وهذه إضافة الأخ الأستاذ عبد الرحمن الظاهري إثراء للمشاركة السابقة في منتدى آخر.
***
كيف أصبح منشئا بارعا [ من درر الإمام مصطفى صادق الرافعي رحمه الله ]
الحمد لله بما أنعم على الإسلام وأهله .
أما بعد :
فإن الله تعالى قد يسر لي في ما سلف من الأيام مطالعة سفر لا كالأسفار , وكتاب لا كالكتب , ملئ بالدرر , غاص بالنفائس (رسائل الرافعي) :
وقد وثق فيه صاحب الكتاب الشيخ محمود أبو رية رسائل الإمام الحجة المختار[1] حارس لغة القرآن مصطفى أفندي صادق الرافعي تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جناته , آمين.
على أن هذا الكتاب ليس أول اتصال لي بالشيخ الإمام : فقد عرفته قبل ثلاث سنوات أو أربع من خلال رائعتيه (إعجاز القرآن) و (وحي القلم) : لكن عمق الود وخالص المحبة لهذا الرجل إنما اكتسبتها من هذه الرسائل..
وفي الكتاب فؤائد لا تحصى من مختلف الفنون والمعارف , لعلي أذكربعضها فيما يلي , مع طلبي من الأفاضل أن يخصوا فقيد العروبة بدعاء حسن :
1) سأله الأستاذ محمود أبو رية عن أفضل كتب النحو : فأجابه بأن أفضلها شرح الكافية للرضي , وعلل اختياره لها بأنه كتاب ممتع ليس في العربية ما يدانيه بحثا وفلسفة.
2) سأله أبو رية عن أقرب السبل لإمتلاك ناصية الأدب فأجاب بما نصه : "فإذا رغبت في أقرب الطرق إلى ذلك فاجتهد أن تكون مفكرا منتقدا وعليك بقراءة كتب المعاني قبل كتب الألفاظ وادرس ما تصل إليه يدك من كتب الإجتماع والفلسفة الأدبية في لغة أوربة وما عرب منها . واصرف همك من كتب الأدب العربي بادئ ذي بدئ إلى كليلة ودمنة والأغاني ورسائل الجاحظ وكتاب الحيوان والبيان والتبين له وتفقه في البلاغة بكتاب المثل السائر وهذا الكتاب وحده يكفل لك ملكة حسنة في الإنتقاد الأدبي وقد كنتُ شديد الولع به . ثم عليك بحفظ الكثير من ألفاظ كتاب نجعة الرائد لليازجي والألفاظ الكتابية للهمذاني وبالمطالعة في كتاب يتيمة الدهر للثعالبي والعقد الفريد لابن عبد ربه وكتاب زهر الآداب الذي بهامشه."
3) بعد أن ذكر الإمام رحمة الله عليه نصائحه السابقة أردفها بعبارة مقتبسة من أنوار الحكمة , التي ما امتثل لها أحد إلا وفق , فقال : " ورأس هذا الأمر بل سر النجاح فيه أن تكون صبورا وأن تعرف أن ما يستطيعه الرجل لا يستطيعه الطفل إلا متى صار رجلا , وبعبارة صريحة إلا من انتظر سنوات كثيرة. فإن دابت في القراءة وأهملت أمر الزمن طال الوقت أو قصر انتهى بك الزمن إلى يوم تكون تاريخا لمجدك وثوابا لجدك ."
4) قال رحمة الله عليه عن كتاب "اساس البلاغة" للإمام الأجل جار الله الزمخشري : " فلا غنى لأديب عنه".
5) أرسل إليه ابو رية خطابا يذكر فيه عدم صحة لفظة "المستلم" التي جاءت في ايصالات اشتراك كتابه العظيم "المساكين" فقال : "أما لفظ المستلم فقد وقعت خطأ..وقد طلب أحدهم إلى أبي عبيدة أن يكتب له كتابا يستشفع به إلى رجل من الأمراء فأملى أبو عبيدة على كاتب وقال له اكتب والحن فإن اللحن مجدود أي محظوظ صاحبه."
6) يوصي الإمام الرافعي تلميذه الأستاذ محمود بالكتب التالية : سر تطور الأمم – كتاب الفلسفة النظرية- مجلة المقتبس - السلطة والحرية لتولستوي , وغيرها.
7) قال رحمه الله : "ورأيي أنا أن علم المنطق كعلم البلاغة لا فائدة في كليهما لمن لا يستطيع أن يكون منطقيا وبليغا بدرسه وبحثه. وإني أذكر لكم خبرا عن نفسي فقد كنت في أول الطلب منذ 17 سنة قصدت مصر واجتمعت هناك بطائفة من أهل الفكر وكان منهم عبد العزيز الثعالبي وهو رجل تونسي مؤرخ سياسي كان يدرس في أوربا بعض فروع المشرقيات , ومن أمره أنه لا يتكلم إلا الفصحى فساجلته الحديث بلغته وطريقته المنطقية- ولم أكن قرأت في المنطق شيئا غير فصل واحد من كتاب أزهري يبتدئ به المجاورون وقد أنسيت اسمه- فقال لي أخيرا على من درست المنطق ؟ فقلت له : ومن الذي وضع هذا العلم؟ قال : أرسطو . قلت : ولم لا تكون قريحتي في ذلك كقريحة أرسطو..
8) رأيه رحمه الله في كتب الأسلوب البليغ وكيف يستفاد منها :"الإنشاء لا تكون القوة فيه إلا عن تعب طويل في الدرس وممارسة الكتابة والتقلب في مناحيها والبصر بأوضاع هذه اللغة وهذا عمل كان المرحوم الشيخ عبده يقدر أنه لا يتم للإنسان في أقل من عشرين سنة , فالكاتب لا يبلغ أن يكون كاتبا حتى يقطع هذا العمر في الدرس وطلب الكتابة. فإذا أصيتك فإني أوصيك أن تكثر من قراءة القرآن ومراجعة الكشاف (تفسير الزمخشري) . ثم إدمان النظر في كتاب من كتب الحديث كالبخاري أو غيره ثم قطع النفس في قراءة آثار ابن المقفع (كليلة ودمنة والأدب الصغير) ثم رسائل الجاحظ وكتاب البخلاء ثم نهج البلاغة ثم إطالة النظر في كتاب الصناعتين للعسكري والمثل السائر ثم الإكثار من مراجعة اساس البلاغة للزمخشري . فإن نالت يدك مع ذلك كتاب الأغاني أو أجزاء منه والعقد الفريد , وتاريخ الطبري فقد تمت لك كتب الأسلوب البليغ . اقرأ قطعة من الكلام مرارا كثيرة ثم تدبرها وقلب تراكيبها ثم احذف منها عبارة أو كلمة وضع من عندك ما يسد سدها ولا يقصر عنها واجتهد في ذلك , فإن استقام لك الأمر فترق إلى درجة أخرى. وهي أن تعارض القطعة نفسها بقطعة تكتبها في معناها وبمثل أسلوبها فإن جاءت قطعتك ضعيفة فخذ في غيرها ثم غيرها حتى تأتي قريبا من الأصل أو مثله... هذه هي الطريقة ولا أرى لك خيرا منها وإذا رزقت التوفيق فربما بلغت مبلغا في سنة واحدة ".
9) قال رحمه الله : .. وما أرى أحدا يفلح في الكتابة والتأليف إلا إذا حكم على نفسه حكما نافذا بالأشغال الشاقة سنتين أو ثلاثا في سجن الجاحظ أو ابن المقفع أو في غيرهما ".
10) قال : ..ولكن خذ كتابا واحدا كالعقد الفريد لابن عبد ربه فاقرأه واحفظ كل ما تستحسن منه حفظا كحفظ القرآن لا تدع خبرا ولا كلاما ولا شعرا من كل ما ترى فيه جزالة وسبكا وطرافة ومعنى , فإنك لا تفرغ من ذلك حتى تنقل الكتاب إلى رأسك حتى تنقلب شيئا جديدا".
11) قال العلامة الرافعي رحمه الله لأبي رية بعد أن اشتكى الأخير من ضعف ولده مصطفى رحمه الله في الإنشاء : " وأما ضعف ابنك في الإنشاء فلأن الإنشاء فكرة ولفظ , وما دام صغيرا ففكره ضعيف ولا سبيل إلى تقويته إلا بأساليب خاصة . وأحسن طريقة هو أن تدعه يقرأ أمامك في كل يوم قطعة من جريدة تختارها له أو موضوعا من كتاب مدرسي من كتب الإنشاء ثم تناقشه فيما يفهمه من المقال وتوضح له الألفاظ والمعاني . فإذا فهم عشرين أو ثلاثين مقالا على هذه الطريقة فإنه ينطلق في التعبير بسهولة ويجمع في ذهنه معاني طيبة وألفاظا كثيرة يعبر بها . واضف إلى ذلك أن تعطيه كل يوم بيتا من الشعر يكون فيه معنى حسي فيفهم البيت ويشرحه كتابة ثم تصلح له فهمه إن أخطأ ويعيد الكتابة على البيت مرة أو اثنتين أو أكثر فإن حفظ أربعين أو خمسين بيتا وفهم معانيها وصار يحسن كتابتها مر بعد ذلك من تلقاء نفسه."
12) قال رحمه الله لصديقه أبي رية : " ..لو أحسنت إلى ابنك لاشتغلت بتحفيظه قطعا صغيرة من كليلة ودمنة والدرة اليتيمة لابن المقفع بعد أن تشرحها له وتعربها معه فإن ذلك أفيد له وأجدى عليه من جهات كثيرة."
[1]- لقبه عدد من أهل العلم والفضل بالمختار : اي أنه اختير من السماء لحراسة لغة الكتاب المقدس, وإنه – تالله- لأوحد عصره في هذا الباب وأبواب أخر.