( وجدتها ... يا أرخميدس) نص قصصي للشاعر: مهتدي مصطفى غالب
وجدتها ..يا أرخميدس
نصٌّ قصصي للشاعر: مهتدي مصطفى غالب
في ليلة تائهة خيمت فوق مدن خريفية ممتدة على سفوح سلاسل جبلية كئيبة ، تنهزم أمام الريح و القهر ، شعرت أني بلا جثة !!
هزني الذعر هزاً عنيفاً ، كاد يطحنني بين فكيه ، تمزقت بين أكداس الشوق ، و كثبان القلق ..
- أين جثتي ؟!!
ابتسامة تهكمية ساخرة ، ترد السؤال معانقة حروفي و قلقي المريرين ...
- هل رأيت جثتي ؟!
حدق فيّ الرجل ذو الشعر المنحني كأنياب الذئب ، لحيته البيضاء المذهبة ، تلتف حول رقبته في طريقها إلى ظهره ، أمسكني من كتفي بقوة ، هزني مرتين ، و أشار إليّ بيده ..
- انظر ..ذاك الشفق الذي سيعانق يوماً الأفق الغربي ، تعلق بأهدابه الدموية الواقعة على الجهة اليسرى ، و ستصل إلى حيث أعتقد وجود جثتك ...
دفعني دفعة قوية ، فانطلقت بأجنحتي أعدو ، حتى وصلت إليه ، و التعب يرسل قناديل التبشير على جبهتي ، و رحت في سبات عميق .
أنينٌ يهزُّ مسمعي ، حشرات ... ديدان تتغلغل في جسدي ، تسري في عروقي كالدم ... بحرٌ لا شطآن له ، لا رمال ، .. تطفو عليه جثث بعدد رمال الصحراء ، و كلُّ جثة مغطاة بغشاء أبيض ناصع مزخرف بماء الذهب الأسود ..
- ما هذه الزخارف ؟! .. تشبه كتابات ما ... لأقرأ :
الاسم : قصة حبٍّ حقيقي
العمر:ست عشرة طعنة و ثلاثون جرحاً ..
المسكن : لا وطن ..
سبب الإقامة: حبٌّ بريء و طعنة في الظهر .
كانت عيون الجثة ترصد آلام الإنسان ، و شفتاها تمزق كلَّ التعابير و الخرائط ...
ألقيت يدي على رأسها ، حركتُهُ تجاهي ، جفلتُ حين تطاير البعوض و الذباب من الجرح الكائن على هيئة وردة قانية ، و سال الدم المتخثر فوق أصابعي
- هل رأيتِ جثتي ؟!
- من كان يرى ، ليس هنا !!
- أين ذهب ؟!
- كنا زهرتين شفافتين كالصفاء، ثم رحلت إحداهما نحو الحياة ..
- أين هو طريق الحياة ؟!!
- كان الشوق مستوطناً في جسد الأخرى ، الحالمة بعودة العصافير لبيوت الطين و القش ..
- ما هو رقم جثتي ..إن كنت قد رأيتها ؟!!
- كانت جميلة ، ينام في عينيها أكثر من مليون بلبل بريء فتضمهم بحنان و عفوية ..
- أعرف أنها كانت جميلة ! ، و لكن أين هي الآن ؟!
- أتى بومٌ تحميه حراب الشيطان ، حاملاً بين يديه هدية من الحبيب الغائب ، أسرعت لاستقبال الضيف ..
- أرجوكِ .. اخبريني .. هل رأيت الجثة خاصتي ؟؟
- و كان الخنجر يغوص في الزهرة للعمق ، و بدأت تتلون بالأحمر و الاغتصاب ، بينما الغائب تلون باللجوء ..
و عادت الجثة تكرر أنينها المتقطع ، تعبت من محادثتها ، اتجهت إلى أخرى و أخرى .... أعياني البحثُ ، فابتعدت إلى شبه جزيرة من الهياكل العظمية المتعلق بعضها ببعض ، و عيوني تسافر من جثة لأخرى ....
( ما الذي سأفعله ؟؟ .. عليَّ إيجاد جثتي ... و لكن كيف ... كيف ؟؟!!)
و فجأة قمت مسرعاً .. لأبدأ حمل كلّ جثة من الجثث ، و بعد تفحصها ، أضعها فوق شبه جزيرة الهياكل العظمية ، مرتباً إياها بشكل هرمي ، و الأنين المرتفع يتعدى السمع ، و في النهاية و التعب يمتصني ، و أنا أحمل الجثة الأخيرة على كتفي صاعداً بها إلى القمة ، و وضعتها على رأس الهرم و جلست لأستريح بخيبة أمل ..
( ماذا ؟؟!! ... جثتي ... جثتي ... إنها جثتي ... حبيبتي .. لكنها عارية من الغشاء الأبيض و الأرقام و الأسماء ..!! و الدمع في عينيها رياح عاتية )
- لمَ أنت عارية يا جثتي ؟؟!!
- الظلم كالحقيقة عارياً ..
- لمَ تبكين ؟!
- لقد انتصروا علينا إننا أبرياء ، أنقياء ، قُتلنا غدراً ، عُرينا غدراً ، حتى الشيطان رفض استقبالنا في جحيمه .. لا فرق عندنا .. المهم أن ننتسب لوطن .. وطن ما ليس إلا ..
- ما هذا الهراء !! أنا وطنك !
- كانت ثورتنا عظيمة ، جيش الجثث قوي بما يحمله من آلام و عذابات و قهر / كنا نريد وطناً صغيراً
- هل أعطيك غطاءً ... يبدو أنك محمومة
- متى كان الحقُّ و الشيطانُ يتحدان ؟! .. لقد كانت مكيدة كبرى ، حطمونا ، أذاقوا أجسادنا سياطاً من الرهبة و التآمر ، شربوا من دمنا فوق طاولات العربدة و المؤامرات ، لكنهم بصقوه لأنه ( حقير .. ملوث ) حاولوا محو الثورة من عقولنا ، كانت عملية غسل دماغ كبرى ..
- كفى .. كفى ..
- حتى لو عريتموني من كلِّ شيء ، حتى لو سلختم جلدي ، لا عليكم ... سأظل ثائراً ، أبحث عن وطن لي و لجميع المعذبين ...
شعرت بجلدي يتشقق ، يتفسخ ، ينهار مع لحمي ناشراً غطاءً فوق هرم الجثث ، لم يبقَ مني شيءٌ ، مجرد هيكل عظمي رافعاً يده الممسكة براية الثورة ، واقفاً بقمة هرم الجثث المطعونة و الملعونة .. حتى الآن