قراءة نقدية وأدبية لقصيدة النثر : " قراءة في أنامل الحروف "
بقلم : للكاتب والناقد د. هشام البرجاوي
شعر : سفانة بنت ابن الشاطئ
حيازة أسلوب خاص بوصفه ختما دالا على هوية الكاتب، تُجسم أحد أهم المقاصد التي يتغياها الكاتب مهما يكن نوع الكائنات الإبداعية التي يخلقها. إن كان متداولا من وجهة نظر تقنية معبرة عن تحليل سوسيولوجي بارد، أن الاسم واصف للشخص و واسم له، فإن نفس الشخص يحظى، حينما يكون أحد حملة أعباء الإفراج الذاتي، بهوية إبداعية متفردة تتكثف في الأسلوب.
لم يكن تعليقا حارقا إذا، أو اختزالا وقتيا للياقة لحظات إنسانية متسارعة، أن يكتب الفيلسوف و العالم الفرنسي بليز باسكال : " الإنسان هو الأسلوب ". تتعدد تبعا للحالة الوجدانية و الحالة المجتمعية مواقع الإنسان، و تتعدد الإسقاطات الواقعية كي نردد في المحصلة الاستنتاج المحتم : " الإنسان الشاعر هو الأسلوب " ، " الإنسان الأديب هو الأسلوب "...
تلاطمت هذه الإرتسامات في ذهني خلال قراءة قصيدة " قراءة في أنامل الحروف " للمبدعة السامقة سفانة بنت ابن الشاطىء.
كأي نثر فني يمتح من استشكالات المُعاصرة الأدبية، نسج العنوان و النص، ضمن جدلية النحر و الجسد التي أتاحت لها المرأة محاصرة الأدب النسائي، صورة متناقضة كفيلة بالإحالة إلى مبتدأ لوحة شاعرية يكتنفها الصدق، فالكتابة عن العشق رص جمالي-استيطيقي للمتناقضات، تجريد للواعج القلب المائر، ايقاف شفاف و أنيق للتباعد العفوي بين منحنيات العاطفة.
باقتراض مشهد قارئة الكف المستمد من أعماق الأنثروبولوجيا الشعبية، تتبدى فرضية " الاستياء الحارق " بقوة، فاستخدام العرافة لا يحرر تلقائيا السراج الضئيل للأمل بقدر ما يعني رغبة السيطرة على أحداث المستقبل من خلال مكافحة الغموض.
هل هو الإيحاء الكولونيالي الذي تتسم به مشاعر المرأة الشرقية؟
هل هي بروتوكولات الظهور المتباطئ لسيدة الظل؟
محاولات الإجابة تنطوي على مجازفة سحيقة، ما يمكن أن نقدمه كإيضاح تالد : النص و العنوان يثبتان أن من يمارس استكشاف أغوار الكف : أنثى، حيث استهلت الكاتبة التنسيق الأخاذ بين آلام الماضي و تطلعات المستقبل :
تنثال الحروف بين الأصابع..
ترص الصفوف..
للعرض العسكري المهيب تستعد
فانطلقت حكاية أنثى...تتنفس تحت الماء :
تحتفي بيوم حزن جديد
اعتلى منصة الشرف..
التناقض كواسم مركزي للفعالية الإبداعية الحائمة حول العشق أو المحلقة به بارز عبر تشريف الحبيب و احتفاء الحروف – الكئيبة - باعتبارها مؤثثات المعتاد اليومي به رغم أنه مصدر ل : " يوم حزن جديد ".
مفردة " جديد " تنم عن الحزن المكرور، عن اصطباغ " الحروف المنثالة " بالضجر. استمزاج عنصر التكرار و عنصر التناقض يضفي على النص ترسيما واقعيا يثبت على حافة يوم متكدر " آخر "، نتيجة المقارنة المختصرة بين دلالات العنوان و دلالات نصه المتجمعة في قيام وصف فني شفاف و صادق لعشق جاثم على مرجح الواقع العاطفي.
من منظور تشكيلي، يجوز أن نشاهد امرأة تقمصت شفتاها ابتسامة شاحبة، ترتب بتؤدة عبارات قصيدتها بينما حديث البحر و المدينة مستمر في صخب.
هنيئا لك أيها الساكن هناك
ارتساماتك المكفهرة أيقظت المستحيل
و سرعت عملية الاحتراق
...
و استبدت قتامة الانطباعات
من المؤكد أن النقد يعارض الأحكام المعلبة، لكنه كان ظالما من لم يول مرونة المفردات و مؤداها الكوني الأهمية الفضلى، القابلية للترجمة قياسا إلى المفردات و التوليفات المستخدمة : الساكن-ارتساماتك المكفهرة-عملية الاحتراق-استبدت قتامة الانطباعات، فضلا عن القابلية للتجسيد التشكيلي المشار إليها في الفقرة التحليلية السابقة، تؤثث لقصيدة تنتمي باستحقاق إلى الكتابة الانطباعية المعاصرة أو ما نسميه عادة الأدب العالمي.
لن أُكثر الحديث عن الصدق كصفة مورقة ملازمة للنص،
فالبداية :
ارتساماتك المكفرة أيقظت المستحيل
و استبدت قتامة الانطباعات
متطابقتان.
إن استمتاع منطقة ما من هذا العالم بنور الشمس، يعني ضمن ما يعنيه، أن منطقة أخرى مسجورة بظلام قاتم، حيث لم تتوقف قبلات " تطييب الخاطر " رغم الأبدية الزائلة لبكاء المحاجر. تقول سفانة بنت ابن الشاطىء :
تنطلق المحاجر ببكاء مؤبد
تقطف زهرات من حديقة الخدود
دون أن تنسى الاستباق ( فيما يتصل برغبات الحبيب) كأحد الحراس الأوفياء لديمومة الحب الذي اختصرته ابتسامة ابتسمت بمفردها :
بعد أن ألغى من مهامه
حراسة الابتسامة البريئة
الصدق وحده يبدد الغموض، لذلك، لم يتبق لارتطام التساؤلات الأنثوية سوى أن يعتمل على هامش الزمن، ذلك المكان البعيد عن هرج الوجود.