نَفس شارد:
صورة
...و
كانت تجلس على المقعد في الحديقة المقابلة لميناء البحر، في انتظار مجيئه
دفعت بعينيها إلى صفحة الجريدة ، التي كانت بين يدها:عناوين ،
تتناوح فيها أعين الوطن وتتجه مختلفة في كل العوالم الممكنة والغير الممكنة :تجربة
العنف / العرب والتعصب/ هل نحن في عالم مشوه/ تسونامي اليابان
و تحتها إعلانات بالزواج وأعياد الميلاد وفي الوسط الكثير من الوفيات
تحسست ساعة هاتفها الخلوي ، مازال على اللقاء بعضا من دقائق ..ربع ساعة ..بدقة
أكثر نصف ساعة كاملة
نعم ..بادرت بالخروج مبكرا لتأخذ نفسا طويلا يساعد رئتيها على إخراج هذا
المكتوم في الصدر ارتعاشا ..تذبذبا..وانتابتها رغبة في احتساء فنجان قهوة
*** ..
لم تعد تذكر كيف التقيا ..ربما تذكر ..بلى تذكر
تذكر الآن جيدا كيف التقيا..
كانت حروفها متشحة بالحنين إلى الوطن
قرأها بعمق وكانت هديته الأولى أحرفا من حب مرموز، تربة أطلسية بنية شهدت
ولادتهما ذات عام..
تحدث كثيرا عن مشاغبات طفولته ..عن "مول السفنج " وعن "براد الشاي " و "مقهى الغروب " و"حديقة الجامعة العربية "
وعن مدينة ساكنة في أسفل الجبل ،هناك
عن "الققنس " وكثير من الطقوس .
هي الآن تحفظ هذه التفاصيل القابعة في ذاكرتها وقلبها. تعرف أنه هو ولن يكون سوى هو..
فتحت شهيتها حروفه ، فتتها شظايا ، وأيقظت بداخلها ذاك الزمن الجميل والعابر كما ومضة: بصمات حبره ، قصائده ، ندفه التي من نار، مساءاتهما الملونة .
هي هكذا كلما مخرها الإعياء وتغلبت عليها نوستالجيا الشجون
مارست عاداتها القديمة
وتسكعت في الدفاتر تنشب الماضي
وتعيد إخراجه ، الماضي الذي انسحب منهما هكذا نعم هكذا
***
كان يظهر تأففه من هذه العادات التي تثقلها وجعا، فهو يريد لها أن تستمر
في صعود السلم ،ولكي تصل لا بد من رمي رداءة هذا التعب الذي يجلس بداخلها ، ..
وعدته أن تتخلص منها، وتقسم، وكان يرد :"أنت تحنتين كما دائما "
وعنادا تصر .."سترى"و..
ويأتي الصبح حاملا نفس الرائحة ونفس الألوان
ونفس الحنث..ونفس ابتسامته المنكسرة خيبة ..
كانت اللحظة في انتظاره ، عارية
من الميناءات البيضاء إلا من لوحة خشب من عرعار مسوس
تلفظها الأمواج
ويتبرأ منها زبد البحر
تذكرت صندوق العرعارالذي أهداه إياها خالها المرحوم "ياسين " صندوق جميل ، يمنح العين شهوة الكتابة .. ويغري بالسفر إلى
مدينة "الصويرة " مثلا لاقتناء كثيرا من العرعار
ثم ريثما تدخل صمتا موغلا في الصمت وتتنهد من الاعماق
عادت للجريدة متظاهرة ،لأنه وفي الصورة وفي الذكرى ويستمعان معا لشارل ازنفور يموسق كل الاجواء الجميلة ب
La boheme
La bohème, la bohème
Ça voulait dire on est heureux
عندما سمعت صوته
- سلام عليك
وابتسامة رائعة تلبس وجهه ويتسع لها أفق البحر والسماء وكل الفضاء
ردت
Bonjour
تأخرت ؟سألها
لا أنا أتيت مبكرا..
طلبا فنجانين من قهوة اقترح عليها شيئا آخر، ليكن عصير برتقال مثلا ..
قهقهت ضحكا وتجردا معا في هذه الموجة الهسترية من الضحك
قالت بعفوية
تذكرت " با عبد العاطي " نادل المقهى ..
حين طلبت منه يوما كأس عصير، أقسم أن لا يأتيني إلا بالقهوة
كان يخاف أن لا أسدد له ..كنا نهرب حين كنا طلابا إلى غاية حضور المنحة
نعم ..قال بحنان وآثار الضحك مازال مشرقا على وجهه:
"أنت مثلي مدمنة قهوة وجريدة وقصيدة عارية من همجية ووحشية الزيف والقهر.."
اغتنمت فرصة حديثه عن القصيدة ، وقرأت له آخر ما كتبت ، في انتظار مبسم
نـَفـَس رابع منه
:
"
إحساسك الإنساني الخالص وموائد حرفك النقي والذي نبتت عليها أجنة خضراء
أسقطت كل الأوراق التي رسمتني ذات يوم هباء
رسمتني لوحة خرساء..
تنفس اللون
تنقى من عتمة القهر
...غطته أوراقك
حنينك
وتلحف بجبتك الجميلة القطنية
واقسم أن يغنيك في كل المواسم
أيها الإنسان ""
وافترقا كل في اتجاه مختلف
هو/ تحمله صورتها العفوية وشفافية اللون الأبيض عطفا عميقا نقيا
هي/ تغتسل حناياها من كل القهر وتروي الواحات اليابسة منذ ألف عام
بوارفات من مواسم مطر لا تنتهي