كَمَنْ مَسّهُ طيْرٌ ، وَلَيّتُ وجهي شطْر الوطن
وسط الطيور المهاجرة ، أقبض على شِغَافي
في رحلةٍ للرجوع نحو الجذور .
يتوقف الباص بين مدينتين
فأُحْجِمُ عن النُزولِ
يُناديني السائقُ : يا رفيق ترجّل،
لن نمضي دونك
فلا تَخْشَ النسيان
نَزَلْتُ في مَطعمٍ يَضِجُّ بالحياة
تناولتُ الوطنَ بِشَوكةِ الغُرباء
وعُدْنا للحافلةِ نُسابِقُ أحلامَنا
انضم إلينا رجلٌ يحمل كيسا يشبه السحرة
سألتهُ إلى أين يمضي ؟
فأجابَ : نحو أرضي،هناك،
وأنت ؟.
- إليها كذلك.
أأنت فلاح ؟
لا ، أنا لاجئٌ آن له الرجوع للأوطان .
يُخْرِج من كيسِه السحري كأسيْن،
ويهتفُ: لنشرب نَخْبَ الرُجوعِ
أغنيةً للوطن .
بدأ بالعزف على هارمونيكا كانت بحوزته،
كان يُدلل الموسيقى بأصابعه كَمَن يُداعب ثَغْرَ المحبوبة
صِرنا نُغنّي ،نُصفّق
بعضُنا لا يفهم،يكتفي بالترنّمِ باللحن.
يُقَهقِه الغريبُ : يا رفيق،أتحب وطنك ؟
نظرتُ من النافذةِ، أبصرتُ عُمالَ المَناجِمِ قادمينَ من وراءِ التلالِ
وقلتُ: أحبه بِقَدْرِ ما يحب هؤلاء قبضاتَهم الحرّة،
حباً لا يعترف بالعقودِ المبرمة مع دائرة الهجرة .
أومأ برأسه وعقب :
هؤلاء يحملون الأمنيات في علبة الكبريت
كلما أظلمت الحياة أشعلوا أمنية فاحترقت أصابعهم
تمنَ الرجوعَ لكن لا تنسَ أن القادمينَ من خلف البحرِ
يكسرونَ المجدافَ في المرسى ويثقبون القوارب التي حملتهم .
كمن يلقي نفسه للريح ويلعن حظه العاثر،فيصير الوطن حلما واشتهاء لا أكثر.
قلت:أنت كما الايرلندي الذي يجابه العنصرية خلف المحيط
ويكره زوار بلاده ! .
يبتسم الفلاح سخرية ويترجل عند مفترق الطرق ليلتقي أرضه
ويترك معي هواجس الخوف من رجوعي .
***
في صالة المطار
يوجعني كلامُه يعصفُ بقدرتي على الطيران
لكن العائدين يحثونني على الإسراع للحاق بالطائرة
فأقلعُ لا ألوي على شيء.
وكأنه كابوس
عرفت الغربة مذ حطّت الطائرة
أُخْضِعْنا لِعُنْصُريةٍ لا تمارس إلا بحق من خسروا أوطانهم
وحملتنا حافلةٌ نحو مجهول
لم تكن كتلك التي قابلت بها عازف الهارمونيكا
في الأولى كانت الأحلام ملء الغيم
وفي الثانية كان العسكر يصادرون الكلام
يقتلون الحنينَ لوطنٍ غاب طويلًا
يحتجزون جوازات السفر،الأسماء،والأحلام
عبرنا الحدودَ ، الشمس تغيرت ، الأرض ، السماء
كلُّ شيءٍ تَغيّر ، حتى شجر الزيتونِ لم يُطِلَّ علينا
لم يَستَقبلنا أحدٌ
كُنّا الغرباءَ في وطنٍ يأكلنا بِشَوْكَتِه على مَهلٍ
ويلوك انتماءنا إليه .
كان الحريق يحاصرني
وأمارس الاختباءَ من ألمي.
لم تعد لعبة التخفي ملهاةً مثل أيام الطفولة
فإما أن تهب نفسك للباحثين عن دمٍ
أو تخضع لمحاكمة على جريمة العودة .
وهكذا عرفتُ أني مضيتُ فرسخين نحو الأمام
لأندثرَ في المؤخرة.
وعرفت أن الوطن الذي كنت بين الغيم أرسمه
صار سكينا يقف على حد الرؤية ما بين اللجوء
وبين الرجوع.
راودتني أحلامُ السفر الوردي،
في يقظة البقاء القسري.
راودني كلامُ الفلاحِ عن القادمينَ الذين يكسرونَ المجدافَ
ويثقبونَ قواربَهم.
أيقنتُ أنه على حق، وأن الموجَ قد يصفعُ البحارَ يلقنه درسا
وإن كان لا يغرقه،إشفاقا على من ينتظر
لا لحنكته في التجديف .
عدتُ كعصفورٍ أصابتهُ لعنةُ الصيادِ
أحلّقُ مع الريح ،وأقدّم روحي على مائدةِ الوطن.
أخذت أرتل هذا التسبيح في وطن الغربة التي نسافر .. وغربة الوطن الذي نعيش .. أطربني عزف الهارمونيكا حتى تلاشت سحابة الحزن التي في قبضتي .. فلنرحل الى الأعالي حيث نعلق نجمتك .. موطن للغرباء المبدعين "تثبت" هناك .. حبي وباقة من إلفة .
أخذت أرتل هذا التسبيح في وطن الغربة التي نسافر .. وغربة الوطن الذي نعيش .. أطربني عزف الهارمونيكا حتى تلاشت سحابة الحزن التي في قبضتي .. فلنرحل الى الأعالي حيث نعلق نجمتك .. موطن للغرباء المبدعين "تثبت" هناك .. حبي وباقة من إلفة .