سرحت في سماء أسرتها الغيوم...و ضعت في أرض قيدتها الهموم...كسرت الحصون و فررت هاربة في رحلة خرافية ليس لها بداية ولا نهاية... فأنا ما زلت أسيرة أحلامي الطليقة! ماذا نفعل فنحن محكومون بالأمل…نتشبث به و نلاحق أطاريفه الوهمية التي كونت سرابا تائها عن منفاه الأزلي...
هي أسطورة الحياة تتجلى في سمائها شغف لا ينتهي...وشمس الحق ..وقمر التضحية والفداء... هي الكلمات محتها السطور..وهمستها شفاهنا في السكينة ...وأي سكينة هذه؟ أظنها سكينة من نوع آخر تلك التي تبدل ألحان الطفولة الوردية بدويّ انفجار القنابل النووية!
كيف هو السبيل للبحث عن حياة اللا حياة ؟ صعب هو الخوض في المتناقضات! والأصعب هو العيش في الطرق الوعرة وحفر خلفتها عجلات الزمان ما بين دمار ونار ودخان... الأمس يضيع واليوم يضيع ….. كيف نعيش والماضي أكبر أجزاء المستقبل؟ و هم باتوا حزن الأحزان...
ولو سألنا الكائنات عن وضعها هناك لقالت :إن الصباح في بلادي أمر ميئوس منه،حاله كحال أوراق الخريف اليابسة الصفراء، التي انتزعت منها الحياة فمن يمنعها من الإستلقاء الرقود بسلام ؟ وياللأسف حتى هذه لم تجد لها على الأرض مكان.. لتستريح بأمان...
مدرسة الحياة علمتنا أن نكون أنفسنا.. و نؤمن بما نحن عليه.. وبما هو داخلنا.. فنحن لا نذهب إلى الصحراء بحثا عن الأشجار الخضراء و الينابيع الغناء! أبداً لا نبحث عنها على الأرض بل الأشجار المثمرة الظليلة... و الينابيع العذبة الغنية الطاهرة هي التي تنموا داخلنا في كل يوم..و تكبر...
في كثير من الاحيان..أتأمل خارطة الأزمان ..أرى فيها ذكرى إنسان…إنسان يبحث في تلك الخريطة عن طريق مسدود..كيف ورائحة التفاح منه تفوح ؟! بالطبع هو في الحقيقة مفتوح .. مفتوح .. مفتوح...
حتى الدموع باتت تموت في الأجفان.. تحلم بأن لا تهوي في يوم من الأيام كأوراق العمر لتنام نومة أبدية كطفل يشدو أحلامه الوردية.. يلتصق بأمه كجسد واحد..خوفا من أن يطأ الأرض فترفضه ! ويثقل عليها حمل شخصان...
ويا لبحر شرب الأحزان...سفنه الباكية تتمزق فوق الخلجان ..وتحت حطام الأحلام ..ومابين سطور الحرمان ... لا يشابه الإبحار بلاسفينة إلا العيش بلا الحياة !….و يبقى السؤال المبهم في إطباقة الشفاه ؟؟؟؟؟
أين من كانوا نصر التاريخ على مر الزمان ؟ أين من كانوا وعداً بلا نفاق ؟ حالنا كحال العصافير التي مزقت أجنحتها.. واحتجزت في قفص الوجود.. وياله من قفص كبير ! ألا يعقل وجود ولو مقاتل واحد يشعل فتيلة المقاومة و الصمود و الجهاد و يطلق سراحنا السجين؟ بالتأكيد حينها سيغدو عدونا في مأزق كبير ... يسأل عن شعلة ظن أنه أخمدها بآليته العسكرية الإسرئلية الإستعمارية...
لم يعلم أن أرواحنا فدى الوطن.. رخيصة الثمن..
ف ل س ط ي ن … حتى الحروف تغتال حين تقال... كلمة تسكن الوجدان حروفها باتت للتاريخ عنوانا... و للدماء زخرفا و ألوانا.. و للأبجدية مجدا يتجلى و يخلف قصة إنسان… رمق حياة.. دمعة أم.. حنان شمس .. و كل شيء له معان...
هي أسمى من أن تكون بضع صور تذكارية على جدران ذاكرة النسيان.. هي أروع من أن تكون بعض مخططات و تصاوير فوتوغرافية في دفاتر نجسة صهيونية…هي أرض مباركة طاهرة..أرض الرسل و الأبطال الشرفاء معرج خاتم الأنبياء…و أصحاب البيان.. بل هي فلسطين ..عنوان بلا عنوان...
في كل يوم نحزم حقائب الوجع.. نسافر بها في خيالنا اليائس الا من بعض الامل... حتى تثقل بها همومنا فنأخذ استراحة لبرهة.. و شلال الدموع.. يتنهد بأنفاس عميقة تحاول إعادتنا للحياة- إن صحت التسمية- ...
آه فلسطين..أيا سؤالاً بلا جواب...
قيل:
لا تسقني ماء الحياة بذلة ... بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
جرعتنا قسوة الأيام كؤوس الحنظل و المرار و الخوف من غد.. اعتقلت فينا سر الوجود... و قيدتنا بأغلال من حديد…قبل ذلك كان الأطفال يلهون فوق التلال الخضراء.. يرسمون الشمس بألوانهم… يزينون السماء بأحلامهم... ولكن حينما تتطاير الأحلام..و تختفي ألوان الأطفال... و تسرق زرقة السماء... لابد أن يغدو ذاك الطفل المسكين في زقاق الحياة جائع يتيم.. و في ثوان تتحول رسمته الطفولية إلى مقابر جماعية.. يترامى في أرجائها أطراف بشرية…و مجازر دموية.. يتأوه القلم عاجزا عن وصفها…حينها فقط يصبح المصير هو الإضمحلال في زاوية سوداء من عالم الواقع المظلم…
في لحظات..يضيعنا الدرب فنصبح كالإنسان المفقود.. لا يعرف مكانه في الأرض.. و لا يعرف إلى أين يعود.. حينها تبدأ رحلته في البحث عن درب بغير انتهاء...
هو البكاء العذري لطفل حزين...و لكن ألا يجب أن تكون له عيون لتذرف حرقة و ألم فلسطين…و أقصانا السجين… ماذا يقال حين تعظم المصائب و تصبح خرساء لا تفقه شيئاً.. و لا ترى سوى المجهول كضباب يغمر وجه بحيرة...
هي ذاتها قسوة المتوحشين تلك التي تفصل أجسادنا عنا.. فنعيش روحا بلا جسد..ويموت الموت من جبروتنا و صمودنا و مقاومتنا...
صدقا إنني أجد الصمت أبلغ كلماتي…فالكلام الأبكم يقف عاجزاً أمام مشاهد تبكي الضرير و الصغير و الكبير! ما ذنب أطفال لم يعرفوا من الحياة سوى المرار؟...طفل بابتسامته أسير طليق.. أوت إليه الشمس خائفة..التصقت بوجنتيه تسعى إلى البقاء..بعدما غطت السماء..غيوم الحقد السوداء...
ها هو يترنم بصوت أمه... لا يجد مكانا أدفىء من صدرها… يعد دقات قلبها ... شعور رائع يعيده إلى ما قبل التكوين…حينما كان لا يزال في أحشائه ..يشعر بالأمان…كانت تحثه على الإسراع بالمجيء.. تخبره أن الدنيا جميلة جدا و تحمل في طياتها السعادة…لكنها تحتاج لعزم و صبر و قوة و إرادة…غمرته بالأمل ...أسفي عليه لم يجد للخروج من سبيل.. فجزاري البشر مزقوا الأحشاء…مزقوا الأبناء…مزقوا الحاضر من بعدما استأصلوا الماضي...!
في كل بيت مأساة طويلة… بعد اليوم الأم لن تستقبل تشرين ...ستجمع أشلاء فتاها المسكين... سيتحول صدى صوتها إلى أنين…و لكن حينما يعلن خبر استشهاده ستتصاعد كلماتها من أعماق نفسها…كما أظنها تلك هي الساعة المفرحة بأحزانها و أوجاعها!..و تفوح نسمات الحياة من جديد...
العلة تكمن في إيماننا..و يقيننا الجازم.. بقدرتنا على تخطي اختبارات القدر؟...ألا ليتنا لا نستسلم يا معشر البشر..
لربما أفقدنا الإحتلال الحواس…فصار بكائنا بلا دموع…لربما شيدوا الحواجز فصار طريقا بلا رجوع ..لكن..هيهات... فكلما زرعوا بذور الموت نبتت فينا الحياة..
أيا قدس ما عاش الظالم يسبيكِ… و فينا نفس بعد..
فنحن أمجاد التاريخ…و هم تاريخ النسيان… و كما دخلوا بيتنا من دون استئذان سنخرجهم منه في يوم من الأيام لارتكابهم جرما لا نهاية لفظاعته...
هو مسلسل حزين طويل كالشعاع الممتد دون نهاية.. لكن لا بأس سنستمد منه طاقة تشحذنا فنكسر شعاعهم لنضيء دربك يا فلسطين… و نعيد حبات ترابك يا أقصى..
سنعلن استقلالك يا قدس أيا أرض بارك الله حولها …و على ثرى الأقصى سنركع و نسجد لله شاكرين و سننتصر حتما سننتصر ما دمنا على الله متوكلين.. و بأمره مسترشيدين ..و على درب خالد و صلاح الدين سائرين.. وعدا على ذات الستة عشر ربيعا ..و مخلوقات الكون أجمعين ..سيتحقق الإنتصار...مهما طال الإنتظار.
خطت هذه الكلمات بروح القلم : نيروز عبدالناصر الزريقي.