلب المعلم لوحة سوداء
خالية من الظل
كتب المعلم تحتها
من ذا يرى
رجلين زنجيين
يصطرعان
في الليل ) ص 64
إن هذه القصيدة على الرغم من قصرها قد استفادت من توظيف أسلوبين من أساليب البناء أولها / وهو الأساس القصة القصيرة التي اتخذت طابعا حكائيا بسيطا , والثاني / هو أسلوب تحريك التناقض عبر الحدث البسيط داخل القصة القصيرة حيث يبلغ الحدث ذروته عند تصادم النقيضين وتكتفي القصيدة القصيرة بهذا اللقطة الدرامية في الذروة , تاركة لأذهاننا إن نتأمل وتستوحي دلالات هذا التناقض حيث يقول :
( تغرق لا تغرف من ماء الشط
بكفك .. فالشط بلا ماء
ما يملأ داخلك ألان
هواء .. بهواء ) ص 66