أخبرنا سعيد بن محمد بن أحمد الزاهد، أخبرنا الحسن بن أحمد الشيباني، أخبرنا المؤمل بن الحسن [بن عيسى]، حدَّثنا محمد بن إسماعيل بن سالم، حدَّثنا أبو نعيم، حدَّثنا عبد الله بن الوليد، عن بُكَيْر، عن ابن شهاب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: أقبلت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم نسألك عن أشياء فإن أجبتنا فيها اتبعناك، أخبرنا من الذي يأتيك من الملائكة؟ فإنه ليس من نبي إلاَّ يأتيه ملك من عند ربه عزّ وجلّ بالرسالة وبالوحي، فمن صاحبك؟
قال: جبريل: قالوا: ذاك الذي ينزل بالحرب وبالقتال، ذاك عدونا، لو قلت: ميكائيل الذي ينزل بالقطر والرحمة تابعناك.
فأنزل الله تعالى: { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ} إلى قوله: { فَإِنَّ ٱللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ}
قال أبو جعفر الطبري رحمه اللّه: أجمع أهل العلم بالتأويل جميعاً أن هذه الآية نزلت جواباً لليهود من بني إسرائيل إذ زعموا أن جبريل عدوّ لهم، وأن ميكائيل وليٌّ لهم، ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك، فقال بعضهم: إنما كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم في أمر نبوّته.
عن ابن عباس قال: أقبلت يهود على النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم أخبرنا عن خمسة أشياء فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذا قال: { واللّه على ما نقول وكيل} قال: (هاتوا)، قالوا: فأخبرنا عن علامة النبي؟ قال: (تنام عيناه ولا ينام قلبه). قالوا: أخبرنا كيف تؤنث المرأة وكيف تذكَّر؟ قال: (يلتقي الماءان فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكرت، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أنثت)، قالوا: أخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه؟ قال: (كان يشتكي عرق النساء فلم يجد شيئاً يلائمه إلا ألبان كذا)، قال أحمد، قال بعضهم: يعني الإبل. فحرم لحومها. قالوا: صدقت. قالوا: أخبرنا ما هذا الرعد؟ قال: (ملك من ملائكة اللّه عزّ وجلّ موكل بالسحاب بيديه أو في يديه مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث أمره اللّه تعالى). قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: (صوته)، قالوا: صدقت. قالوا: إنما بقيت واحدة وهي التي نتابعك إن أخبرتنا بها، إنه ليس من نبي إلا وله ملك يأتيه بالخبر فأخبرنا من صاحبك؟ قال: (جبريل عليه السلام)، قالوا: جبريل ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدوُّنا، لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والقطر والنبات لكان، فأنزل اللّه تعالى: { قل من كان عدو لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله}[1] إلى آخر الآية.
وفي رواية: إن يهود سألوا النبي صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم عن صاحبه الذي ينزل عليه بالوحي قال: (جبريل) قالوا: فإنه عدوّ لنا ولا يأتي إلا بالحرب والشدة والقتال فنزلت: { قل من كان عدوا لجبريل} الآية.
وأخرج البخاري عن أنَس بن مالك قال: سمع عبد اللّه بن سلاّم بمقدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم وهو في أرض يخترف فأتى النبي صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة، وما أول طعام أهل الجنة، وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: (أخبرني بهذه جبرائيل آنفاً) قال: جبريل؟ قال: (نعم) قال: ذاك عدوّ اليهود من الملائكة فقرأ هذه الآية: { من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك}. (وأما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد وإذا سبق ماء المرأة نزعت)، قال: أشهد أن لا إله إلا اللّه وأنك رسول اللّه، يا رسول اللّه إن اليهود قوم بُهْتٌ وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني، فجاءت اليهود فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم : (أي رجل عبد اللّه ابن سلام فيكم؟) قالوا: خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا، قال: (أرأتيم إن أسلم) قالوا: أعاذه اللّه من ذلك فخرج عبد اللّه فقال: أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمداً رسول اللّه، فقالوا: هو شرنا وابن شرنا وانتقصوه، فقال: هذا الذي كنت أخاف يا رسول اللّه)[2].
وقال آخرون: بل كان سبب ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين عمر بن الخطاب في أمر النبي صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم، قال عمر: كنت أشهد اليهود يوم مدارسهم، فأعجب من التوراة كيف تصدِّق القرآن من القرآن كيف يصدِّق التوراة فبينما أنا عندهم ذات يوم قالوا: يا ابن الخطاب ما من أصحابك أحد أحب إلينا منك، قلت: ولم ذلك؟
قالوا: لأنك تغشانا وتأتينا، فقلت: إني آتيكم فأعجب من القرآن كيف يصدِّق التوراة، ومن التوراة كيف تصدِّق القرآن، قالوا: ومرّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم فقالوا: يا ابن الخطاب ذاك صاحبكم فالحق به، قال: فقلت لهم عند ذلك: نشدتكم باللّه الذي لا إله إلا هو وما استرعاكم من حقه وما استودعكم من كتابه، هل تعلمون أنه رسول اللّه؟
قال: فسكتوا، فقال لهم عالمهم وكبيرهم: إنه قد غلَّظ عليكم فأجيبوه، قالوا: فأنت عالمنا وكبيرنا فأجبه أنت، قال: أما إذا نشدتنا بما نشدتنا فإنا نعلم أنه رسول اللّه، قلت: ويحكم إذاً هلكتم، قالوا: إنا لم نهلك، قلت: كيف ذلك وأنت تعلمون أنه رسول اللّه ولا تتبعونه ولا تصدقونه!! قالوا: إن لنا عدوّاً من الملائكة، وسلْماً من الملائكة، وإنه قرن بنبّوته عدوّنا من الملائكة، قلت: ومن عدوّكم ومن سِلمكم؟
قالوا: عدوّنا جبريل، وسِلمنا ميكائيل، قالوا: إن جبريل ملك الفظاظة والغلظة والإعسار والتشدد والعذاب ونحو هذا، وإن ميكائيل ملك الرحمة والرأفة، والتخفيف ونحو هذا، قال، قلت: وما منزلتهما من ربهما عزّ وجلّ؟
قالوا: أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره، قال، فقلت: فوالذي لا إله إلا هو إنهما - والذي بينهما - لعدوّ لمن عاداهما وسِلْمٌ لمن سالمهما، وما ينبغي لجبريل أن يسالم عدوّ ميكائيل، وما ينبغي لميكائيل أن يسالم عدوّ جبريل، قال: ثم قمت فاتبعت النبي صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم فلحقته وهو خارج من خوخة لبني فلان، فقال: (يا ابن الخطاب ألا أقرئك آيات نزلن قبل) فقرأ علي: { من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله} حتى قرأ الآيات.
قال، قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه والذي بعثك بالحق لقد جئت أنا أريد أن أخبرك وأنا أسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر)[3] "
وقال ابن جرير: انطلق عمر بن الخطاب ذات يوم إلى اليهود فلما انصرف رحبوا به، فقال لهم عمر: أما واللّه ما جئتكم لحبكم ولا لرغبة فيكم ولكن جئت لأسمع منكم، فسألهم وسألوه، فقالوا: من صاحب صاحبكم؟
فقال لهم: جبرائيل فقالوا: ذاك عدونا من أهل السماء يطلع محمداً على سرِّنا وإذا جاء جاء بالحرب والسَنَة المراد بالسنة: القحط والجدب ولكن صاحب صاحبنا ميكائيل إذا جاء جاء بالخصب والسلم، فقال لهم عمر: هل تعرفون جبرائيل وتنكرون محمداً صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم، ففارقهم عمر عند ذلك وتوجه نحو النبي صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم ليحدثه حديثهم فوجده قد أنزلت عليه هذه الآية: { قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله} الآيات.
وقال ابن جرير عن أبن أبي ليلى في قوله تعالى: { من كان عدوا لجبريل} قال: قالت اليهود للمسلمين: لو أن ميكائيل كان هو الذي ينزل عليكم اتبعناكم فإنه ينزل بالرحمة والغيث، وإن جبرائيل ينزل بالعذاب والنقمة فإنه عدوّ لنا، قال: فنزلت هذه الآية.
وأما تفسير الآية فقوله تعالى: { قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله} أي من عادى جبرائيل فليعلم أنه الروح الأمين، الذي نزل بالذكر الحكيم على قلبك من اللّه بإذنه له في ذلك، فهو رسول من رسل اللّه ملكيَّ، ومن عادى رسولا فقد عادى جميع الرسل، كما أن من آمن برسول فإنه يلزمه الإيمان بجميع الرسل، وكذلك من عادى جبرائيل فإنه عدوّ للّه لأن جبرائيل لا ينزل بالأمر من تلقاء نفسه وإنما ينزل بأمر ربه كما قال: { وما نتنزل إلا بأمر ربك}[4]
وقال تعالى: { وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين}[5].
وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم : (من عادى لي ولياً فقد بارزني بالحرب) ولهذا غضب اللّه لجبرائيل على ما عاداه، فقال تعالى: { من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن اللّه مصدقاً لما بين يديه} أي من الكتب المتقدمة { وهدى وبشرى للمؤمنين}[6] أي هدى لقلوبهم، وبشرى لهم بالجنة، وليس ذلك إلا للمؤمنين كما قال تعالى: { قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء}[7] ، وقال تعالى: { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين}، ثم قال تعالى: { من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين}
يقول تعالى: من عاداني وملائكتي ورسلي - ورسله تشمل رسله من الملائكة والبشر - كما قال تعالى: { الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس}[8]، { وجبريل وميكال} وهذا من باب عطف الخاص على العام فإنهما دخلا في الملائكة في عموم الرسل، ثم خُصّصا بالذكر لأن السياق في الانتصار لجبرائيل، وهو السفير بين اللّه وأنبيائه، وقرن معه ميكائيل في اللفظ لأن اليهود زعموا أن جبرائيل عدوهم، وميكائيل وليهم، فأعلمهم اللّه تعالى أن من عادى واحداً منهما فقد عادى الآخر، وعادى اللّه أيضاً، ولأنه أيضاً ينزل على أنبياء بعض الأحيان كما قرن برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم في ابتداء الأمر، ولكن جبرائيل أكثر وهي وظيفته، وميكائيل موكل بالنبات والقطر.
هذا بالهدى وهذا بالرزق، كما أن إسرافيل موكل بالنفخ في الصور للبعث يوم القيامة، ولهذا جاء في الصحيح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم كان إذا قام من الليل يقول: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اخْتُلِف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم).
عن ابن عباس قال: إنما كان قوله جبرائيل كقوله عبد اللّه وعبد الرحمن، وقيل جبر: عبد، وإيل: اللّه.
وقوله تعالى: { فإن الله عدو للكافرين} فيه إيقاع المظهر مكان المضمر حيث لم يقل فإنه عدو بل قال: { فإن اللّه عدو للكافرين} كما قال الشاعر:
لا أرى الموتَ يسبق الموتَ شيءٌ سبق الموتُ ذا الغنى والفقيرا
وإنما أظهر اللّه هذا الاسم ههنا لتقرير هذا المعنى وإظهاره، وإعلامهم أن من عادى ولياً للّه فقد عادى اللّه، ومن عادى اللّه فإن اللّه عدو له، ومن كان اللّه عدوه فقد خسر الدنيا والآخرة، كما تقدم الحديث: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالمحاربة) الرواية تقدمت بلفظ فقد بارزني بالحرب وذكر ابن كثير أنه رواية البخاري رضي الله عنه وفي الحديث الصحيح: (من كنت خصمه خصمته).
[1] رواه أحمد والترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حسن غريب [2] رواه البخاري وأخرجه مسلم قريباً من هذا السياق [3] ذكره ابن جرير في تفسيره بسنده إلى الشعبي [4] مريم 64 [5] الشعراء 192-194 [6] يونس 57 [7] فصلت 44 [8] الحج 75
التوقيع
[SIGPIC][/SIGPIC]
آخر تعديل شاكر السلمان يوم 07-06-2015 في 02:20 PM.
بارك الله فيك يا ابا صالح. لقد ارتوينا بمعرفتك ، وشعرت بحق بلذة المعنى والمضمون.
موضوع يستحق القراءة ، والتفكير العميق.
تقبل مني سلاما نقيا ، كنقاوة تفكيرك ، ودمت لنا عالما ، يكشف الحقائق البعيدة عن تفكيرنا ، وينورنا بالمعرفة ودين الحق.
تحياتي الاخوية ، ودمت والعائلة ، مصانا برحمة الله من كل شر وسوء.
اوك ابن العراق الجريح : صلاح الدين سلطان
بارك الله فيك يا ابا صالح. لقد ارتوينا بمعرفتك ، وشعرت بحق بلذة المعنى والمضمون.
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة صلاح الدين سلطان
موضوع يستحق القراءة ، والتفكير العميق. تقبل مني سلاما نقيا ، كنقاوة تفكيرك ، ودمت لنا عالما ، يكشف الحقائق البعيدة عن تفكيرنا ، وينورنا بالمعرفة ودين الحق. تحياتي الاخوية ، ودمت والعائلة ، مصانا برحمة الله من كل شر وسوء. اخوك ابن العراق الجريح : صلاح الدين سلطان