دراسة نقدية تحليلية في المعنى الشعري لنص قصيدة النثر حدثتني نافذتي للشاعرة القديرة انتصار دوليب
أدونيس حسن
استطاعت الشاعرة أن تنقل لنا حديث النافذة المكون من خمسة مقاطع وهمسة ختماية مفتوحة على بدايات جديدة , تربطها بإحكام شديد بخيط استطاع أن يقدم الفكر والفكرة حول درجة عالية من الحرية تسمى الانعتاق , وبتوازن وتجانس شكل ولون وحدود كل مقطع , حتى لمسنا وبإحساس عميق , علاقة التكامل وداخل مستوى الصورة وأيضا داخل مستوى المضمون , وعلى خطين يربطهما معادلة الميزان المستقر اللسان على حالة الإتزان , عندما كان التوازي في كفة, والنتيجة الصفرية للقاء بينهما في الكفة الأخرى , حيث كانت الصورة الشعرية مرسومة بريشة وقلم ,بلون وخط, لم يُغال أو يُقال في بذل الألوان أو المداد فيهما ,وكان خط المعنى يتصاعد ضمن منطقية عقلية وفكرية أوضح ما فيها التراكم العفوي العميق, ومن النواحي الزمنية والكمية والنوعية لثقافة الشاعرة ,,,
جاء بناء النص من ..
-العنوان المكرر خمس مرات تعلو خمسة مقاطع وأخذ المقطع الأخير عنوان مختلف ووحيد , وعلى غير العادة , حيث يكون عادة العنوان مرة واحدة لا يكرر في النص ويبدأ به ويشكل المحيط الذي تصب به بحار القصيدة ,,
ولكن هنا لم يفقد العنوان في الخاتمة وظيفته , عندما بدأ من حيث انتهى, وانتهى من حيث بدأ ,في نفس النقطة ,بحركة دائرية لولبية صاعدة, تترك أثرا محفورا على صخور التلقي, نقرأ فيه بوضوح تام مفهوم الإمتلاء عند بلوغ الانعتاق,عبر خمسة أحاديث سُكبتْ من ثغر النافذة بمداد القصيدة ,,
حدثتني نافذتي
إن شرعية إنشاء الحوار والحديث بين أطرافه, تتخلق من أرض, تحوي درجة عالية من الخصوبة, حتى تفي نبات الإنسجام حاجته من القوة في خيوط نسيج الخيمة, التي تظلل تبادل الأطراف الحديث ,وتحمي رهافة الأنامل التي تتجاذب حدوده من خدش حرارة الضوء فيه ,
لقد تحققت هذه الشرعية هنا , عندما صدرت من محورية الغربة والوحدة التي تدور حولها النافذة والشاعرة في آن ,,
-النافذة محاطة بأربعة خطوط تحدد وجودها القسري , والثابت بقوة في جدار ضارب الجذر في استقراره , والشاعرة متوفرة بنفس المعنى ولكن باختلاف بسيط في الصورة, قد تكون أربعة جدران ترمز إلى أسباب تؤكد قسرية حضورها ضمن مساحة ترفضها,
-وكذلك تطل النافذة من هذا الحضور المحدد والمتشدد في قهريته , على عالم تجاوز كل خط ولون وشكل في تحرره من أي احتمال لبلوغ نهاية تؤطر سهول انتشاره بأي رقم كان, وأيضا تطل الشاعرة عبر النافذة من هذه المساحة المحددة على عالمها الداخلي الذي يمتلك نفس الأشكال والألوان,
هذا التشابه والتطابق قاد إلى كسر غلاف الغربة بمطرقة الحديث , فكانت النافذة وطن الشاعرة عندما صارت كل ثغر عينها , والشاعرة وطن النافذة عندما تجمعت في حاسة السمع كل حواسها الخمسة وقد تكون أكثر حتى ترى الأحاديث الخمسة والهمسة ,,
الحديث الأول..
أقتبس
حدثتني نافذتي
أن أضعنـــي في المتحف..وأتوسد أقنعة الموتى
فــ الليل يكبر في وجهي
وريش السنونو ما عاد يكتشف مساحتي
ولا يلائم عِتق حوافي
.....
المتحف...
هو مكان محدد تحفظ فيه أشياء محددة تشكلت في زمن ماض, وبقيت أبوابها مفتوحة على أزمنة قادمة وغير منتهية بالنسبة للحظة الراهنة , وتعاني من انتهاء قيمتها عند بلوغ زمن يستطيع تجاوزها ووضعها خلفه , ولا ندري متى يأتي هذا الزمن , وهي بالنسبة للآن خالدة .
أقنعة,,
القناع هو آلة تستخدم لإخفاء حقيقة شيئ ما , عندما نضعه فوق وجهه , وليس فقط الإخفاء وإنما أيضا ينطوي على معنى الخداع , لأن استخدامه يظهر وجها آخر غير الحقيقي , بغية الوصول غير الشرعي إلى هدف أو غاية ما .
الموتى,,,
الموت هو الحقيقة الواحدة الواردة باحتمالات حدوث كاملة , أو بتعبير آخر بعلم الاحتمالات , إن نسبة حدوث الموت تساوي \1\ أو 100% , وهي حتمية الحدوث , أما الحقائق الأخرى الموجودة في الحياة لا تصل هذه النسبة في احتمالات وقوعها
أن أضعنـــي في المتحف..وأتوسد أقنعة الموتى
إن المحتوى المتوفر لديك , يتجاوز في قيمته الواقع الحالي بمسافة تساوي عمق تشكله الزمني , وهذه المسافة تنتج فراغا بينك وبين الواقع , تفرض الانقطاع في العلاقة معه بقدر حجم الفراغ ,,,
وإن البعد الناتج عن المسافة أيضا , يجعل نظرة الواقع إلى المحتوى قاصرة, فهو لن يتخطى في نظرته , خطوطه وألوانه , التي يغلف بها وجه المحتوى بقناع يظهره خارج صورته الحقيقية ,,,
ولا طريق إلى التخلص من أعباء وتبعات قسرية هذا الظهور المقنع , إلا الابتعاد عن الواقع بقدر حجم الفراغ , إلى المكان الداخلي للمحتوى ,,
وهنا بدت تظهر الخطوة الأولى للسير على طريق الانعتاق , وهي الانقطاع عن مكان الفراغ الخارجي والذهاب إلى المكان الداخلي للإمتلاء ,,
فــ الليل ,,
الليل هو وقت من النهار , يفكك كل أنواع الاندماج والتجمعات التي أنشأها وقت النهار, ويقوم بعملية عزل متسلسلة بين عناصرها تبدأ من التجمعات الكبيرة إلى الأقل حجما ثم الأصغر فالأصغر حتى يصل إلى عزل الوحدات الأساسية المكونة للعنصر الواحد ,عندما يبدأ بتغييبه عن ذاته في سرير النوم ,,
وجهي,,
الوجه هو الباب المفتوح على وقت الظهور \النهار\ والمدخل إلى إقامة حالات الاندماج والتجمع ,,,
فــ الليل يكبر في وجهي
وكنتجة طبيعية للرحيل إلى مكان الإمتلاء الداخلي كان لا بد من رحيل آخر هو رحيل إلى وقت الإمتلاء الداخلي , وضمن تدرج يفرضه السير عميقا في طرق المكان,,
الخطوة الثانية والمتلازمة مع الأولى باتجاه الانعتاق
وريش,,,
الريش .. هو تكوين يستند تشكيله على تقسيم أجزائه إلى وحدات صغيرة ,تساهم في توزيع وزنه إلى أقل ما يمكن, عندما يقطع الهواء تلك العلاقة القائمة بين وحداته ,بحيث يصل به الوزن إلى وزن كل وحدة على حدة , متجاوزا بذلك كثافة الهواء إلى كثافة أقل , تمكنه من التحليق في فضاء أكبر مساحة , بعد أن يكون قد أنهى علاقته مع جزء كبير من وزنه بنثرها على مساحة التحليق ,
وهذه هي الخطوة الثالثة باتجاه الانعتاق,,وهي إنهاء التعلق بالوزن , والرحيل من فراغ الوزن ومخالبه الذي يمسك الأشياء إلى الارتباط بوسط أشد كثافة إلى الإمتلاء بشفافية تمكن من التحليق في فضاء أوسع ,,,
وريش السنونو,,,
لون ريش السنونو أسود ,,
اللون الأسود .. هو لون خالي وغير ملتزم أو متعلق بفراغ أي لون آخر ,,,
وهنا يكون الحديث الأول قد وصل الخطوة الرابعة في درب الانعتاق ,
ومغادرة الفراغ للخطوط والحدود لزهوة ولمعة الألوان, إلى الإمتلاء بغيابها متحررا من أي حاجز أو حد , ومفتوحا لبلوغ الانعتاق ,,
السنونو,,,
السنونو طائر معروف بسرعته الفائقة في التحليق , وعلى مساحات كبيرة في الفضاء في وحدة الزمن , متخلصا من علاقته بجزء كبير من الطاقة , التي لا يستطيع مغادرة قيدها الذي يمسك سرعته ضمن وحدات زمنية محددة ,,
وهنا بدا يظهر فراغ الارتباط بالطاقة التي تؤطر وتحدد سعة الحركة ...
وريش السنونو ما عاد يكتشف مساحتي
كل الخطوات التي تحدثت عنها النافذة والتي تسير باتجاه الانعتاق , وإنهاء العلاقة مع فراغ المكان والزمان وبكل ما يحتويان من إنتهاء التعلق بحدود الوزن واللون والطاقة , لم تصل إلى الإمتلاء الداخلي لذات الشاعرة والتي تطل عليه من ثغر الحديث الأول للنافذة...
ولا يلائم عِتق حوافي
تأكيد آخر مفتوح على فضاءات أوسع على الإمتلاء من اللاحدود, والتي وصل اختراقها عمق الــ مكان والـــ زمان , واختراق أي غور يعطيهما الحضور..
إن الحديث الأول..
يضع لنا معالم النفي لكل دلالات الفراغ المادي , وينقلنا إلى رؤية قبس في عمق وادي الليل للإمتلاء , وتترك لنا الشاعرة امتدادات للتأمل في حقول نصل فيها حد صمتٍ تجاوز الصمت, صمت يغرق في ترامي حقول الانعتاق الغارق بمحيط استمرار الخلود المتلاطم البحار في استمرار دورة كل شيئ حي ,,,
الحديث الثاني
أقتبس
حدثتني نافذتي
أن أنبذ فكرة الجذور
أن أمضي كــ الهواء
لا أثر له على رؤوس العشب
لن يفيدني التهام الخراب
ببعضٍ من آثار ذاكرتي
.....
فكرة
الفكرة هي معرفة جديدة تنتج عن ربط مجموعة من المعلومات \معلومة\ ضمن عملية ذهنية معينة , وتكون هذه المعرفة قريبة من الحقيقة بقدر إدراك الذهن المفكر للمعلومات التي اكتشف العلاقات القائمة فيما بينها ,وهذه العلاقات هي بالأصل موجودة وحاضرة ضمن حالة استقرار, تجري صورالأشياء من نبعها , في جدول الزمن المتحرك في رسم مظاهر الوجود ,
وعندما تصل الفكرة إلى هذه النقطة من الجوهرية , يكون قد قام البرهان على توفرها كحقيقة تتصف بالتحديد والوضوح والاستمرار ,,,,
وتقع الفكرة في الشبهة , عندما نضع علاقات بين المعلومات التي تشكلها , تختلف عن العلاقات الموجودة أصلاً , ويصبح تصنيع العلاقات بديلاً عن إكتشاف العلاقات الأصلية القائمة بحضورٍ عجزت كميات زمنية هائلة من النيل منه ,,
الجذور
الجذر.. هو تكوين رابط للموجودات بالمكان وبقوة تصل إلى شرطية الارتباط بالحياة نفسها ,
أن أنبذ فكرة الجذور
وهذه نتيجة منطقية للتأكيد على إنهاء العلاقة مع فراغ محدودية المكان , الذي تحدثت عنه النافذة في الحديث الأول , الذي يثبت هنا أن فكرة الجذور هي شبه حقيقة , ولدت من علاقات وضعية بين وحدات المعلومات التي تربطها , وليس لها وجود أصيل لتعارضها مع الإمتلاء الداخلي , وانسجامها مع محدودية الفراغ الخارجي وتعلقها بأرضه,,,
كــ الهواء
الهواء.. مخلوق ليس له لون أو رائحة ولا طعم أو صوت ولا هو جسد تستطيع حاسة اللمس أن ترتوي منه , وتتشكل العلاقة مع حضوره عن طريق تعلقه بهذه العناصر وغيرها , وبدونها لا يمكن الشعور به او بتواجده ,
لا أثر
الأثر .. قد يكون صورة شيئ رسمت تحت تأثير ثقل وزن معين على لوح من قوام لين , أو مادة ما , تركت وعاءها الأصلي وتعلقت بمكان آخر وضمن آلية معينة , اللون يترك أثره في العين , والرائحة والطعم تترك ذراتها على النهايات العصبية حتى نشعر بها, والصوت يحدث تغير في استقرار الهواء ويركب موجاته إلى آلة السمع حتى نسمعه ,
رؤوس
الرأس هو الحد الأعلى من الأشياء , وفي غالب الأحيان ينتهي بنهايات أدق , فعند الإنسان يغطيه الشعر , وفي الطبيعة نرى الجبال وقد امتدت الغابات على رؤوس قممها , وتنتهي كل رؤوس الأشجار بالأوراق , والتي بدورها تنتهي رؤوسها بشعيرات دقيقة جداً,,
العشب
أصغر وأرق الكائنات النباتية التي يمكن أن نراها بالعين ودون أي مساعدة , ينتهي برأس دقيق مدبب تغطيه شعيرات لا ترى بالعين المجردة , تستطيع أن تلتقط أصغر الذرات التي يحملها الهواء ومن كافة الأنواع , وكذلك تستطيع أن تترجم أقل طاقة فيه إلى حركة تعكس وجود القدرة المتوفرة فيه , لأسباب الرهافة الشديدة , وتخترق كذلك بنصلها الدقيق أقل كثافة من الممكن أن تمر عليها منه ,,,
أن أمضي كــ الهواء
لا أثر له على رؤوس العشب
وصل حديث النافذة إلى مرحلة متقدمة جداً من اللاتعلق والإنعتاق , مرحلة تم التخلص بها من كل فراغ الحدود, من أضيقه حدوداً وكثافة إلى أكبره سعة وشفافية, انعتاق من خطوط اللون , والرائحة والطعم والصوت وحتى الحركة , ,
وهنا تطرح الشاعرة سؤالاً ,,,, يلمع نصل دقته بالتناقض الداخلي المختبئ بين ثناياه ,,
وهو .. كيف يكون المضي \ أمضي\ والمشتق من الحركة بدون أدوات الحركة نفسها ومستلزماتها والتي أهمها القدرة أو الطاقة \ كــ الهواء لا أثر له على رؤوس العشب \ كيف ستكون الحركة بدون حركة ؟؟؟
لا بد أن هذا الهواء قد تجاوز نفسه , إنه هواء من نوع آخر يتحرك بصورة الثبات , ولا يمكن إدراك هذه الصورة إلا بالنظر إليها من الوجهة المغايرة , النظر إليها من وجهتنا نحن , هذا الهواء وصل عمقا من الانعتاق لم يعد بعده عمق , استقر هناك , صرنا نراه يتحرك من الحركة فينا باتجاهه , عندما نقترب منه نشعر أنه يقترب منا , وعندما نتحرك بجهة ما وننظر بزاوية من الرؤية إليه , نشعر أنه تغيرت صورته , والحقيقة أن من طرأ عليه التغير هو نحن بسبب تعلقنا بالطاقة والحركة ومحدوديتها ,,,
التهام
الإلتهام ..هو تناول الكائن الحي لكائنات أخرى أو مواد أخرى تحت قانون الحفاظ على النوع , وهو هنا يمثل علاقة من نوع آخر, بالمحدودية والفراغ وضمن تراتبية تطورية تستند على البقاء للأقوى ,
الخراب
الخراب .. هو تفكك الشيئ المركب تحت تأثير عوامل الزمان والمكان , وتغيره وتحوله إلى شيئ آخر تختلف هويته عن الأول , بعد انعزال عناصره عن بعضها البعض بدرجات يحددها العامل المؤثر في الشيئ , وقد يصل التفكيك إلى انعزال العناصر المكونة , وتفكيك كافة الروابط التي تربط الوحدات ببعضها البعض , واستمرار كل عنصر في حالة منعزلة عن الآخر بشكل كامل ,,
والكائن المُخَرب أقل ارتباط بالفراغ من الكائن السليم , بسبب تدني علاقات التعلق فيما بين العناصر المكونة له والتي بدورها تعتقه من علاقات أخرى تربط الكائن بالمحدودية المحيطة به ,,
ذاكرتي
الذاكرة .. تشكيل ادخاري لصور الأشياء والرموز التي مضى وقتها بعد الحضور في مكان ما, وبمعنى آخر .. ليست الذاكرة إلا مستوع الجذور أو فكرة الجذور
لن يفيدني التهام الخراب
ببعضٍ من آثار ذاكرتي
إن ممارسة أدنى درجة من العلاقة مع أدنى درجة من درجات الفراغ والمحدودية لن يقدم إلى إزالة العثرات من طريق الإمتلاء بل يكرسها , وهنا تأكيد آخر على إنهاء الارتباط مع فكرة الجذور وكل ماله علاقة بها
إن الحديث الثاني ..
يعُرفُ .. الثبات.. ككائن بسيط غير خاضع لأي حالة من حالات التركيب, التي من الممكن أن تفرض عليه تحولاً جديداً في السعي نحو الإمتلاء , عندما يحاول إنهاء العلاقة مع المحدودية والفراغ ,,,
ويزيح الستارة عن مفهوم الانعتاق بانه صورة تدور حول محورية التخلص من كل العلاقات الوضعية والمركبة , والتي تحوي داخلها عوامل فراغ الزمن الآتي من حضورها , لعدم قدرتها على الصمود أمام صيرورته ,,,
ويفرق بين.. مفهوم الحركة الساكنة.. عندما تعلو ضجتها في إقامة كيانات أعمق محدودية , وبين مفهوم السكون المتحرك.. المتولد من حركة المحدودية باتجاه الثبات والإمتلاء أثناء محاولات التخلص من التعلق بالحدود والفراغ
الحديث الثالث ..
أقتبس
حدثتني نافذتي
أن النبع قد يدعي الحياة
بينما تسكن أحشاءه الوطاويط الميتة
سيتآكل رأسي في بطء
إن ارتوى منه
........
النبع..
النبع ..هو مصدر لا ينضب , مستمر في دورة , تبدأ مقدمتها في إمداده بالمادة الصادرة عنه , وتنتهي بنتيجة وغاية المقدمة , وهي صدور المادة المُزوَد بها , وبشكل موازي لدورة الزمن ,والتي تمسك توقيت المقدمة باللقاء مع توقيت النتيجة سعيا وراء استمرار الصدور والجريان ,
الحياة...
الحياة..هي مظهر من مظاهر الحضور, يكون استمراره بقدر ابتعاده عن التعلق بالمحدودية والمركب , ويمتلك طاقة حتمية وجوده , بقدر قربه من الثابت الممتلئ البسيط ,,
أن النبع قد يدعي الحياة
أمام معرفتنا بالنبع وخلوده , وحتمية حضور الحياة , نقف عند مسلمة , وهي أن الحياة هي التي تعبر عن وجودها , ولا تستطيع أقوى صرخات الإعلان من أي كان أن تحضرها , إنها مرتبطة بمصدرها المستمر \النبع\ ,,
إذاً.. ماذا تريد الشاعرة .. ماذا تريد انتصار ..من نقل هذا الحديث عن النافذة أو عن داخلها : ضمن هذا التركيب المشبع المتناقض مع المعرفة بالنبع , ومعرفة الحياة , وبأكثر من مستوى من مستويات العلاقة ؟؟؟
لا أجد إلا جواباً واحداً لهذا السؤال .. وهو أن النبع والحياة هنا,, هما أثر لحقيقة كانت حاضرة بهما , والآن قد غابت
تسكن...
السكنى .. السكنى تحدث تحت شرط الفراغ والخلاء , لا يمكن إشغال مكان ما من قبل الساكن وهو ممتلئ ,
أحشاءه
الأحشاء تمتلك نوعا آخر من صورة الفراغ , إنه فراغ متقطع وملتوي ويمتد ضمن تجاويف أنبوبية , تساهم في زيادة مساحته بنفس الحجم , مساحة الفراغ للأحشاء تكون أكبر من مساحة نفس حجمه فيما لو كان محاطا فقط بأربع جدران لغرفة , وفراغ الأحشاء فراغ مقسم إلى وحدات منعزلة عن بعضها بجدر التجاويف ,,
الوطاويط ...
الوطاط..هو حيوان يحلق بالليل وبسرعة هائلة , يعتمد برؤيته للأشياء على اصطدام الموجات المرتدة عنها إلى نفس المكان الذي صدرت عنه في دماغه , و بسرعة تفوق سرعة طيرانه, إنه يرى الأشياء بدقة كبيرة وبسرعة هائلة بغير عين أو بصر , بل بآلة تشبه كثيرا صورة البصيرة , ,,
البصيرة... تستشرف وترى بعمق قد يصل التنبؤ بحدوث أشياء غير متوقعة , ,,
وتتكون البصيرة وتتشكل من معرفة ناتجة عن إدراك عميق لعلاقات عدد كبير من الحقائق , التي وصلت في ثباتها بساطة الجوهر, المتخلص من كل أشكال التركيب , ومن القابلية للتغيير, أوخضوعه للتأثر بأي ظرف من الظروف التي تؤطر الواقع ,,
بينما تسكن أحشاءه الوطاويط الميتة
إذا هو نبع هائل المساحة للفراغ والعدم , لهذا هو دائم الادعاء والإعلان عن نفسه في محاولة لإثبات حضوره ,,
وهنا أرى نتجة هامة .. وصلت إليها انتصار ..
وهي تحديد تعريف للفراغ ..
وهو.. أن الفراغ يأتي بعد رحيل الإمتلاء \ الوطاويط الميتة\ , حيث في هذه الصورة رحلت المعرفة أو رحلت روح البصيرة التي كانت فيما مضى توفر الإمتلاء لمساحات كبيرة من حقول أحشاء النبع المُصدر للحياة ,
وإن الفراغ هو حالة مؤقتة وطارئة \ لقد بقيت البصيرة في جوف الفراغ لكنها ميتة \ , لأن أصله هو الإمتلاء , وليس حالة الإدعاء \ أن النبع قد يدعي الحياة\ إلا هي السعي للعودة إلى إنهاء التعلق بحدود الفراغ , وبلوغ الانعتاق ,,
سيتآكل رأسي في بطء
إن ارتوى منه
ثمة علاقة ماكرة وخفية يحاول الفراغ أن يمد جسورها مع الإمتلاء , إنه يستخدم آثار الإمتلاء \النبع.... الوطاويط الميتة\ حتى يعيد الجريان للحياة منه , عندما يبقى مستمرا في الإدعاء أن البصيرة حية داخله ,,,
تحذر هنا .. انتصار .. عن طريق حديث النافذة .. من التعاطي مع شبهة الامتلاء ..
وإن نجاح الشبه في إقامة علاقة مع الساعي إلى الانعتاق , سيحرف به الطريق باتجاه الفراغ \ سيتآكل... في بطء\ وهو عند ظنه أنه يسير باتجاه الانعتاق ,
في الحديث الثالث
في هذا الحديث تصل بنا ثقافة الشاعرة انتصار دوليب , إلى نتيجة غاية في الأهمية والحيوية , وهي الفرق بين مفهومين في غاية الإشكالية , لأنهما متشابهان بالمظهر وإلى درجة كبيرة , ومختلفان بالمضمون ,,,
المفهوم الأول : هو الفراغ
المفهوم الثاني : هو الانعتاق
الفراغ .. هو حالة من حالات عدم التعيين , ويقع تحت تأثير عوامل الزمان والمكان لأنه مركب ومحدود , ويأتي بعد رحيل الإمتلاء , وليس له وجود أو حضور أصيل أو سابق ,,
الإنعتاق .. هو صورة عميقة للإمتلاء لأنه حالة جوهرية غائرة في البساطة , إلى درجة انعدام تأثير أي عامل من العوامل بها , بسبب غياب العلاقات المركبة , والتي هي محط وسبب التأثير ,, إنه حالة من حالات الثبات العميقة الإستقرار , والذي تدور حوله كل الأشياء , سعيا منها للوصول إليه ,اختياراً أو قسراً ,, ومن الصعوبة بمكان معرفة حدوده أو نهايته ,,,
الحدود والنهايات ترتبط دائما بالمركب في أبجدية التفكير لدينا,,,,
الحديث الرابع
أقتبس
حدثتني نافذتي
أن الليل مشلول ولا يقدر على المجيء إليّ اليوم
كان يسقط كــ نيزك في صدري
والآن..لا يستطيع حتى
ارتداء لونه
.............
أن الليل مشلول ولا يقدر على المجيء إليّ اليوم
الليل وقت يمثل نصف النهار , وهو العامل الحاسم في تضييق الحدود , وإقامة جدران الغربة والعزلة , كما أسلفنا سابقا ,,,
بعد أن تم تحقيق الدرجات السابقة بالتخلص من العلاقات مع المركب والفراغ والمحدود , صار اليوم جميعا وقتا واحدا هو وقت النهار, وهو وقت الاندماج بجوهرية ثبات البسيط والانعتاق والإمتلاء ,,,
كــ نيزك ...
النيزك .. هو جسم في النظام الشمسي يهيم في الفضاء على غير هدى , وعندما يدخل الغلاف الجوي لأرض يتوهج بسبب مقاومة الهواء لسرعته , وهو يتركب من أجزاء متناهية في الصغر إلى الكبيرة , ويستمد قوته من تباعد أجزاءه , وتركيبه الهش , حيث أن هذا التباعد بين الأجزاء يعيق تدميره بأي نوع من القذائف التي يمكن أن توجه إليه , ومعروف ماهو الأثر التدميري الذي يحدثه عند سقوطه على الأرض , إنه يصنع فراغا يتناسب عمقه ومساحنه مع ثقل وقوة السقوط ,,,,,,,
كان يسقط كــ نيزك في صدري
لقد كان التشابه بين حضور الليل والنيزك في أنهما يحدثان الفراغ عن طريق تعميم فراغهما الداخلي على الأشياء التي يقعان عليها ,,,
والآن..لا يستطيع حتى
ارتداء لونه
تأكيد أعمق على انتشار الإمتلاء وبلوغ درجات الانعتاق... وبصورة جميلة أخرى ,,, الوقت صار جميعه للنهار , وتخلص اليوم من علاقته بالليل
إن الحديث الرابع
يحمل بين طيات ألوانه وخطوطه , ابتسامة الوصول إلى نقطة قريبة من الثبات , والبسيط والجوهري , المقاوم لكل عوامل التأثير والتأثر,,,,
لم يبق في وقت اليوم أي فراغ أو تعلق بأي حد ,, إنه مفتوح على كل حالات الاندماج والوعي لسعادة حرية المعرفة
الحديث الخامس
أقتبس
حدثتني
أن تلك البركة.. تشتهي المحيط وتحن إليه
تريد من السماء أن تطحن تلوثها
هنـــاك
......
البركة
البركة .. هي مكان محدد تجتمع فيه المياه بعد انقطاع المصدر عنه
المحيط
المحيط .. هو المكان الذي ليس له حدود من حيث المكان , ومن حيث الدورة الزمنية التي يتجدد بها ,,
فمن حيث المكان .. كل نقطة على سطحه نستطيع أن نعتبرها نقطة بداية ونقطة نهاية في آن , على باعتبار سطحه ينتشر على شكل كروي, وكذلك تجانس تركيبه في أي نقطة منه ,
أما من حيث الدورة الزمنية .. إنه يتجدد ضمن دورة تبدأ من تكاثف بخاره في الغيوم ثم هطولها مطرا , وتخزين المطر في الأرض حتى يتفجر ينابيع تجري في أنهار تعود للبحر ,, والجزء الذي تنقطع فيه السبل للعودة إلى المصدر .. هو البركة,,,
وتحن
الحنين عاطفة تتولد بين أجزاء متجانسة ومتطابقة وتتشكل من نفس العناصر
أن تلك البركة.. تشتهي المحيط وتحن إليه
ليست مبرارات السير نحو الانعتاق إلا العودة للأصل والإندماج فيه , تحت الشعور العميق بالغربة والعزلة المتولد على شكل عاطفة لا يمكن ان تنمو إلا بين الأشياء المتجانسة والمتطابقة
السماء ..
السماء هي وطن النقاء والصفاء , وهي التي تطل النافذة عليها وتتحدث بلسانها من داخل الشاعرة
تلوثها
التلوث يتشكل من الركود وعدم الحركة ومن السكون بين الحدود الضيقة , فضيق الحدود يحتم حركة ضعيفة تؤدي بدورها إلى ضعف وهشاشة التركيب , الذي يشكل إغراء للإعتداء على التركيب الضعيف من تركيبات أخرى تكون أقوى ,,,
تريد من السماء أن تطحن تلوثها
هنـــاك
البركة بحاجة إلى قانون السماء حتى يحملها بين ذراعي حرارة الشمس بخارا يتكاثف غيما فيها ويعيدها إلى اللاحدود ,إلى المحيط , حيث القوة الغير متناهية والاندماج بعمق الثبات والإمتلاء
في الحديث الخامس
تخبرنا .. انتصار .. بحديث النافذة .. عن مبرارات الانعتاق ودوافعه , وأنه ليس إلا عودة منطقية إلى ديار من الصعب أن نعي أسباب الإنقطاع عنها , ولكن نشعر بالإنتماء إليها بشكل أو بآخر,,
همسة ختامية مفتوحة على البدء
أقتبس
همست نافذتي
قبل أن تغفو فوق صمتها
أنني..يجب أن أغلق اللون الأخضر
وأكتفي
بلون احتراق عكازي
.......
همست نافذتي
الهمس ... هو صوت ننقل على متنه معلومة لا نريد لأحد أن يسمعها إلا من نهمس له , لأن تعميم تلك المعلومة قد يسبب خللاً في توازن العموم ,
همست نافذتي
قبل أن تغفو فوق صمتها
لقد انتهى نهار الحديث , وجاء وقت الراحة , الذي استمد شرعيته من أداء عمل عظيم هو هذا الحديث أو الأحاديث المفتوحة النهاية على بداية جديدة في دورة حلزونية صاعدة
أغلق
الإغلاق معنى نستخدمه عندما نريد وضع حاجز بيننا وبين فضاء آخر , ويسمى هذا الحاجز الباب ,
أنني..يجب أن أغلق اللون الأخضر
لهذا همست النافذة , اللون الأخضر هو كل بهرج الحياة ومتعتها , ولكنه مؤطر بأنه محدد بلون لا يمثل غيره , والإنشغال به لن يؤدي للوصول إلى الثابت والإمتلاء ,,, بل يكرس التعلق بمحدودية المركب القابل للتأثر بعوامل أقوى منه تؤدي به إلى حضور مؤقت وغيرثابت
بلون احتراق
لون الإحتراق هنا أسود ,, لا خط لأي لون يرسم حدوده فيه ,
عكازي
العكاز ..أداة نستخدمها لنستمد منها قدرة فقدناها , نستغني عنها عند عودة القدرة المفقودة
وأكتفي
بلون احتراق عكازي
إن بلوغ الغياب لكل الخطوط والحدود , سيعيد إليك قدرة كنت قد استهلكتها بين الخطوط والحدود الضيقة ,
إن الهمسة الختامية المفتوحة على البدء
ترسم الطريق الذي يجب السير عليه لبلوغ مقدمات الانعتاق , وهو الانقطاع عن كل ماله صلة بالمحدود , وكل شيئ يحمل داخله عوامل الفراغ والانتهاء , كانت همسة لأنها احتوت على قول ثقيل ليس من السهل تحمل أعبائه وخشونة طريقه وعيشه , لكنه يؤدي إلى السعادة الخالدة .
كل التحية والتقدير للشاعرة الكبيرة انتصار دوليب
لما رسمت لنا من المعرفة في هذه الصور الجميلة بمعرض قصيدتها حدثتني نافذتي