من كتابه "التنبيهات على أغاليط الرواة"
***
التنبيهات على ما في كتاب النبات
وإنما قدمناه على ما تقدم قبله لنفاسته، ولأنه لم يصنف قبله ولا بعده في معناه ما يدانيه، فضلا عما يساويه.
ومصنفه أبو حنيفة أحمد بن داود الدِّينوري رحمه الله، وروايته عن أبي نصر وأبي حاتم ومن كان في عصريهما، ولم يلق الرَّياشي.
1 - قال أبو حنيفة في تفسير قول قيس بن عيزارة الهذلي:
له هَجَلاتٌ سهلةٌ ونِجادةٌ ... دكادك لا تُؤيى بهنَّ المراتعُ
وواحد الهجلات: هجْل، وواحد الدكادك: دَكداك.
وهذا غلط، لم تأت فَعَلات جمع فَعْل، وإنما تأتي جمع فَعْلة. والهَجَلات جمع هَجَلة، مثل تمرة وتمرات، وضربة وضربات، وقربة وقربات.
فأما الهَجْل فجمعه هُجُول مثل: خمر وخمور، وزَرْب وزروب، قال ذو الرمة:
إذا الشَّخصُ فيها هزَّهُ الآل أغْمَضَتْ ... عليهِ كإغماضِ المُغَضّي هُجُولُها
2- وقال أبو حنيفة: ومن بواطن الأرض الكرام المِطلاء، وهو مطمئنٌّ من الأرض منبات مِحلال، قال الراعي:
فنُورثكم أنَّ التُراثَ إليكمُ ... حبيبُ قراراتِ الحجى فالمطاليا
وقال هِميان السعدي يصف إبلًا:
والرِّمث بالصريمة الكُنافجا ** ورُغُل المطلى به لواهجا
فقصر المطلى.
وليس الأمر كما ذكر. المِطلاء: يُقصر ويُمدّ، والقصر فيه أكثر، وليس هميان وحده قصره، أكثر الرواة على قصره، وقد قال حُميد بن ثور:
تجوب الدُّجى كُدْريّة دون فرخها ... بمطلي أريكٍ سبسبٌ وسُهوبُ
وقال أبو زياد - وقد ذكر دار أبي بكر بن كلاب - ومما يسمى من بلادهم تسمية فيها حظها من المياه والجبال المطالي وواحدها المِطلى وهي أرض واسعة، وأنشد:
أللبرق بالمِطلى تَهُبُّ وتبرقُ ... ودونك نِيق من ذقانين أعنقُ
3 - وقال أبو حنيفة: قال الفراء: النَّواشغ مجاري الماء في الأودية الواحدة: ناشغة، قال الشاعر:
ولا مُتداركٌ والشمسُ طفلٌ ... ببعضِ نواشغِ الوادي حُمولا
وهذا الشعر للمرار، والرواية:
ولا متلاقيا والشمس طفل
فإن تقل: متلاقيًا إلى متدارك فالنصب.
4 - وقال أبو حنيفة، قال الأصمعي: سألت رجلا عن المَرت فقال: " هي التي لا يجف ثراها، ولا ينبت مرعاها " .
وليست المرت بهذه الصفة، ولا هكذا أيضًا الرواية عن الأصمعي، رُوي عنه عن يونس أنه قال: سألت بعض العرب عن السَّبْخة فوصفها لي، ثم ظن أني لم أفهم، فقال: التي لا يجف ثراها ولا ينبت مرعاها. وهذه من صفة الأرض السَّبخة على الحقيقة.
وأما المرت فالتي لا شيء فيها من نبت، ولا ماء، ولا ندىً، ولا ظل وجمعها مُروت.
وقد وصفها أبو حنيفة بمثل وصفنا قبل أن حكى هذه الحكاية، وأنشد:
وقَحَّمَ سيرُنا من ظهر نجدٍ ... مَروتَ الرَّعْيِ ضاحيةَ الظِّلالِ
قال: ثم وصفها بان لا مرعى ولا ظل. قال - وعن الأعراب - : المرت التي لا كلأ بها - وإن مُطرت - وهذه الصفة على الحقيقة صفتها، وذلك لصلابة أرضها، فأما الذي حكاه بعد هذا عن الأصمعي فسهو منه، أو ممن نقله إليه.
5 - وقال أبو حنيفة: وروى النضر: الصَّردحة: الصحراء التي لا تنبت، وهي غَلْظ من الأرض مستوٍ.
وهذا غير محفوظ عنهم إنما يقولون: غِلَظ وغِلْظ مثل: قِمَع وقِمْع، وضِلَع وضِلْع، وأما غَلْظ فلا أعرفه. والنضر غير موثوق به.
التنبيهات على ما في نوادر أبي عمرو الشيباني - رحمه الله - واسمه: إسحق بن مرار بن زرارة قال أبو عمرو: ويقال للبُسر أيضاً الجدال، وأنشد:
يَخِرُّ على أيدي السُّقاة جَدالها
وإنما الجدال: البَلَحُ بإجماع، وقد أتى أبو عمرو بأسماء البلح في نوادره على الاستقصاء؛ ولم يأت بالجدال فيها.
2- وقال: المُصاداة المنع بين الشدة والإرخاء، وهو من المُداراة، قال: وهي المُفاناة والمُساناة والمُدالاة والمُداجاة، قال رجل من غَطَفان:
كلٌّ يُداجي على البَغْضاء صاحبَهُ ... ولن أُعالنهم إلاّ كما عَلَنوا
هذا الرجل الغطفاني - هو قَعْنَب بن أمِّ صاحب، والمداجاة: التغطية والمساترة وليست من المداراة، والأصل فيها: التستر بالدُّجْية - وهي قترة الصائد - وجمعها الدجى، وهي مأخوذة من دُجى الليل، ودجى الليل: ما ستر الأشياء بظلمته فغطى عليها. وفي دجية الصائد يقول الطِّرماح:
مُنطوٍ في مُستوى دُجْية ... كانطواء الحُرِّ بين السِّلامْ
والحر: الأبيض من الحَيّات، والسِّلام: الحِجارة، وفي جمع دُجية دُجىً، يقول أميه بن أبي عائذ الهذلي:
فأسلكها مَرْصداً حافظاً ... به ابنُ الدُّجى لاطئاً كالطِّحال
جعله لكمونه في دُجيته واستتاره ابناً للدُّجى أي القُتر، وقد قال هو في كتاب الجيم: الدُّجية قُترة الرامي، قال كعب:
وهم بوِرْدٍ بالرُّسَيس فصدَّ ... رجال قُعودٌ في الدُّجى بالمعاول
وقول أبي عمرو: هي المُفاناة والمُساناة: يعني المداراة.
وإنما المساناة: المُساهلة، ومنه قول الشاعر:
إذا الله سَنَّى عَقْد شيءٍ تيسّرا
وجمعه بين المساناة والمداراة أقرب من جمعه بينها وبين المُداجاة.
التنبيهات على ما في نوادر أبي زياد
الكلابي الأعرابي رحمه الله، وإنما بدأنا بها لشرف قدرها، وسمو ذكرها، ونباهة مصنفها، وهو أبو زياد يزيد بن عبد الله بن الحر بن همام بن دهر بن ربيعة بن عمرو بن نفاثة بن عبد الله بن كلاب بن عامر بن صعصعة.
1- أنشد أبو زياد
إني إذا ما القوم كانوا ألوية ... والتبسَ القوم التباسَ الأروية
وفسر فقال: يقول: قد خَفّوا وهُزلوا وجهدوا حتى صار أحدهم كأنه أخف من لواء.
والأروية: الحبال واحدها الرِّواء. باقي هذا قول أبي زياد.
وقد غيّر الرواية وأساء في التفسير، وألحق فيه من عنده أخف واللواء ليس بخفيف. واللواء: علم الجيش، قالت الأخيلية: ومخرّقٍ عنه القميص تخاله وسط البيوت من الحياء سقيما
حتى إذا رُفع اللواءُ رأيته ... تحت اللواء على الخميسِ زعيما
وإنما رواية الرجز كما أنشدنيه أبو بكر محمد بن الحسين بن يعقوب بن مِقْسم عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب:
إني إذا ما القوم كانوا أنجيهْ ... والتبس القومُ التباسَ الأرشيهْ
وشدَّ فوق بعضهم بالأرويهْ ... هناك أوصيني ولا تُوصي بيه
فهذه الرواية الصحيحة، والأنجية: جمع نجيّ، وهو من قول الله عز وجل: (فلما استيأسوا منه خَلصُوا نَجيَّاً).
وقال أبو رياش: ) يقال للاثنين يتناجيان نجي والجمع أنجية، وأنشد:
بتُّ وبات الهمُّ لي نَجيّامُباشِراً ولم أبتْ قَصيّا مثلَ النجيّ استبرز النجيّا
وأنشد:
إني إذا ما القوم كانوا أنجية
وقال ابن الأعرابي: الأنجية: القوم يتناجون، واحدهم: نجي، وأنشد:
ظلّ وظلّت عُصَباً نحيّا ... مثل النجيّ استبرز النجيّا
نحيّا: بعضها مُتنحٍّ عن بعض.
وأخبرني أبو الفرج عبد الواحد بن محمد الإصبهاني عن أبي إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج في قوله تعالى: (فلمّا استيأسوا منه خَلَصُوا نجيّاً). المعنى: خلصوا يتناجون فيما يعملون في ذهابهم إلى أبيهم وليس معهم أخوهم، ونجيّ: لفظه لفظ واحد في معنى جميع، ويجوز: قوم نجيّ وقوم نَجْوى وأنجية.
قال الراجز:
إني إذا ما القوم كانوا أنجية ... واختلف القول اختلاف الأرشية
قال: ومعنى خلصوا: انفردوا وليس معهم أحد.
ورواية ثعلب: واختلف القوم.. وهي أشهر الروايتين. ورواية الزجاج: واختلف القول والمعنى واحد. وما اختلفا في اختلاف الأرشية وهو المعنى الصحيح وهو أشبه من رواية أبي زياد: اختلاف الأروية، بل هو الصحيح.
2 - وقال أبو زياد وقد أنشد لجميل:
تُماشين ذا الأرطى فلما قطعنه ... لخَرقٍ أمقِّ الشاطئين بَطينِ
الخرق: والجمع خروق ما استوى من الأرض واتسع، والأمَقّ: البعيد، وقد يقال للرجل والمرأة إذا كان طويلين: أمق ومقاء ولا أعرفه في الدواب، ولم أسمع أحدا يسميه.
فقوله: ولا أعرفه في الدواب، ولم أسمع أحدا يسميه يخيّل إلى سامعه أنه لا يقال. وقد قيل: روى جماعة من الرواة: أن امرأة من العرب سألت فلّ جيش عن أبيها، فقيل لها: ما كان راكباً؟ فقالت: شقّاء مقّاء طويلة الأنقاء. فقيل لها: نجا أبوك..
وأنشد مؤرّج:
من كل مقّاءٍ وطِرْفٍ هيكلِ
وأخبرني أبو روق الهزاني عن العباس بن الفرج الرِّياشي قال: قال الأصمعي: قيل لضرار بن عمرو: ما رأينا بني أبي أضبط لمسافة الإبل من بنيك! فقال: إني كنت أُكره نفسي على كل مقاء مُهرّشة الفخذين. قال الرياشي: أراد قلّة لحمها، والمقاء: الطويلة.
قال الرياشي: ورواه غير الأصمعي: لإكراهي نفسي على المق الطِّوال.
وقد جاء أيضاً في الكلاب . قال العجاج:
آنس سوّاس الكلاب مشقا ... صقباً حَنْبطى أو طِوالاً رشْقا
......خمساً ضاريات مُقّا