من "البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها" للأستاذ عبد الرحمن الميداني
***
التعريف اصطلاحًا
التعريض طريقة من الكلام أَخفى من الكنايةِ فلا يشترط في التعريض لزوم ذهني، ولا مصاحبةٌ، ولا مُلابسة ما بين الكلام وما يُرادُ الدّلالة به عليه، إنّما قد تكفي فيه قرائن الحال، وما يفهم ذهنًا بها من توجيه الكلام، وبهذا يظهر الفرق بين الكناية والتعريض. وقد يُراد بالتعريض المعنى الحقيقي للكلام، وقد لا يراد، فهو قسمان.
المعنى اللغويّ
التعريض في اللّغة أن تقول كلامًا لا تُصرّح فيه بمرادكَ منه، لكنّه قد يشير إليه إشارة خفيّةً، ويُمْكِنُك أن تتهرَّبَ من التزام ما أشرتَ به إليه إذا صِرْت مُحْرَجًا.
يقال لغة: عرّض لي فلانٌ تعريضًا: أي: قال فلم يُبَيِّن بصراحة اللفظ.
أَعْراضُ الكلام ومَعَارِضُهُ ومعاريضُه: كلامٌ غير ظاهر الدلالة على المراد، وفي الحديث: "إنَّ في المعاريض لمندوحةً عن الكذب" أي: فيها سعة يتخلّص بها المتحدّث من الكذب إذا لم يرد التصريح. والتعريض في خطبة المرأة: أنْ يتكلّم الخاطب بكلام يشبه خطبتها دون تصريح.
وقد يكون التعريض بضرب الأمثال وذكر الألغاز في جملة المقال. ويقول الناس بشأن التعريض: إيّاكِ أعني، واسْمَعِي يا جارة. فما يدور حوله المعنى اللّغويُّ قريب جدًّا من المعنى الذي ذكره البيانيّون للتعريض، أو إنّ المعنى الاصطلاحي مأخوذٌ من المعنى اللّغويّ بزيادة شيء من التحليل.
المثال الأول
قول الله عزّ وجلّ في سورة (الزمر/ 39 مصحف/ 59 نزول) خطابًا لرسوله: {وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.
من المعلوم في أصول الدين أنّ الرَّسُولَ الّذِي يصطفيه الله لتبليغ رسالته للناس، لا بدّ أن يكون معصومًا عن أن يشرك بالله شيئًا، فقول الله للرسول محمّد صلى الله عليه وسلم ولكل رسول اصطفاه الله من قبله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} هو خطابٌ بصريح العبارة للرّسول، وهُوَ تَعْرِيضُ لكِلّ من آمَنَ به واتّبَعَهُ أنْ يَحْذَروا من الشِّرْكِ لئلاَّ تحبَطَ أَعْمالُهُمْ ويكونوا من الخاسرين.
هذا التعريضُ أبْلَغُ منْ مواجَهة غير الرسول بصريح الخطاب، وذلك لأنّ الرسول إذا كان لا يَمْلك لنفسه عند ربّه الحماية من أن يَحْبَطَ عملُه ويكونَ من الخاسِرِين إذا أشرك، وهو ذو المكانة العالية عند ربّه والمحظوظ بالاصطفاء، فكيف يكون حال سائر الناس ليس لهم عند ربّهم مثل ذلك.
وهذا نظير من يُهدِّدُ ولَدَه بالعقاب الشديد إذا كسَر له شيئًا من تُحف قَصْرِه، أمَامَ أولاد الآخرين، وكان قد حذّر كلّ من يكْسِرُ له شيئًا منها بالعقاب الشديد، وهو قادر على تنفيذ عقوباته.
إنَّهم يدركون أنّ عقابهم سيكون أشدّ وأقسَى إذا فعلوا ما نَهَى عنه، وحذّر من الاقتراب منه.
المثال الثاني
ما جاء في القرآن من نحو قول الله عزّ وجلّ: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلباب - وليَذَّكَّر أُولوا الألْبَاب - وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَاب - كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ - إِنَّ في ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ - قَدْ فَصَّلْنَا الآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ}.
في هذه النُّصوص تعريض بالكافرين الذين لا ينتفعون من آيات الله في كونه، وآياته في بياناته، بأنّهم لا ألباب لهم، وبأنّهم لا يتفكّرون، وبأنّهم لا يفقهون، دون أن تكون هذه المعاني منصوصًا عليها، لكنّها تُفْهَمُ إلماحًا.
المثال الثالث
قول الله عزّ وجلّ في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول): {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ}.
إنّ عبارة: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} لم يُقْصَدْ مِنْها إعْلاَمُ المنافقين المخلَّفِينَ عن رسول الله في غزوة تبوك، بأنَّ نار جهنَّمَ أشَد حَرًّا من حرارة الفصل الصيفي الذي خرج فيه الرسول والمؤمنون إلى غزوة تبوك، فهذا أَمْرٌ واضحٌ، لكنّ المقصود التعريض بأَنَّ هؤلاء المنافقين هم من أهل جهَنَّمَ الّتِي تَكْويهم بحرّها يوم الدين.
المثال الرابع
دُعَاءُ مُوسَى عليه السلام عند ماء مَدْيَنَ إذْ خرج من مصر خائفًا يترّقَّبُ، وهو ما جاء بيانه في سورة (القصص/ 28 مصحف/ 49 نزول): {وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَينِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَآءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَآءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [الآية:25].
نُلاحظ في دعاء موسَى عليه السلام بقوله: "رَبّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ" احتمال التعريض بحاجته إلى المأوى والرزق والزوجة، ورأى أنّ الله قد ساق له مقدّمات ما هو بحاجة إليه، فقال: "رَبِّ إِنّي لِمَا أَنْزَلْتَ" بصيغة الفعل الماضي، ولم يَقُل: لما سَتُنْزِل، إذْ شَعَر أَنّ بشائر ما هو مفتقر له قد ظهرت بفرحة المرأتين به لمَّا سقَى لهما، وعَلِمَ أنّ أباهما شيخٌ كبير يحتاج إلى معين رجل.
لذلك جاء في النصّ بعد حكاية دُعائه قول الله تعالى: {فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَآءٍ} فدلّت الفاء العاطفة على الترتيب مع التعقيب، وفي هذا إشعارٌ بأنّ الله استجاب له دُعاء الذي دَعا به تعريضًا لاَ تصريحًا.
وتضمَّنَت القصّة بعد ذلك تحقيق ما هو مفتقر إليه، فأوى عند أبيهما الشيخ الكبير، وأصاب رزقًا، وزوجةً صالحة.
المثال الخامس
قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول):
{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ...} [الآية:253].
ففي عبارة: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} تَعْرِيضٌ بارْتفاعِ مُحَمّد خاتم الرُّسُلِ دَرَجَاتٍ على سائر الرُّسل، ولمْ يَأْتِ هذا البيان بعبارةٍ صريحةٍ فيها نصٌّ على ارتفاع منزلته فوق سائر الأنبياء والمرسَلِين تعليمًا للمسلمين أن يتأدّبوا مع جميع الرُّسل ولا يَتَّخِذُ من أفضليّة محمّد صلى الله عليه وسلم ذريعةً للتنافُسِ والتفاخُرِ به على سائر الأمم، فمثل هذا قد يولّد شقاقًا، ويَصُدُّ أتباع الرسُل السابقين عن اتّباع محمّد خاتم المرسلين، ولعامّة الناس في تعبيراتهم الدّارجات والمبتكرات تعبيراتٌ هي من أمثلة التعريض، وهي كثيرة.