كل شئ أحسه الآن مزدحم أمامي..موقف الحافلة ..الشارع..رأسي الذي تزاحمت به الأفكار كغيوم بالسماء...نصف ساعة مضت والحافلة لم تأت بعد ولم يبق على بدء انطلاقها نحو الجنوب سوى دقائق...
أنظر حولي أبحث عن شئ أبدد به حالة الإنتظار...السيارات تملأ الشوارع..الناس تتكاثر وتملأ الموقف ..صوت ياتي من بين الضجيج..جاءت الحافلة...أتجمع مع الناس حول الباب..أحشر نفسي وسط هذا الزحام..تتحرك الحافلة..تختلط الأنفاس...تتزاحم الأقدام..يقترب مني رجل تختلط أنفاسه بأنفاسي أبعد وجهي مشمئزأ..يتصاعد دخان سجاره..يزداد الضجيج داخل الحافلة..أضيع في دوامة من الأفكار.. تصبح الأصوات بالنسبه لي غير مفهومة..يأتي صوتها من بين الأصوات يناديني..صوتها الطفولي العذب الذي طالما أصغيت له وهي تحدثني
منذ متى وأنا أتحدث وأنت صامت ..مابك ياأحمد؟
لاشئ يارجاء..أريد فقط أن تمتلئ مسامعي من صوتك العذب(فتضحك) فأشعر أن سنوات عمري تتجمع دفعة واحدة لتعبر عن الفرح الذي أحسه في هذه اللحظات.فأزيغ بصري نحو دجلة الذي يجري برتابة وبين الحين والآخر ترتطم موجة صغيرة بالجرف الموشى بأطر منثورة من الأعشاب الخضراء لاتلبث أن تستحيل إلى همس مائي ينحدر متلاصقا نحو الجنوب.. أنتبه لها مازالت جالسه بقربي تحدق هي الأخرى بمياه النهر... ربما أعجبها منظر طائر النورس الذي يحلق فوق الماء ويعانق أمواجه..تنسل يدي نحو يدها تتشابك الأيدي أشعر بدفء جميل يسري في جسدي، تنتبه مبتسمة فأحدق في عينيها الضيقتين اللتان يشع منهما بريق زاخر بالسعادة والاندهاش.
رجاء أخاف أن يضمحل هذا الحب وينتهي وتتلاشى هذه السعادة
أتصدق ياأحمد اني احبك حبا لايستطيع ملايين من البشر مجتمعين أن يصلوه ..فأضمها نحوي بحنان مفعم بالسعادة. وأشم عبيرها الذي طالما أسرتني به.. ثم نغادر شاطئ دجلة وفرح يملأ نفوسنا التي فقدت الصدق في هذا الزمن الممتلئ بالتناقضات.
نسير بالشوارع يدي بيدها.. ونحن نضحك ونغني، العيون تراقبنا أتمنى أن أحتضنها وأطير بها في عالم بعيد عن الناس وكل ضوضاء هذا العالم.
نستقل سيارة تاكسي هربا من الناس .أنظر من خلال النافذه إلى واجهات المحلات التي لونها الشفق بلون أحمر جميل تعجز الكلمات عن وصفه، أما رجاء فأجدها قد اندمجت مع إحدى أغاني مياده الحناوي
هل أعجبتك الأغنيه؟انها جميلة تذكرني بأول لقاء بيننا.
تعود تدندن مع الأغنية وهي تنظرنحوي بحب وابتسامة تغمر شفتيها..فأتوه في عالم من الذكريات أتذكر أول لقاء بيننا جاءت تسأل عن صديقة لها في الكلية فتحول ذلك السؤال إلى حب يحلق بنا في عالم أحسه كجنة عاد أو كسحر ألف ليلة وليلة...لحظات لن تنسى تلك التي جمعتنا في بودقة واحدة لتخلق سعادة لانعرف نهايتها
..المكان فارغ تفضل بالجلوس..أنتبه إلى هذا الصوت الذي انتشلني من أعماق عالم جميل كنت منتشيا به بفيض من الذكريات...أننظر حولي أجد الحافلة قد خلت من جميع الواقفين فأجلس قرب الرجل الذي دعاني إلى الجلوس...أتلفت حولي ..ألقي نظرة على الركاب..جميع الوجوه واجمة..امراة عجوز ملتفه بعباءتها جالسه قبالتي التجاعيد تملأ وجهها الذي لفحته أشعة الشمس.. يثيرني صوت جريدة الرجل الجالس بقربي أحدق بها .. انفجار سيارة في الباب الشرقي..60 قتيل 100 جريح عبوه ناسفه بالبصره .40جثه مجهولة الهوية في بغداد فياضانات تجتاح الهند.. هزة كبيرة في قلب العاصمة طوكيو.. اضطرابات في إقليم الباسك ..أحس بالقرف من كل ذلك.أى عالم هذا كل شئ به يدعو إلى الدمار والموت الذي يحيط بنا من كل جانب وحياتنا التي اصبحت عباره عن عبوه ناسفه لاندري متى تنفجر....وتظل تسير بنا الحافلة وهي متجهة نحو الجنوب تحمل تلك الوجوه الكالحة كسحابة حبلى وأظل أنا احلم بامراة عشقتها في يوم ما وكانت حلم هذه النفس وأتذكر كلماتها في هذا الزمن الذي مسح حتى ذاكرتنا..أتذكر كيف كنا نركب في الحافلة ذات الطابقين في بغداد ونظل نحلم بالمستقبل ونزرع الآمال في صحراء قاحلة ..ويمضي الزمن الموجع كحد السيف لتسقط أمامه كل الأحلام المؤجلة..وها أنا ضائع كملاح بدون شراع يبحث عن بر الأمان ..ورجاء التي تصورتها بلسم هذا الجرح أصبحت الآن بعيدة كبعد الله تتلاشى كسراب كلما حاولت الاقتراب منها ومضت سنوات دون أن ألتقي بها ..سنوات الخوف والموت والحرب ..ولكن قررت أن أتحدى خوفي وترددي وأن أذهب إلى بغداد وألتقيها..واستطعت أن أتصل بها وأقنعها أن نلتقي رغم خوفها وترددها..وقررت أن أذهب إلى شاطئ دجلة كي أجلب لها وردة من هناك كما كان سابقا ولكن وجدت الورود قد أحرقتها القنابل..فأخذت معي وردة صناعية لها ..وأخيرا هاهي رجاء أمامي ..بعد فراق دام أكثر من خمس سنوات..والتقينا ..كان لقاء موجعا كئيب كأرض يباب ..كل واحد منا يكن في أعماقه ذكريات حب قد جرحته الأيام ... وحدثتني عن خوفها ..عن ضياعها ..عن أحلامها التي أحرقتها القنابل...عن أيامها التي تتساقط كأوراق الخريف..عن ذلك اليأس والهوس الملعون الذي يسيطر عليها ويشعرها بأن كل شئ في هذا العالم يدعو إلى القرف وان الحياة أصبحت بلا جدوى ولاتستحق أن نعيشها...وحدثتها عن لوعتي وألمي .. عن سنوات من الضياع والبحث عنها كنت أبحث عنها في اشعاري في كلمات في وجوه العابرين..في طرقات مشيناها معا....كنت أتيممها في وضوئي وأرددها في صلاتي..أنا القروي القادم من دفء الجنوب المعفر برائحة القصب والبردي وطيور الحناء أشد رحالي نحو قممك واتدفء بمواقدك فقوافلي ضمأ في صحاري العرب القاحله تبحث عن واحة تتفيأ بها فيممت وجهي شطرك فحذيني وشدي جراحي واجعليني وترا في قيثارتك التي أسكتتها القنابل ...فجاوبتي بهدوء كيف تريدني أن أشد جراحك وأنا جرح ينزف من أيام بابل وآشور ثم نهضت ورحلت بصمت وهي تجر أقدامها كنت أراقبها بألم وحسرة وبعد فترة من ذهابها سمعت صوت انفجار هز المكان فهرعت مع الناس باتجاه الانفجار كانت لحظات مخيفة ومرعبة، وعندما وصلت مكان الانفجار وجدتها هناك أمامي في سكرات الموت والدماء تغطي وجهها في تلك اللحظات فقدت ذاكرتي واحتظنتها بخوفي.. بفزعي.. بلوعتي وبكيتها بألم وحسرة بكيت سنوات عمري الضائعة وجرح سيظل ينزف طوال عمري وأتذكره في كل لحظة ...أنتبه إلى صوت السائق وهو يقول الحمد لله على السلامه وصلنا إلى البصرة.
ونزلت من الحافله نافضا عن جسدي ذكريات أصبحت هوسي ووجعي .