قلت اسمع يا صديقي:
الاســــم:
(هذا ما أوصي به وشهودي به عارفون في صحة عقلي وثبوت فهمي...
أوصي فلذة كبدي الوحيدة أنه إذا نزل بي الموت الذي نكرهه جميعا أن تحتاط على تركتي المخلفة عني,فتبدأ منها بتجهيزي وتكفيني ودفني... وما بقي من مال تتعهد به نفسها وأمها بحسن العناية ووافر الرعاية فإن المال عارية لا تدوم...)
هكذا كانت (سمية) تستمع إلى وصية أبيها وهو يشخص بعينيه إلى الفضاء حينا ويجيل نظراته الخافتة حواليها أحيانا... وفمه يرتجف كطائر مذعور ومن مآقيه الزرقاء تنهمر كماء البحر دموعه الباردة...
و( سمية) المسكينة ارتجفت فرائصها وتقلصت أساريرها كأنما الموت حل بها لا بأبيها...
ومن أعماقها انفجرت صرخة ألم مدوية كادت تنفجر لها قلوب الحاضرين...
العـنـوان:
على وقع صيحات منكرة كانت تصدر عن أمها استيقظت ( سمية) في سابع صبيحة مرت على موت أبيها...
هزت أمها مرارا لتعود إلى وعيها وأسندت رأسها للوسادة...
- لماذا تتعبي نفسك هكذا يا ابنتي ؟
بمرور الأيام نفدت الأموال التي تركها الفقيد, ودق الفقر باب (سمية) وأمها وجدتها العمياء... ومحا لسانه آثار النعمة من وجوههم, وطوق الجوع بطونهم حتى كادت أعناقهم تنخلع عن أكتافها...
وكان لابد من إرسال الجدة العمياء إلى دار العجزة...
وبقيت ( سمية) تعالج همها المعتلج بين جنبيها وتتعهد أمها بحسن الرعاية, أمها التي أصبحت تغضب لأتفه الأسباب... الأوهام لونت منظارها والآلام قضت عليها مضجعها والحزن والكمد يكاد يذهب بلبها ويطير بشظايا قلبها...
ولم يطل الأمر كثيرا حتى أسلست قيادها لعالم الهذيان...
فإذا تكلمت فلا تذكر إلا أختها وزوجها وأبيها الذين ضمهم عالم الأجداث منذ زمن...
ولطالما حاولت (سمية) أن تواسيها... ان تمسح عبراتها الباردة حد الصقيع... أن تمسك بآخر شعيرة تربط أمها بعالم الأحياء وتفصلها عن عالم المجانين...
حبها الشديد لأمها- وللحب شدته- جعلها تحيط بأمها سواد نهارها إحاطة القلائد بأعناق الخرائد...
لا تعرف للراحة طريقا, حتى بعد أن تطفل الشمس للإياب ويطير طائر الليل من مكمنه ويبسط أجنحته السوداء في الأفق تبق (سمية) إلى جنب أمها ساهرة دامعة العين محروقة القلب مكلومة الفؤاد...
تسهر عليها ليلها وتكلؤها نهارها...
شهر كامل لم تخالط سنة الكرى جفني (سمية)...
الجـنـس:
هكذا كانت (سمية) تحكي لزوجها ( جامد) حياتها الأولى... لعل قلبه الساكن يتحرك... عله ينظر إلى الحياة كما تنظر زوجته... عله يشعر بما تشعر, فيبادلها الحب والرحمة كما هي تفعل...
رغم أن شعره قد استقبل أول طلائع الشيب إلا أنه لم يتخذ يوما قرارا حاسما في حياته...
- إن أمك تعذبني يا ( جامد)!!
كانت ( سمية ) كلما أسمعت زوجها هذه الكلمات لم ينبس ببنت شفة ولا بابن لسان...
فكرت كثيرا بالهروب... ولكن إلى أين ؟
إنه ليس من الصبر بد... الصبر على زوجها وعلى إساءات حماتها وتقبيل قدميها صباح مساء وبلا امتعاض...
التــاريــخ:
لم تجد المسكينة قلبا حانيا تقاسمه ما يجيش في داخلها من عذابات وآلام... وقرفت من الحياة بأجمعها وبقيت وحيدة فحتى عبراتها انحبست... عبراتها التي طالما خففت عنها شيئا من آلامها المدفونة في حناياها... عبراتها التي كانت تؤنسها في وحشتها أنس المصدور بنفثاته والبائس بشكاته...
وزاد طينها بلة أن أصيبت بالنومشة وأصبحت تخاف الليل بشكل كبير...
خوفها هذا أضحك حماتها – الجامدة القلب كابنها- التي لم تعرف الضحك في حياتها قط!!
- ولا أدري يا صديقي كيف أختم القصة ؟
- ربما !
- انتظر وجدتها... نهضت ليلا... ارتدت ملابسها البيضاء وهي لا تزال نائمة...
-
التوقيع:
حزمت أمتعتها... واتجهت نحو أقرب مقبرة...
***