صعقتني كهرباء المنظر ، و تكسرت بعثرات شعوري في قارة الصمت ، أترى .... كان لا بد لهم أن يصنعوا هذا الصنع الشنيع ، و يبددوا بجرافاتهم كل هذا العبق الأثيل ؟؟؟
كنت قد رأيتهاغير مرة حين نذهب لزيارتهم في بيتهم القديم الخشن ، عجيبة عليها وقار الزمن ، مركونة إلى جانب البيت وحدها ، قوامها اللِّبن و الخشب ، تتوسط حديقة صغيرة في خاصرة الفناء الريفي ، تميل عليها شجرة صفصاف كبيرة كطفلة تطلب من أمها حنواً ، و من حولها الحشائش و الأعشاب تتسلق جدرانها كأنما تنشد غوثاً من شر ما .
قالوا : عاشت بها العجوز أيامها الأخيرة متفرغة لأذكارها و صلواتها ، فأسبغ عليها هذا القول خشوع الروح ، و هيبة الموت ، و سكينة العبادة ، حتى خُيِّل إلي أن العجوز تطل علينا من بابها روحاً شفافة يكسوها بياض النقاء ، تنظر إلينا من وراء الطبيعة مبتسمة باطمئنان ، و هي ترفع يدها التي خلقت بها السنون رعشة الكبر لتلوح لنا مودعة .
كانت وحيدة في شاعرية الظلام ، مختلية بنفسها بعيداً عن أخواتها غرف البيت ، كالمتصوف السارح بحثاً عن الإلهامات و الواردات العلية ، و الشاعر الذي يدفعه تأمله الشفيف بالكون و أسراره إلى اعتزال الناس و مفارقتهم في مكان يشعر أنه يرى العالم منه بوضوح أكبر ، ويطلع على كنهه المخبأ تحت أردية الواقع المنظور .
و في ساعات الغروب حين تلف الدنيا عاصفة الشاعرية الملونة كانت تبدو كعاشق عذري رمته أمواج الحب عند صخرة بحرية ، فأخذ يحدق في المدى البعيد مستلهماً من توهج لحظات النهار الأخيرة ألف قصيدة حب فريدة المواجع .
كنت أراها وحدها تاريخاً يسرَد، كأن العجوز ما تزال فيها تردد بصوتها الشجي الذي تعلوه خنة الشيخوخة آيات القرآن من مصحف عتيق مهترئ الغلاف ،قاعدة على طرف سريرها الحديدي القديم ، و أشعة شمس الضحى تداعب غرفتها من النافذة الخشبية التي أكلت معالمها تصاريف الزمان ، كأنما تدخل خاشعة لسماع ترتيل الذكر الحكيم .
مضيت أقلب كفيَّ حين رأيت البناء الإسمنتي الذي حل محلها كأخطبوط مفترس أو غول من غيلان الأساطير ، و راحت الأسئلة تزدحم و تشتجر في دماغي حتى أنهكته : أيعقل أن أبناء العجوز لم يكن فيهم من يتحسر على غرفتها التي غادرت الدنيا بها ، ألم يسمعوا صرخاتها و شهقاتها تحت وطأة الجرافات و هي تهرسها ، ألم ير أحدهم طيف والدته يستغيث و يشهر يديه في وجوههم طالباً ترك مأوى روحها الأخير في هذه الدنيا لتبقى تطيف به كلما حنت إليه ، أيعقل أن تتبلد مشاعر الإنسان فلا يحس وقع جريمة فظيعة كتدمير هذا الكنز من الشاعرية و الذكريات .
لحظتها التفت ليطل علي سهل القرية الكبير الواسع و قد آلت أراضيه الخضراء المزدانة بأشجار الثمار على اختلافها أبنية إسمنتية مشوهة و شاهقات تشعر بالقرف والغثيان ، تراكبت فوق بعضها كجحفل من العناكب أو الجرذان ، كم غرفة كغرفة الذكريات ابتلعت ، و كم كتاب من كتب الزمن أحرقت و مزقت، و كم روح من الأرواح الطيبة صاحبة العبق أتعست و أشقت .
وجدتني أبتسم بسخرية مشبعة بالألم قائلاً لنفسي : أليس من فعل كل هذا الإجرام و التشويه بشراً كذلك ، أليسوا ذوي عقول وقلوب مثلنا ؟؟
فرد علي صوت غريب لست أحسبه من نفسي و إن سمعته آتياً من قبلها : بلى .... لهم قلوب و عقول ، لكنها ليست كقلوبنا و عقولنا .
ً
التوقيع
الأديب هو من كان لأمته و للغتها في مواهب قلمه لقب من ألقاب التاريخ