وهكذا فى كل العصور كان هناك دائماً من يعتقدون أن ما يعرفونه هم وحدهم هو اليقين الذى لا شك فيه وأن ما يعرفه غيرهم هو الباطل الذى لا شك فيه، والذى لا يستحق حتى سماعه أو مناقشته!
ونحن مطالبون دائماً يا صديقى بأن نسمع أولاً لكل رأى يعرض علينا وأن نناقشه ونمتحن أدلته فإذا ثبتت لنا صحته أو معقوليته قبلنا به وإذا ثبت لنا العكس رفضناه.. أما أن نرفض كل شىء قبل أن نعرفه ونناقشه اعتقاداً منا بأنه ليس لدى الآخرين ما يمكن أن يضيف إلى معارفنا الجديد أو لدينا نحن فقط اليقين الأكيد فهذا هو الطريق الذى سار فيه كل المتحجرين من أعداء الفكر الحر فى كل العصور.
الآلام يا بنىّ تملأ الحياة فلا تفتش عنها فى صفحات الكتب، والدنيا التى يرسمها المؤلفون أشبه فى نظرى بالفاكهة التى يصنعها التلاميذ من الشمع والصلصال.. ولقد كنت وأنا فى مثل سنك شغوفاً بالقراءة حتى ظننت أن الحياة عدة محاضرات يطالعها المرء فيعرف كيف يحيا حياته، ولكننى فجعت فى خيالى هذا يوم أن ولجت أبواب العمل فأدركت أنى كنت أتعلم السباحة على رمل أو حصير..
ولجت أبواب الحياة فتبين لى أن ما تعلمناه فى المدارس كان سباحة على رمل أو حصير، لأننا فى مدارسنا لا نشرب الفرد حب الجماعة، ولا نعلمه التنافس الكريم، ولا نرصد المواهب فنوجهها، وإنما يسير كل شىء منها كما اتفق.
نريد أن نكسر قيود الإرغام كى نقيّد ذواتنا اختياراً بواجبات سامية.. نحن نعلم أن قيود الحرية أوفر من قيود الظلم عدداً، وأدق نوعاً، وأوجع وطأة، ولكنّ فى قيود الظلم إذلالاً يسحق الشخصية هابطاً بالإنسان إلى تحت درجة الإنسان، وفى قيود الحرية عزة تعلو بالمرء إلى قمة العظمة فتصيره إنساناً كاملاً، يقوى على النظر ملياً فى وجه الإنسانية المجاهدة قائلاً: "أنا ابنك وقد صيرنى جهادى أهلاً لهذه النبوة المقدسة!".
كنت قبل كنهر صغير على حافة قرية.. كان إيقاعى ولغتى غير ما هما الآن.. ولكن المد جاء من البحر، وجاش صدرى، وتداعى شاطئاى.. وتجاوبت أمواج البحر تقرع قرع الطبول فى تيارى المجنون.. لم أستطع أن أفهم معنى ذلك الصوت فى دمى.. أين كانت نفسى الأولى؟ من أين جاء هذا السيل الآتى من المجد يزبد فى باطنى؟ وتساءلت: هل خلقنى الخالق من جديد؟ وهل أراد أن يعوضنى الآن عن طول ما نبذنى؟
أعطنى القدرة حتى أبتسم..
عندما ينغرس الخنجر فى صدر المرح
ويدب الموت، كالقنفذ فى ظل الجدار
حاملاً مبخرة الرعب لأحداق الصغار.
أعطنى القدرة.. حتى لا أموت.
منهك قلبى من الطرق على كل البيوت
علّنى فى أعين الموتى أرى ظل ندم!
فأرى الصمت.. كعصفور صغير
ينقر العينين والقلب، ويعوى..
فى ثنايا كل فم!
الأيام والأسابيع تمضى، أحياناً كعاصفة هوجاء من الجنون والدم، وأحياناً أخرى ثقيلة كجثث الموتى.. وأنا أمضى مع الأيام، لكن عيناى تظلان ثابتتين عليك، وكل جهدى أن ألغى المسافة التى تفصل بيننا.. أنا أنظر إلى السحب تسير نحو الجنوب، فأسترجع فى ذهنى الأغانى الشعبية التى تستودع السحب والرياح والعصافير رسائل الحب لتحملها إلى المحبوبة.. والفتاة تجلس إلى النافذة تنظر إلى السحب وتفتح ذراعيها لتتلقى المحب الذى ينزل إليها مع المطر.. "حبيبى الجميل.. ليتك سحابة تطير حتى تصل عندى.. ليتك تغنى ريحاً لينة تلامس سطح منزلى".
وسر الجمال فى لحظة الاتصال بين نفس وموضوع.. بين عين وأذن وقلب.. وبين رسم جميل أو لحن عذب أو منظر أخاذ.. والجمال لا يوجد فى الرسم نفسه، ولا فى اللحن.. سر الجمال فى النفوس التى ترى وتشاهد وتصغى..
ولحظة الإحساس بالجمال هى لحظة اهتزاز ورنين وانسجام.. وانعطاف بين النفس وبين موضوع اكتشفت فيه النفس ذاتها وأسرارها وحقائقها الدفينة..
إنها حالة من التعارف بين المثل العليا القائمة فى النفس وبين الرسوم التى تشرح هذه المثل وتجسدها وترسمها.. وحالة من النشوة تتحد فيها النفس بموضوعاتها.. وتحصل من هذه الوحدة على الراحة واليقين.
إننى من الحب وللحب خُلقت، لهذا حين أعود إلى الحياة- فالأحجار وأشجار اللوز، والمنارات الهاوية، والرياحين، والنخيل، والأقواس، والمعادن، والروعة البائدة - يا مدينة الزهراء فإن كل بقاياك حيث كانت قصية، أو غائرة ستؤوب إلى مكانها حيث وضعها الحب، لأنك يا مدينتى أنشئت مثلى من الحب وإلى الحب..
وأنتم أيها العشاق أحبوا دون أن تضيعوا لحظة واحدة.. قبلوا ضوء الشمس، أو ضوء القمر.. هذا الضوء الذى يبحث عنكم مجتهداً قروناً إثر قرون لكنه يبحث عن قبض الريح.. مثلما بحث عنى ولم يلقنى..
وداعاً أيها العالم الذى عشقت فيه، والذى كنت فيه معشوقة.