سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّار وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ آل عمران 151
قوله تعالى: { سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ...} الآية.
قال السدي: لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين إلى مكة، انطلقوا حتى بلغوا بعض الطريق، ثم إنهم ندموا وقالوا: بئس ما صنعنا! قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلاَّ الشريد تركناهم، ارجعوا فاستأصلوهم. فلما عزموا على ذلك ألقى الله تعالى في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عما عزموا، وأنزل الله تعالى هذه الآية.
يحذر تعالى عباده المؤمنين عن طاعة الكافرين والمنافقين، فإن طاعتهم تورث الردى في الدنيا والآخرة، ولهذا قال تعالى: { إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين}، ثم أمرهم بطاعته وموالاته والاستعانة به والتوكل عليه فقال تعالى: { بل اللّه مولاكم وهو خير الناصرين}، ثم بشرهم بأنه سيلقي في قلوب أعدائهم الخوف منهم والذلة لهم بسبب كفرهم وشركهم مع ما ادخره لهم في الدار الآخرة من العذاب والنكال، فقال: { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين} وقد ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد اللّه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم قال: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأحلت لي الغنائم، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة) وقال الإمام أحمد: عن أبي موسى قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم: (أعطيت خمساً: بعثت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لمن كان قبلي، ونصرت بالرعب مسيرة شهر، وأعطيت الشفاعة، وليس من نبي إلا وقد سأل الشفاعة وإني قد اختبأت شفاعتي لمن مات لا يشرك باللّه شيئاً)
قال ابن عباس في قوله تعالى سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب} قذف اللّه في قلب أبي سفيان الرعب فرجع إلى مكة، فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم: (إن أبا سفيان قد أصاب منكم طرفاً، وقد رجع وقذف اللّه في قلبه الرعب)[1] وقوله تعالى: { ولقد صدقكم اللّه وعده إذ تحسونهم بإذنه} قال ابن عباس: وعدهم اللّه النصر، { إذ تحسونهم} أي تقتلونهم { بإذنه} أي بتسليطه إياكم عليهم { حتى إذا فشلتم} الفشل: الجبن { وتنازعتم في الأمر وعصيتم} كما وقع للرماة { من بعد ما أراكم ماتحبون} وهو الظفر بهم { منكم من يريد الدنيا} وهم الذين رغبوا في المغنم حين رأوا الهزيمة { ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم} ثم أدالهم عليكم ليختبركم ويمتحنكم { ولقد عفا عنكم} أي غفر لكم ذلك الصنيع.
قال ابن جريج: قوله: { ولقد عفا عنكم} قال: لم يستأصلكم { واللّه ذو فضل على المؤمنين} .
عن ابن مسعود قال: إن النساء كن يوم أحُد، خلف المسلمين يجهزن على جرحى المشركين، فلو حلفت يومئذ رجوت أن أبر، أنه ليس منا أحد يريد الدنيا حتى أنزل اللّه: { منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم}، فلما خالف أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم وعصوا ما أمروا به أفرد النبي صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم في تسعة، سبعة من الأنصار ورجلين من قريش وهو عاشرهم صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم، فلما أرهقوه قال: (رحم اللّه رجلاً ردهم عنا)، قال: فقام رجل من الأنصار فقاتل ساعة حتى قتل، فلما ارهقوه أيضاً قال: (رحم اللّه رجلا ردهم عنا) فلم يزل يقول ذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول اللّه لصاحبيه: (ما أنصفنا أصحابنا)، فجاء أبو سفيان فقال: اعل هبل، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم: (قولوا اللّه أعلى وأجل)، فقالوا: اللّه أعلى وأجل، فقال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم: (قولوا اللّه مولانا والكافرون لا مولى لهم)، فقال أبو سفيان يوم بيوم بدر فيوم علينا ويوم لنا: ويوم نُساء ويوم نُسر حنظلة بحنظلة وفلان بفلان: فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم: (لا سواء: أما قتلانا فأحياء يرزقون؛ وأما قتلاكم ففي النار يعذبون)، فقال أبو سفيان: لقد كان في القوم مُثْلة - وإن كانت لعن غير مَليّ المليُّ بفتح الميم الهوى منّا ما أمرت ولا نهيت ولا أحببت ولا كرهت، ولا ساءني ولا سرني، قال: فنظروا فإذا حمزة قد بقر بطنه، وأخذت هند كبده فلاكتها فلم تستطع أن تأكلها، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم: (أأكلت شيئاً)؟ قالوا: لا، قال: (ما كان اللّه ليدخل شيئاً من حمزة في النار)، قال: فوضع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم حمزة فصلى عليه، وجيء برجل من الأنصار فوضع إلى جنبه فصلى عليه فرفع الأنصاري وترك حمزة، حتى جيء بآخر فوضع إلى جنب حمزة فصلى عليه، ثم رفع وترك حمزة، حتى صلى عليه يومئذ سبعين صلاة[2].
وقال البخاري عن البراء قال: لقينا المشركين يومئذ وأجلس النبي صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم جيشاً من الرماة وأمر عليهم عبد اللّه ابن جبير، وقال: (لا تبرحوا، إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا) فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل رفعن عن سوقهن.
وقد بدت خلاخلهن فأخذوا يقولون: الغنيمة الغنيمة، فقال عبد اللّه بن جبير: عهد إليَّ النبي صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم أن لا تبرحوا فأبوا، فلما أبوا صرف وجوههم فأصيب سبعون قتيلاً، فأشرف أبو سفيان فقال: أفي القوم محمد، فقال: (لا تجيبوه)، فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ قال: (لا تجيبوه)، فقال أفي القوم ابن الخطاب، فقال: إن هؤلاء قتلوا فلو كانوا أحياء لأجابوا، فلم يملك عمر نفسه فقال له: كذبت يا عدو اللّه، أبقى اللّه لك ما يحزنك؛ قال أبو سفيان: اعل هبل، فقال النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: (أجيبوه)، قالوا: ما نقول؟ قال: (قولوا: اللّه أعلى وأجل)، قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم : (أجيبوه)، قالوا: ما نقول؟ قال: (قولوا: اللّه مولانا ولا مولى لكم)، قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال؛ وستجدون مُثلة لم آمر بها ولم تسؤني.
وعن الزبير بن العوام قال: واللّه لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند وصواحباتها مشمرات هوارب ما دون أخذهن كثير ولا قليل، ومالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه يريدون النهب، وخلوا ظهورنا للخيل فأوتينا من أدبارنا، وصرخ صارخ ألا إن محمداً قد قتل، فانكفأنا وانكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب اللواء حتى ما يدنوا منه أحد من القوم، قال محمد بن إسحاق: فلم يزل لواء المشركين صريعاً حتى أخذته عمرة بنت علقمى الحارثية فدفعته لقريش فلاثوا بها[3] وقال السدي عن عبد اللّه بن مسعود قال: ما كنت أرى أن أحداً من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم يريد الدنيا حتى نزل فينا ما نزل يوم أحُد { منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة} .
وقوله تعالى: { ثم صرفكم عنهم ليبتليكم} ، قال ابن إسحاق: انتهى أنَس بن النضر عم أنَس بن مالك إلى عمر بن الخطاب و طلحة بن عبد اللّه في رجال من المهاجرين والأنصار قد ألقوا ما بأيديهم، فقال: ما يخليكم؟ فقالوا: قتل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم، قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه؛ ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل رضي اللّه عنه- وقال البخاري عن أنَس بن مالك أن عمه يعني أنَس بن النضر غاب عن بدر فقال: غبت عن أول قتال النبي صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم لئن أشهدني اللّه مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم ليرينَّ اللّه ما أجد، فلقي يوم أحد فهزم الناس، فقال اللهم إن أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني المسلمين - وأبرأ إليك مما جاء به المشركون؛ فتقدم بسيفه فلقي سعد بن معاذ فقال: أين يا سعد إني أجد ريح الجنة دون أحد، فمضى فقتل فما عرف حتى عرفته أخته بشامة أو ببنانه وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم[4].
وقوله تعالى: { إذ تصعدون ولا تلوون على أحد} أي صرفكم عنهم إذا تصعدون أي في الجبال هاربين من أعدائكم { ولا تلوون على أحد} أي وأنتم لا تلوون على أحد من الدهش والخوف والرعب، { والرسول يدعوكم في أخراكم} أي وهو قد خلفتموه وراء ظهوركم يدعوكم إلى ترك الفرار من الأعداء، وإلى الرجعة والعودة والكرة، قال السدي: لما اشتد المشركون على المسلمين بأحد فهزموهم دخل بعضهم المدينة، وانطلق بعضهم إلى الجبل فوق الصخرة فقاموا عليها، فجعل الرسول صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم يدعو الناس: (إليّ عباد اللّه، إليّ عباد اللّه )، فذكر اللّه صعودهم إلى الجبل ثم ذكر دعاء النبي صلى اللّه عليه وسلم إياهم فقال: { إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في آخراكم}.
عن البراء بن عازب رضي اللّه عنه قال: جعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم على الرماة يوم أحد - وكانوا خمسين رجلاً - عبد اللّه بن جبير، قال: ووضعهم موضعاً، وقال: (إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، قال، فهزموهم، قال: فلقد واللّه رأيت النساء يشتددن على جبل وقد بدت أسواقهن وخلاخلهن رافعات ثيابهن فقال أصحاب عبد اللّه: الغنيمة أي قوم الغنيمة! ظهر أصحابكم فما تنظرون؟ قال عبد اللّه بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقالوا: إنا لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة، فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين فذلك الذي يدعوهم الرسول في أخراهم، فلم يبق مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً فأصابوا منا سبعين.
وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر مائة وأربعين، سبعين أسيراً وسبعين قتيلاً.
قال أبو سفيان: أفي القوم محمد، أفي القوم محمد، أفي القوم محمد؟ ثلاثاً - قال فنهاهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم أن يجيبوه، ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة، أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن الخطاب، أفي القوم ابن الخطاب؟ ثم أقبل على أصحابه، فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا وكفيتموهم، فما ملك عمر نفسه أن قال: كذبت واللّه يا عدو اللّه إن الذين عددت لأحياء كلهم، وقد أبقى اللّه لك ما يسوؤك، فقال: يوم بيوم بدر، والحرب سجال.
إنكم ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني.
ثم أخذ يرتجز يقول: اعل هبل، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم: (ألا تجيبوه)؟ قالوا: يا رسول الله ما نقول؟ قال: (قولوا اللّه أعلى وأجل)، قال: لنا العزى ولا عزى لكم، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم: (ألا تجيبوه؟) قالوا: يا رسول اللّه وما نقول؟ قال: (قولوا الله مولانا ولا مولى لكم)[5]وقد روى البخاري عن قيس بن أبي حازم قال: رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى اللّه عليه وسلم يعني يوم أحد، وفي الصحيحين، عن أبي عثمان النهدي قال: لم يبق مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم في بعض تلك الأيام التي قاتل فيهن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم إلا طلحة بن عبيد اللّه وسعد عن حديثهما.
وعن سعيد بن المسيب يقول: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: نثل لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم كنانته يوم أحد، وقال: (ارم فداك أبي وأمي)، وعن سعد بن أبي وقاص أنه رمى يوم أحد دون رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم قال سعد: فلقد رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم يناولني النبل، ويقول: (ارم فداك أبي وأمي) حتى أنه ليناولني السهم ليس له نصل فأرمي به.
وثبت في الصحيحين من حديث إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: رأيت يوم أحد عن يمين النبي صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم وعن يساره رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه أشد القتال ما رأيتهما قبل ذلك اليوم ولا بعده، يعني جبريل وميكائيل عليهما السلام، وعن أنَس بن مالك: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار واثنين من قريش، فلما أرهقوه قال: (من يردهم عنا وله الجنة - أو هو رفيقي في الجنة - )، فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، ثم أرهقوه أيضاً فقال: (من يردهم عنا وله الجنة)، فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة: فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم لصاحبيه: (ما أنصفنا أصحابنا)[6].
وقال أبو الأسود عن عروة ابن الزبير قال: كان أُبيّ بن خلف أخو بني جمح قد حلف وهو بمكة ليقتلن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم فلما بلغت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم حلفته قال: (بل أنا أقتله إن شاء اللّه)، فلما كان يوم أُحُد أقبل أُبيّ في الحديد مقنعاً وهو يقول: لا نجوتُ إن نجا محمد، فحمل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم يريد قتله، فاستقبله مصعب بن عمير أخو بني عبد الدار يقي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم بنفسه فقتل مصعب بن عمير، وأبصر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم ترقوة أبي بن خلف من فرجه بين سابغة الدرع والبيضة وطعنه فيها بحربته فوقع إلى الأرض عن فرسه، ولم يخرج من طعنته دم، فأتاه أصحابه فاحتملوه وهو يخور خوار الثور، فقالوا له: ما أجزعك إنما هو خدش؟ فذكر لهم قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم : (بل أنا أقتل أُبيَّا)، ثم قال: والذي نفسي بيده لو كان هذا الذي بي بأهل ذي الحجاز لماتوا أجمعون، فمات إلى النار { فسحقاً لأصحاب السعير} وذكر محمد بن إسحاق قال: لما أسند رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم في الشعب أدركه أُبيّ بن خلف وهو يقول: لا نجوتُ إن نجوتَ، فقال القوم: يا رسول اللّه يعطف عليه رجل منا، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (دعوه) فلما دنا منه تناول رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة، فقال بعض القوم كما ذكر لي: فلما أخذها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم منه انتفض بها انتقاضة تطايرنا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انفضَّ، ثم استقبله رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ منها عن فرسه مراراً تدأدأ: سقط وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم: (اشتد غضب اللّه على قوم فعلوا برسول اللّه - وهو حينئذ يشير إلى رباعيته - واشتد غضب اللّه على رجل يقتله رسول اللّه في سبيل اللّه) وعن عائشة أم المؤمنين رضي اللّه عنها قالت: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال: ذاك يوم كله لطلحة، ثم أنشأ يحدث، قال: كنت أول من فاء يوم أحد فرأيت رجلاً يقاتل مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم دونه - وأراه قال حميَّة - فقلت: كن طلحة حيث فاتني ما فاتني، فقلت: يكون رجلاً من قومي أحب إلي، وبين المشركين رجل لا أعرفه وأنا أقرب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم منه، وهو يخطف المشي خطفاً لا أعرفه فإذا هو أبو عبيدة بن الجراح فانتهيت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم وقد كسرت رباعيته وشج في وجهه، وقد دخل في وجنته من حلق المغفر، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم (عليكما صاحبكما يريد طلحة) وقد نزف فلم نلتفت إلى قوله قال: وذهبت لأنزع ذلك من وجهه، فقال أبو عبيدة: أقسمت عليك بحقي لما تركتني فتركته، فكره أن يتناولها بيده فيؤذي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم فأزمَّ عليها بفيه فاستخرج إحدى الحلقتين، ووقعت ثنيته مع الحلقة، وذهبت لأصنع ما صنع فقال: أقسمت عليك بحقي لما تركتني قال، ففعل مثل ما فعل في المرة الأولى، ووقعت ثنيته الأخرى مع الحلقة، فكان أبو عبيدة من أحسن الناس هتماً، فاصلحنا من شأن رسول الله صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم ثم أتينا طلحة في بعض تلك الجفار، فإذا به بضع وسبعون أو أقل أو أكثر من طعنة ورمية وضربة، وإذا قد قطعت أصبعه، فأصلحنا من شأنه[7] وقال ابن وهب: إن مالكاً أبا أبي سعيد الخدري لما جرح النبي صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم يوم أحد مصَّ الجرج حتى أنقاه ولاح أبيض فقيل له: مجه، فقال: لا واللّه لا أمجه أبداً ثم أدبر يقاتل، فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم : (من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا فاستشهد) وقد ثبت في الصحيحين عن سهل بن سعد أنه سئل عن جرح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: جرح وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فكانت فاطمة تغسل الدم وكان علي يسكب عليه الماء بالمجن، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فاحرقتها، حتى إذا صارت رماداً ألصقته بالجرح فاستمسك الدم وقوله تعالى: { فأثابكم غماً بغم} أي فجزاكم غمًا على غم، كما تقول العرب: نزلت ببني فلان نزلت على بني فلان، وقال ابن جرير: وكذا قوله: { ولأصلبنكم في جذوع النخل} أي على جذوع النخل.
قال ابن عباس: الغم الأول بسبب الهزيمة وحين قيل قتل محمد صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم، والثاني حين علاهم المشركون فوق الجبل، وقال النبي صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم: (اللهم ليس لهم أن يعلونا)، وعن عبد الرحمن بن عوف: الغم الأول بسبب الهزيمة، والثاني حين قيل: قُتل محمد صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم كان ذلك عندهم أشد وأعظم من الهزيمة.
وقال السدي: الغم الأول بسبب ما فاتهم من الغنيمة والفتح، والثاني بإشراف العدو عليهم.
وقال محمد بن إسحاق: { فأثابكم غمًا بغم} أي كرباً بعد كرب من قتل من قتل من إخوانكم، وعلو عدوكم عليكم، وما وقع في أنفسكم من قتل نبيكم، فكان ذلك متتابعاً عليك غماً بغم.
وقال مجاهد وقتادة: الغم الأول سماعهم قتل محمد، والثاني ما أصابهم من القتل والجراح.
وقوله تعالى: { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم} أي على ما فاتكم من الغنيمة والظفر بعدوكم { ولا ما أصابكم} من الجراح والقتل قاله ابن عباس والسدي { واللّه خبير بما تعملون} سبحانه وبحمده، لا إله إلا هو جل وعلا.
[1] رواه ابن أبي حاتم
[2] رواه الإمام أحمد في المسند
[3] رواه ابن أبي إسحاق
[4] رواه ابن أبي إسحاق
[5] رواه الإمام أحمد
[6] رواه مسلم
[7] أخرجه أبو داود الطيالسي والطبراني