إيقاع وانطباع لقصيدة الشاعر أسعد النجار

قصيدة بغداد

د أسعد محمد علي النجار

القصيدة

بغداد انت المنى والمجد والظفر
بغداد فيك ضياء الخير ينتشر

يا دار عز حباك الله منزلة
بين المدائن انت الشمس والقمر

أنت السلام الذي شعت مبادره
بغداد حارت بك الأخبار والسير

أنت الأمان لعصر بات يؤرقه
شر الخصام الذي يذكى فيستعر

أنت الجنان لدنيانا وزينتها
لنبض قلبك كل الخلق يفتقر

فيك الرشيد سما والعز يصحبه
يقول للشمس أنى سرت أنتظر

وفيك ماموننا راياته ارتفعت
للعدل ترفع للإيمان تستحر

انت السراج الذي يسمو بطلعته
بغداد يحلو لك الترحال والسفر

فيك لطه حفيد عالم علم
ذا كاظم الغيظ مقدام ومقتدر

إن سل حرف التقى راحت اراذلها
تجر اذيالها جبنا فتنتحر

عيناك بغداد كم تحلو مفاتنها
وفيهما غنت الأزمان والعصر

وفي رباك علوم الأرض قد وضعت
وفيك آداب هذا الكون تزدهر

ماذا سأكتب يافردوستي وانا
متيم فيك أنت اللحن والوتر

واليوم نحن بحرف الحب نمدحها
عنقود عشق بكأس الود يعتصر

رام العتاة لها موتا يطال بها
تبا تقول أنا المرجان والدرر

على الحدود أتوا كي يسرقوا وطنا
تاريخه قد علا رواياته طهر

فالشعب يتبع صرح الحق محتسبا
رضا الإله كما في متنه الخبر

سيري بنا نحو علياء تليق بنا
نحو المفاخر رايات بها الظفر

ما كان ينفعهم مكر ولا خدع
هم الرعاع فلم ينفعهم الحذر

تهابك اليوم كل اليوم إن حميت
كسب المعارك في تاريخنا قدر

رعاك رب العلى بغداد يا أملي
كفى بحبك ما يزهو به الثمر

بغداد([1]) لمن لايعرفها : ولها تسميات أخرى:
· الزوراء نسبة لانعطاف نهر دجلة نحو جهة الغرب، فكأنما هو مزور.
· المنصورية نسبة إلى الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، وهو أول من بناها عام 762م، واستغرق بناؤها أربعة أعوام.
· مدينة السلام أو دار السلام، نسبة إلى نهر دجلة الذي كان يسمى وادي السلام، واسم مدينة السلام هو كنية اشتهرت في المراسلات الرسمية، وأمر بتداوله الاسم الخليفة المنصور، وأكد عليه عندما سك الدنانير والدراهم العباسية فنقشه عليها.
· المدينة المدورة نسبة إلى بنائها المدور.
ومحافظة بغداد هي أصغر محافظات العراق مساحة. لكنها تأتي في المرتبة الأولى بين محافظات العراق من حيث عدد السكان إذ يبلغ عدد سكانها حوالي 8.4 مليون نسمة عام 2016. وثاني أكبر مدينة في الوطن العربي بعد القاهرة، وتأتي بالمرتبة 40 عالمياً من حيث عدد السكان وتُعد المدينة المركز الإقتصادي والإداري والتعليمي في الدولة.
· بناها الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور سنة 145 هجرية. تتميز منطقه بغداد بمرور نهر دجلة خلالها إذ يقسمها لشطرين الكرخ والرصافة. استمرت بغداد كعاصمة الدولة العباسية لحين بناء مدينة سامراء إذ تحولت عاصمة الخلافة لها ثم عادت كعاصمة للدولة العباسية حتى سقوطها بيد المغول سنه 656 هجريه. تتميز بغداد بكثرة المواقع الأثرية القديمة من عهد فجر السلالات كزقورة عقرقوف ( دور كوريغالزو) وإيوان كسرى ( قصر كسرى الفرس) في منطقة المدائن والآثار الإسلامية الكثيرة مثل المدرسة المستنصرية التي تعتبر أول جامعة بالتاريخ بالتعريف الحديث كما يوجد بها كثير من مراقد أعلام المسلمين مثل الإمام موسى الكاظم وأبو حنيفة النعمان وعبد القادر الكيلاني وسلمان الفارسي وغيرهم.
· عادت بغداد عاصمة لدولة العراق في بداية القرن الماضي بعد الحرب العالمية الأولى وشهدت تعاقب من الحكم الملكي إلى الجمهوري سنة 1958.
· وفي العهد العثماني كانت ولاية بغداد إحدى ولايات الدولة العثمانية، يحدها من الجنوب ولاية البصرة ومن الشمال ولاية الموصل ومن الشرق فارس، ويقع مركز الولاية في مدينة بغدادوتنقسم إلى عدة ألوية هي: لواء بغداد. لواء كربلاء. لواء الديوانية. وكان مقر متصرفية لواء بغداد في مبنى القشلة، في جانب الرصافة من مدينة بغداد.
· مدينة بغداد المدوّرة هي المقر الأصلي لبغداد، بناها الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور في عام 762-768م كمقر رسمي للحكومة العباسية. أسمها الرسمي في العصر العباسي هو مدينة السلام.وبنيت على الضفة الغربية لنهر دجلة، وعلى قرية بغداد القديمة، واستغرق بنائها اربع سنوات، وبلغت مساحتها حوالي أربعة اميال. تم بناء المدينة على مرحلتين: أُنجِزت الأولى عام 146هـ وكانت هي أهم المرحلتين، وقد توقّف العمل بعدها ستة أشهر بسبب بعض الحركات المعارضة. الثاني: وهي المرحلة التكميلية، واستمرت ثلاث سنوات، ابتدأت من انتقال المنصور اليها عام 146هـ، وأُنجِزت عام 149هـ. ومن أشهر الابنية في المدينة المدورة قصر الذهب وجامع المنصور ومكتبة دار الحكمة.

ويعتبر تخطيط مدينة بغداد المدورة ظاهرة جديدة في الفن المعماري الإسلامي، ولاسيما في المدن الأخرى التي شيدها العباسيون مثل مدينة سامراءوما حوته من مساجد وقصور خلافية فخمة. وإلى جانب العمارة وجدت الزخرفة التي وصفت بأنهما لغة الفن الإسلامي، وتقوم على زخرفة المساجد والقصور والقباب بأشكال هندسية أو نباتية جميلة تبعث في النفس الراحة والهدوء والانشراح.
· بغداد (أوزبكستان) : مستوطنة في أوزبكستان. : وهي بلدة في مقاطعة بغداد في ولاية فرغانة في أوزبكستان.

بعد هذا التعريف للحبيبة بغداد ينظم الشاعر لآلئه بسمطٍ من حرير ليعلقها قلادة زهرية في جيدها.

بغداد انت المنى والمجد والظفر

بغداد فيــك ضيــاء الخير ينتشر

الشاعر الأسعد يتخذ لحبيبته موسيقاه من تفعيلات البحر البسيط ليتغنى بذات التاريخ العريق بـ (أنت المنى والمجد والظفرُ) ليشَكِّل ظاهرةً ممكنةَ التأصيلِ لذاتِها كخِطابٍ موسيقي يرتقي لمجاورةِ الفكرِ المعاصرِ وتَحَولاتِهِ, فانتهج الشاعر خطاً وزنياً ثابتاً وواضحاً وبفاعلية إيقاعية تنتقل بنغماتها إلى المتلقي ذي الحساسية المرهفة الشعور حين يبوح (بغداد فيــك ضيــاء الخير ينتشر) بتوافر الحركة الداخلية ذات الحيوية المتنامية. وبإضافة الضياء للخير وانتشاره بقافية تنتهي بحرف الروي (الراء) وسنتكلم عنه لاحقاً.
وقد منح الأسعد التتابع الحركي وحدة تغمية عميقة عن طريق إضفاء خصائص معينة في قوله (يا دار عز حباك الله منزلة) ليجعل بينه وبين المتلقي حركة تخرج عن السكون، لتعطي المتلقي إحساسًا بالفرح والسرور وليمدّ المعنى برفاهية اللغة التي يتميز بها الشاعر وليكوِّن جسراً لؤلؤياً يتبختر عليه البيت في عجزه (بين المدائن انت الشمس والقمر) بتركيب موسيقي يشتمل على وزنٍ متساوٍ، وهو جانب الموسيقى في الشعر، وقد أبرز الشاعر موسيقاه بحرف الروي «الراء» وهو من حروف الذلاقة، فمن خصائصه قدرته على الانطلاق من دون تعثر في تلفظها، ولمرونته وسهولة النطق به ومما يسوغ كثرة استعماله في أبنية الكلام([2]) وانه من الأصوات المجهورة([3]).» اذ لولا ذلك لفقدت اللغة اهم عنصر فيها وهو تنغيمها وموسيقيتها ورنينها الخاص الذي يميز به الكلام من الصمت([4])«. أما الوزن فهو صيغة آلية، والإيقاع إبداع جمالي قائم على الفاعلية بين الشاعر والمتلقي معتمداً على عناصر الكتلة الحركية. (أنت السلام الذي شعت مبادره) وصف محبوبته بإسمها القديم (مدينة السلام) وهو مفعم بسيل عارم من المحبة والأمل بعودة السلام فيها.فإن الإئتلاف بين التكوين الشعري والصوت وارتباطهما بالفاصلة الموسيقية للقافية مع الحال النفسية للشاعر بالفخر بمدينته المحبوبة وهو يعزف على أنغام بنائه الموسيقي والذي يتميز بالنغم والرنين العاليين ليشكل جزءاً من الوحدة الموسيقية الشعرية التي يتوقع السامع تكرارها، (بغداد حارت بك الأخبار والسير)ولأنها أصوات ذات قيمة تعبيرية تحقق التأثير في المتلقي كما تضيف له ظلالاً إيحائياً بجرس القافية المرسوم فيها نغم الروي.. (أنت الأمان لعصر بات يؤرقه) يلون الأسعد أوتاره النغمية بهذا التباين الصوتي وحسب حال نفسيته المقننة بإطار فني يراعي النبرة ضمن الوحدة اللغوية في القافية لوجود تشابه في الطبيعة الصوتية في أبيات سبقتها بمناداة لفظة بغداد فكلا الصوتين له نفس الفاعلية ضمن تقنيات الإيقاع.
(شر الخصام الذي يذكى فيستعر) يشير الشاعر الى ظرف زمني يمر الآن في أجواء محبوبته لكنه لاينسىجمال التناسق الموسيقي، فالتواؤم في الوحدات الموسيقية وتردد الوزن والقافية اللذانِ يشكلانِ وحدة بنائية للقصيدة المتولدة عن التكرار يمنح جِرسا نغميا يشغل النفس عند سماعه وقد تميز هنا بالإذكاء والسعير. (أنت الجنان لدنيانا وزينتها) هذهالألفاظ والعبارات التي يتخيرها الشاعر ليؤدي وظيفة إيقاعية خاصة تتوائم وبقية اجزاء القصيدة، فضلا عن الحلاوة في الأسلوب، والسمو في المعاني، في (أنت الجنان) والعذوبة في الإنشاد،(لدنيانا وزينتها) «هو تناوب الألفاظ – والتراكيب- والمعاني) واعادتها في سياق التعبير بحيث تشكل نغما موسيقيا يتقصَّده الناظم([5])«.
(لنبض قلبك كل الخلق يفتقر) يطلق الشاعر عنان النبض في نغمات موسيقية منتظمة في إيقاعها، وهي تضيء نفس الشاعر ببطء الحركة المتساوقة مع احاسيسه ومشاعره، والمتناسقة مع المعنى الشعري في ايحاءات قوية وضعيفة لتتحد في بناء موسيقى القافية الموسومة بالروي(الراء). (فيك الرشيد سما والعز يصحبه) المخاطب في شعر الأسعد (بغداد) يناديها فيك الرشيد([6]) والرشيد هو باني بغداد (سما والعز يصحبه) بدندنة لو شئنا نغنيها، والسمو ارْتفعَ وعظُم في مَجال الشُّعور والأَخْلاق، وبلَغ دَرَجة كُبْرى في سُلَّم القِيَم. يعتبر هارون الرشيد من أشهر الخلفاء العباسيين، وأكثرهم ذكرا حتى في المصادر الأجنبية كالحوليات الألمانية في عهد الإمبراطور شارلمان التي ذكرته باسم (ارون)، والحوليات اليابانية والصينية التي ذكرته باسم (الون)، أما المصادر العربية فقد أفاضت الكلام عنه لدرجة أن أخباره قد امتزجت فيها حقائق التاريخ بخيال القصص، ولا سيّما كتاب» ألف ليلة وليلة« التي صورته بالخليفة المسرف في الترف والملذات، وأنه لا يعرف إلا اللهو وشرب الخمور ومراقصة الغانيات. والواقع أن هذا الخليفة كان من خيرة الخلفاء فقد كان يحج عامًا ويغزو عامًا، وذكر أنه كان يصلي في خلافته في كل يوم مائة ركعة إلى أن مات، ويتصدق بألف، وكان يحب العلماء، ويعظم حرمات الدين، ويبغض الجدال والكلام، ويبكي على نفسه ولهوه وذنوبه، لا سيما إذا وعظ. وقد تم فتح الكثير من البلدان في زمنه، واتسعت رقعة الإسلام واستتب الأمن وعم الرخاء وكثر الخير بما لا نظير له ثم إن هذا الخليفة كان حسن السيرة والسريرة. والواقع هذه الصورة المتباينة للرشيد ما هي إلا انعكاس للعصر الذي عاش فيه بمحاسنه ومساوئه، وهو العصر العباسي الأول أو العصر الذهبي للإسلام. وقد تميز عصره بالحضارة والعلوم والازدهار الثقافي والديني، وأسس المكتبة الأسطورية بيت الحكمة في بغداد، وبدأت بغداد خلال فترة حكمه بالازدهار كمركز للمعرفة والثقافة والتجارة. (يقول للغيمِ أنى سرْتَ أنتظر) بإشارة من الشاعر الى مقولة الخليفة هارون الرشيد المشهورة وهو يخاطب السحاب (في أي مكان شئتِ أمطرى فسيحمل إليّ خراجك) بدليل سعة ملكه. ومن أقواله هذا البيت:

النفس تطمع والأسبــاب عــاجزة

والنفس تهلك بين اليأس والطمع

(وفيك ماموننا راياته ارتفعت) لثقافة الشاعر التاريخية بالعهد العباسي الأول ذكر المأمون لما له من مجد خالد([7])، وقد تفرد عهد المأمون بتشجيع مطلق للعلوم من فلسفة وطب ورياضيات وفلك واهتمام خاص بعلوم اليونان، وقد أسس الخليفة عام 830 م جامعة بيت الحكمة في بغداد والتي كانت من كبريات جامعات عصرها، واخترع في عهده الاسطرلاب وعدد من الآلات التقنية الأخرى، وحاول العلماء قياس محيط الأرض ما يدل على الاعتراف بكرويتها من ناحية وتطور العلوم من ناحية ثانية؛ وقد تكون عمليات الترجمة التي رعاها هو وحاشيته وولاته، أبرز سمات عهده، إذ نقلت خلالها العلوم والآداب السريانية والفارسية واليونانيةإلى العربية، اكتسبت من خلاله اللغة العربية مكانة مرموقة إذ تحولت من لغة شعر وأدب فحسب إلى لغة علم وفلسفة.
وكذلك فقد ساهمت عمليات الترجمة في إرساء منسوب ثقافي عال في الدولة، ثم عهد بولاية العهد قسطاً من الزمن لعلي الرضاوأخذ الشعار الأخضر بدلا من الشعار الأسود، ثم عاد إلى شعار بني العباس الأسود وعين أخاه وليا للعهد. وزار المأمون مصر ودمشق والجزيرة السورية وتوفي ودفن بطرسوس شمال بلاد الشام.
(للعدل ترفع للإيمان تستحر) وقد غنى الشاعر الأسعد بموسيقى القافية وهو يؤسس لها بجرس نغمي متناسق في بنائها، وذي قيمة إيقاعية مكثفة فكان للنغم أثره في ذهن المتلقي؛ لأنَّه يتناغم مع صوت الروي في ترديد الوحدة الموسيقية للقافية.
(انت السراج الذي يسمو بطلعته) الخطاب لبغداد التي كنّاها بالسراج وهو المصباح الزاهر أو كل شئٍ مضئ. ويؤكد ذلك قوله في عجز البيت (بغداد يحلو لك الترحال والسفر) وربما حمل الشاعر على هذا الامر ليشد انتباه المستمع الى الجرس الموسيقي الناتج من إيقاع المشي والسير عبر الترحال والسفر.

فيــك لطـــه حفيـــد عالـــم علـــم

ذا كاظــمالغيــظ مقــدام ومقتــدر

(فيك) تلميح لبغداد .. مما يحسن بنا أن نومئ إلى أن تكرار اسم بغداد والتلميح اليها يكشف عن الباعث النفسي في عناية الشاعر الأسعد في التعبير عنها؛ لبيان مكانتها؛ وهذا لا ريب فيه، لطـــه حفيـــد عالـــم علـــم اذ فيها من نور النبوة وهو سيدنا الكاظم([8]) عليه السلام.
· قال ابن الجوزي» موسى بن جعفر كان يدعى العبد الصالح، وكان حليماً وكريماً، إذا بلغه عن رجل ما يؤذيه بعث إليه بمال«.
· وقال أبو حاتم» :موسى بن جعفر ثقة، صدوق، إمام من أئمة المسلمين« .
· قال الذهبي: » كان موسى من أجواد الحكماء، ومن العبّاد الأتقياء، وله مشهد معروف ببغداد.«
· وقال الشبلنجي الشافعي: »قال بعض أهل العلم: الكاظم هو الإمام الكبير القدر، الأوحد، الحجة، الحبر، الساهر ليله قائماً، القاطع نهاره صائماً، المُسمَّى لفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين كاظماً. وهو المعروف عند أهل العراق بباب الحوائج إلى الله، وذلك لنجح قضاء حوائج المتوسلين به، ومناقبه (رضي الله عنه) كثيرة شهيرة.«

إن سل حرف التقى راحت أراذلها

تجــر اذيالهـــا جبنــا فتنتحــر

(إنْ سلّ) مصدريّة، تدخل على الفعلين المضارع والماضي فتنصبهما، (حرف) في اصطلاح النحاة: كلمة دلّت على معنى في غيرها، وهو كلمةلا يظهر معناها إلا إذا ركّبت مع غيرها (حرف التقى).
بهذه المهنية والحرفية يبهتنا الأسعد بمقومات الخفة في الاستعمال، ويثري الإيقاع بالقيمة الصوتية والدلالية المتولدة من شطري البيت التي يخاطب المتلقي لبيان ماوراء الصدر من معنى فـ (تجــر اذيالهـــا جبنــا فتنتحــر) لحاجات نفسية ملحة في الاداء الشعري ذات الصلة القوية بالتقنيات الفنية والموضوعية، وبعمق إحساس الشاعر في إيصال المعنى للسامع قبل إنصاته لإيقاع النص.
وهنا يستعمل حقاً من حقوقه عند نظم الشعر في اتمام المعاني التي اقتضتها طبيعة التجربة الشعرية المنجزة، وفي اقامة الوزن والقافية والموجَّه في ذلك كله حالته النفسية ساعة ابداعه الشعري.

عينــاك بغداد كم تحلو مفاتنها

وفيهما غنت الأزمان والعصر

يريد الشاعر لابداع فنَّه الشعري الذروة في أفانين القول، فانه يوجه عنايته باغناء لغته الشعرية بالمعاني والصور والأخيلة، واثرائها بكل ما هو جميل ومبدع ليصل بعمله الشعري القرب إلى الكمال، فيلجأ إلى ممارسة حقه في انجازه بالمجازات اللغوية والتركيز على (عيناك) وفيهما غنت الأزمان والعصرُ.. ومصداقاً لقوله فقد تغنت بها فيروز وكذلك القباني في قصيدته :

مُــدّي بسـاطـيَ واملأي أكوابـي

وانسي العِتابَ فقد نسَـيتُ عتابي

عينـاكِ، يا بغـدادُ ، منـذُ طفولَتـي

شَـمســانِ نائمَـتـانِ فـي أهـدابي

ولأن الشعراء أُمراء الكلام يُصرّفونه أنى شاءوا، (وفي رباك علوم الأرض قد وضعت) ويجوز لهم ما لايجوز لغيرهم من اطلاق المعنى وتقييده ومن تصريف اللفظ وتعقيده (وفيك آداب هذا الكون تزدهر) فهذا الوعي الحسي لأذن الشاعر بحسن صحة الوزن لموسيقى البيت شيء من تمام لوازم لغة الشعر.
(وفيك آداب هذا الكون تزدهر) بهذا المدح الذي تتسم به لغة الحب التي نضحت من الحركة النفسية للشاعر والتي تثري النص بالدلالة الوجدانية في وقت انخراط الشاعر مع مديات الإيقاع الواسعة والمنفتحة والشديدة المرونة، ليتسائل بـ (ماذا سأكتب يافردوستي وانا) مخاطباً من وصفها بأعلى مراتب الجنان ويقول (متيم فيك أنت اللحن والوتر) متيم إسم مفعول من تيّم بمعنى مُسْتَبِدٌّ بِهِ الْحُبُّ.. فيكِ أنتِ اللحن والوتر بتناغمٍ صوتي متتابع وسريع الى آخره، فيحقق غنىً في الإيقاع، وهو ينشد بث الفكرة التي يعالجها الموضوع ضمن الإيقاع المنجز فيحقق غنىً دلالياً أيضا بإشارة الى صدر البيت.
ويذكرنا الأسعد بأبيات لنزار قباني:

بغدادُ..عشتُ الحُسنَ في ألوانِهِ

لكنَّ حُسـنَــكِ لم يكنْ بحسـابــي

ماذا سـأكتبُ عنكِ يا فيروزَتي

فهـواكِ لا يكفيــه ألـفُ كتـــابِ

وهذا البعْد الإيقاعي المُهَنْدَس بالإنفعالات النفسية وإيحاءاتها الدلالية باجتيازه حدود المعنى والشاعرية بنبرة نصية احتفائية بقول الشاعر (واليوم نحن بحرف الحب نمدحها) تتجه صوب حركة الداخل لتحدث فناً عريضاً يسهمٍ في التشكيل الإيقاعي ويبين مدى فاعليته في تشكيل البنية العامة للنص ليرتبط بالبعد الدلالي (عنقود عشق بكأس الود يعتصر) ليقف بنا على العلاقة العضوية بين الدلالة الإيقاعية والدلالة اللغوية باستجلاء المعاني النبيلة في (عنقود عشق بكأس الود) لتجسيد الجمال بصورة قلّ نضيرها ضمن هذا التمكن الفني المخبوء في عنقود العشق وما لاستخدام هاتين المفردتين من علو وخاصة عند تكملة المعنى بكأس الود حيث أن الود تجتمع فيه مفردتان هما الحب والوداد فكان الشاعرُ موفقاً جداً في هذا السبك البلاغي المعبر عن خلجات صدره.
(رام العتاة لها موتا يطال بها) وقد غطى النجار التمثيل الصوتي بمضمون يناسب الإنفعال النفسي بفعلٍ ماضي يتراكم من خلاله الوجد في حالة نفاذه ولكن فطنة الشاعر وحذاقته ألحق الدفقة الموسيقية بتقويل بغداد تبّاً للعتاة في عجز البيت (تبا تقول أنا المرجان والدرر) وتصف نفسها بالمرجان والدرر وحق لها أن تفتخر بالنفائس في هذا الميدان. والمرجان هو أحد المواد العضوية الأكثر قدماً في الاستعمال في صناعة الحلي أما الدر فإنه اللؤلؤ وكذلك له معنى آخر: الْمَكَانَةُ، القِيمَةُ.

على الحدود أتوا كي يسرقوا وطنا

تاريخــه قــد عــلا رواياتــه طهــر

فالشعب يتبع صرح الحق محتسبا

رضــا الإلــه كمـا فــي متنه الخبر

ثم يمتطي صهوة الفخر مرة أخرى باستعمال أدواته الموسيقية عالماً بأن الشعر لايتحقق دون الإيقاع فأنْصَتَنا بكلِّ جوارحنا الى رنة التاريخ وطهره، وبدندنة غريزية يأخذنا الى مايثري النفس العاشقة بمؤثرات الفتنة في اتباع صرح الحق لتبقى الروح معلقة هناك بتنويرٍ إبداعيٍّ محسوس يتواصل مع مبتغى الشاعر والمتلقي رضا الإله.

سيري بنا نحو علياء تليق بنــا

نحو المفاخــر رايات بها الظفر

مــا كان ينفعهم مكــر ولا خدع

هـم الرعــاع فلم ينفعهـم الحذر

تهابك اليوم كل اليوم إن حميت

كسب المعارك في تاريخنـا قدر

إن آلة الإدراك عند الشاعر في التركيز على الناحية الصوتية عبر إيقاع المفردات في بنيتها المقطعية وكذلك ذكر الإفعال في هذه الأبيات الثلاثة (سيري، تليق، ينفعهم، تهابك، حميت) لتحقيق الأثر الفعال، كما أن التكرار في الألفاظ بكلمة (نحو) في البيت الأول و (ينفعهم) في البيت الثاني و (اليوم) في البيت الثالث لتبين مدى التناغم الذي تحدثه الظواهر الصوتية في هذه الأبيات وتموسقها مع جرسها بتناسب مطرد مع امتداد الغرض النفسي الذي صاحب الإنفعال والعاطفة لدى الشاعر بتوالي دفقات النغمات، فالتنظيم لأصوات اللغة يتسع ليشمل عناصر أخرى تراعيها في الجهر والهمس والنبر والتنغيم فضلاً عن ظاهرة التكرار التي ذكرناها وضروب البديع وغيرها. ثم يختم الشاعر النجار قصيدته بالدعاء لمحبوبته:

رعاك رب العلى بغداد يا أملي

كفــى بحبك ما يزهو بـه الثمر

ليعطي العمق الدلالي والتأثيرً النفسي الفعال في المتلقي. فكان الإيقاع مجموعٌ متكاملٌ بعدد متداخل من السمات المتميزة بواسطة التنسيق الصوتي بين الهمس بطبقاتٍ صوتيةٍ داخل منظومة التركيب اللغوي لتوحي بنغمةٍ مسموعة بعزفٍ على أوتار النفس يُخلخل العاطفة ويؤججها بحركاتٍ متفاوتةٍ في طول تردداتها مع المنحى الوجداني المرتبط بشوقه وحبه وعشقه لبغداد..


الهوامش
[1]تناقل المؤرخو آراء عديدة حول أصل كلمة بغداد؛ فمنهم اعتمد على الأخبار المتواترة، والمصادر التاريخية، ومنهم اعتمد على الفرضيات التخمينية، وسنخلص هذه الآراء على النحو الآتي:
· كلمة أكادية: يرى البعض أنّ كلمة بغداد مشتقة من اللفظ الأكادي بعل جاد أي معسكر بعل، أو أنّها كلمة محرفة من بعل داد أي إله الشمس.
· كلمة كلدانية آرامية: هناك رأي آخر يرجح أنّ أصل كلمة بغداد مشتقة من اللغة الكلدانية الآرامية بيل داد، وهي كلمة مكوّنة من مقطعيم اثنين هما: بيل وهو إله الآراميين، وداد كلمة آرامية تعني فتك، ويؤمن أصحاب هذا الرأي بأن الملك الكلداني نبوخذ نصّر انتصر في بغداد وخلد هذا الانتصار ببناء مدينة تحمل الاسم ذاته.
· كلمة آرامية: يرى الباحث السرياني يوسف غنيمة أنّ أصل كلمة بغداد هو بكداد، وبكداد لفظة آرامية مكونة من مقطعين وهما ب وهي كلمة مقتضبة تعني البيت، وكداد أي الغنم أو الضأن، وبذلك يصبح المعنى بيت الغنم، أو بيت الضأن.
· كلمة كاشية يرجح البعض أنّ كلمة بغداد كاشية الأصل، والتي استخدمها الكاشيون في النصف الثاني من الألف الثاني قبل الميلاد، وتعني عطية الصنم أو الإله.
· آراء أخرى: إنّ المصادر الموثوقة ترجح أنّ كلمة بغداد وردت بصيغتي بكدادو، وبكدادا، ووصل الاسم إلينا من خلال وثيقة بابيلة يعود تاريخها إلى الملك البابلي السادس حمورابي الذي حكم خلال الفترة بين 1792-1950 قبل الميلاد، ومن حجرة حدود التي يعود تاريخها إلى عهد الملك الماشي نازي مارّاتش الذي حكم بين عامي 1323-1298 قبل الميلاد، كما وردت في نصوص الملك الآشوري نراري الثاني، والملك تكلات بلصر الثالث، وسرجون الثاني.
[2] العين: 1/58.
[3]الأصوات المجهورة: «هي تلك الأصوات التي تنقبض ـ عند النطق بها ـ فتحة المزمار، فيقترب الوتران الصوتيان أحدهما من الآخر... هي: أ، ب، ج، د، ذ، ر، ز، ض، ظ، غ ، ل، م، ن،ي ، و»، فقهاللغةالعربية: 441، ظ: الأصوات اللغوية: 20، فقه اللغة وخصائص العربية: 50
[4] فقه اللغة العربية: 244.
[5] جرس الألفاظ ودلالالتها في البحث البلاغي والنقدي عند العرب: 239.
[6] أبو جعفر هارون بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور، بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي القرشي، الخليفة العباسي الخامس. ولد في مدينة الري عام 149 هـ وتوفي في مدينة طوس عام 193 هـ. بويع بالخلافة ليلة الجمعة التي توفي فيها أخوه موسى الهادي عام 170 هـ وكان عمره آنذاك 22 سنة يعتبر هارون الرشيد من أشهر الخلفاء العباسيين
[7] أبو العباس عبد الله بن هارون الرشيد سابع خلفاء بني العباس، ولد عام 170هـ786وتوفي غازياً في 19رجب عام 218هـ10أغسطس سنة 833 بطرسوس، شهد عهده ازدهارًا بالنهضة العلمية والفكرية في العصر العباسي الأول، وذلك لأنه شارك فيها بنفسه. توفي هارون الرشيدعام 809م في خراسان وأخذت البيعة لابنه الأمين وفقا لوصية والده التي نصت أيضًا أن يخلف المأمون أخاه الأمين، إلا أن الخليفة الجديد سرعان ما خلع أخاه من ولاية العهد، وعين ابنه موسى الناطق بالحق وليًا للعهد، وكان المأمون آنذاك في خراسان، فلما علم بأن أخاه قد خلعه عن ولاية العهد أخذ البيعة من أهالي خراسانوتوجه بجيش لمحاربة أخيه، وقد استمرت الحروببينهما أربع سنوات، إلى أن استطاع المأمون محاصرة بغدادوالتغلب على الأمينوقتله عام 813م، ظافرًا بالخلافة.
[8] موسى الكاظم بن جعفر (7صفر 128هـ - 25 رجب 183هـ) أحد أعلام المسلمين، والإمام السابع عند الشيعة الإثنا عشرية، والده جعفر بن محمد الصادق أحد فقهاء الإسلام، قضى جزءاً من حياته في السجن، وعاصر فترة حساسة من تاريخ المسلمين. كنيته أبو إبراهيم وأبو الحسن، ومن ألقابه عند الشيعة: الكاظم والعبد الصالح وباب الحوائج وسيد بغداد، وقد سُمي بالكاظم لشدة ما كظم من الغيظ وصبر على ظلم الظالمين له.

وجدت نور بغداد العز والكرامة والشموخ والإباء يسطع في سماء النبع
بحروف دكتورنا الغالي أسعد النجار
وقراءة عمدتنا الغالي الأستاذ شاكر السلمان

جعل هذا النور قلبي يخفق بشدة

حفظكما الله وأدامكما
ووفقكما وزادكنا من نعيمه
أعلقاها لتكون في المقدمة

محبتي وشكري

قراءة مبهرة في قصيد مبهر في مدينة شامخة مبهرة وفي تاريخ مجيد
لعمدتنا كل التقدير لهذا الجهد المتميز في قراءة حداثيةةمتكاملة في قصيد للشاعر اسعد النجار

قراءة تحليلية جادة ركزت في المقام الأول على البعد الوطني للشاعر
ومن ثم محبوبته ليصل تأثيرها على المتلقي بوهج أدبي مائز ورؤية علمية ناضجة
أسعدتني القراءة والمتابعة لهذا التحليل التفصيلي الماتع
دام نهركم جاريا

حفظها الله وأدام عليها وكافة بلداننا الخير والبركة والسلام والنصر والسؤدد
سلمت حواسكما ودمتما بخير وألق وجمال دائم
محبتي و الاحترام

شكرا جزيلا للأخ الغالي الناقد والأديب عمدة النبع الأستاذ شاكر السلمان

لقراءته الماتعة النافعة التي حلقت حروفها في فضاء نقدي صافٍ

قراءة أسلوبية نقدية أعطت القصيدة فوق ما تستحق فلم يترك شاردة

ولا واردة إلّا وأتى عليها وليس هذا بغريب عن أديب متنوع القراءات

أتحف المكتبة العربية والإسلامية بروائع نتاجاته النفيسة

أكرر شكري وتقديري لعمدتنا الجليل

قراءة متفحصة لقصيدة بغداد للشاعر أسعد النجار التي تميزت بكثير عن قصائده الأخرى
تحية تليق أستاذ شاكر على هذا التناول النقدي الخصب . ودمت في رعاية الله وحفظه.