الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ
يقول تعالى حقاً: { إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} أي أن مصيرهم ومأواهم { لَفِي سِجِّينٍ } فعّيل من السجن، وهو الضيق كما يقال: فسّيق وخمّير وسكّير ونحو ذلك، ولهذا عظّم أمره فقال تعالى: { وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ } ؟ أي هو أمر عظيم، وسجين مقيم، وعذاب أليم،
ثم قال قائلون: هي تحت الأرض السابعة، وقد تقدم في حديث البراء بن عازب يقول اللّه عزَّ وجلَّ في روح الكافر (اكتبوا كتابه في سجين)،
وقيل: بئر في جهنم، والصحيح أن سجيناً مأخوذ من السجن وهو الضيق، فإن المخلوقات كل ما تسافل منها ضاق وكل ما تعالى منها اتسع، ولما كان مصير الفجار إلى جهنم وهي أسفل السافلين،
كما قال تعالى: { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ- إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [1]} وقال ههنا: { كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ - وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ } وهو يجمع الضيق والسفول
كما قال تعالى: { وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا [2]}، وقوله تعالى: { كِتَابٌ مَرْقُومٌ } ليس تفسيراً لقوله: { وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ } ، وإنما هو تفسير لما كتب لهم من المصير إلى سجين، أي مرقوم مكتوب مفروغ منه، لا يزاد فيه أحد ولا ينقص منه أحد،
ثم قال تعالى: { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ } أي إذا صاروا يوم القيامة إلى ما أوعدهم اللّه من السجن والعذاب المهين،
{ وَيْلٌ } لهم والمراد من ذلك الهلاك والدمار كما يقال: ويل لفلان،
ثم قال تعالى: مفسراً للمكذبين الفجّار الكفرة: {الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ } أي لا يصدقون بوقوعه، ولا يعتقدون كونه، ويستبعدون أمره،
قال اللّه تعالى: { وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ } أي معتد في أفعاله من تعاطي الحرام، والمجاوزة في تناول المباح، والأثيم في أقواله إن حدث كذب، وإن وعد أخلف، وإن خاصم فجر.
وقوله تعالى: { إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } أي إذا سمع كلام اللّه تعالى من الرسول يكذب به، ويظن به ظن السوء، فيعتقد أنه مفتعل مجموع من كتب الأوائل،
كما قال تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ ۙ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [3]} ، وقال تعالى: { وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا[4]} قال اللّه تعالى: { كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } أي ليس الأمر كما زعموا، ولا كما قالوا: إن هذا القرآن أساطير الأولين، بل هو كلام اللّه ووحيه وتنزيله على رسوله صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم، وإنما حجب قلوبهم عن الإيمان به، ما عليها من الرين الذي قد لبس قلوبهم، من كثرة الذنوب والخطايا،
ولهذا قال تعالى: { مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } والرين يعتري قلوب الكافرين، والغَيْن للمقربين، وقد روى الترمذي والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم أنه قال: (إن العبد إذا أذنب ذنباً كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب منها صقل قلبه، وإن زاد زادت،
فذلك قول اللّه تعالى: { كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } "أخرجه الترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حسن صحيح"
ولفظ النسائي: (إن العبد إذا أخطأ نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه، فإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، فهو الران الذي قال اللّه تعالى: { كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } "هذا لفظ النسائي وقد رواه أحمد بنحوه".
وقال الحسن البصري: هو الذنب حتى يعمى القلب فيموت وكذا قال مجاهد وقتادة وابن زيد ،
وقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } أي ثم هم يوم القيامة محجوبون عن رؤية ربهم وخالقهم،
قال الإمام الشافعي: وفي هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرونه عزَّ وجلَّ يومئذ، وهذا الذي قاله في غاية الحسن، وهو استدلال بمفهوم هذه الآية، كما دل عليه منطوق قوله تعالى: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [5]} ، وكما دلت على ذلك الأحاديث الصحاح المتواترة، في رؤية المؤمنين ربهم عزَّ وجلَّ في الدار الآخرة،
قال الحسن: يكشف الحجاب فينظر إليه المؤمنون والكافرون، ثم يحجب عنه الكافرون، وينظر إليه المؤمنون كل يوم غدوة وعشية،
وقوله تعالى: { ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ } أي ثم هم مع هذا الحرمان عن رؤية الرحمن، من أهل النيران،
{ ثُمَّ يُقَالُ هَٰذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } أي يقال لهم ذلك، على وجه التقريع والتوبيخ، والتصغير والتحقير.