مصطفى وهبي التل (عرار)
25 أيار 1899- 24 أيار 1949
ولدت في مدينة إربد شمال الأردن. والدي صالح المصطفى معلم سابق، رجل ذكي سديد الرأي، خفيف الروح قوي الأخلاق. عاش حتى ناهز المائة عام أو تجاوزها بقليل.
ورثت عن والدي ذكاءه وخفة روحه ولكنني لم أرث نشاطه أو صلابة عوده، فعشت نحيفاً عصبياً مسرفاً على نفسي ثائراً قلقاً لا أعرف الاعتدال ولا أطيق الاستقرار.
بدأت حياتي معلماً ثم تجولت في مدينة حماة والناصرة ثم دمشق حيث انتسبت فيها إلى جمعية البنائين الأحرار. وفي عام 1923 عينت حاكماً إدارياً لبلدة وادي السير قرب مدينة عمان وشغلت هذا المنصب لأربعة أشهر ثم انتهت بعزلي ونفيي إلى جدة، ومكثت بضعة أشهر في سجن مدينة معان قبل أن أرسل إلى العقبة ومنها إلى جدة.
لم يطل نفيي أكثر من سنتين عدت بعدها إلى الأردن وعينت حاكماً إدارياً في الشوبك ووادي موسى ثم عزلت من وظيفتي هذه بعد أقل من عام إبان الاضطرابات التي حدثت في وادي موسى، وما كان من ثورة الأهالي هنالك على الحكومة.
إن إقامتي في الشوبك كما في وادي السير على قصرها، تركت آثاراً قوية في شعري، حيث كنت أردد ذكر وادي السير حيث كانت لي معرفة ببعض الفتيات فتغزلت بهن في شعري، أما في الشوبك فكان شعري يتسم بطابع المرح وخفة الروح.
وفي عام 1927 اعتقلت مرة أخرى وكفت يدي عن العمل بتهم ثلاث: رفع شارة البلشفية، السكر في حانة عامة وهجاء أمير البلاد ورئيس النظار وحكومته والقانون "على ملأ من الناس "
وعدت إلى مهنة المحاماة إلى أن عينت "كبير المفتشين" بوزارة المعارف عام 1939، وفي عام 1942 عينت متصرفاً لمنطقة البلقاء ومركزها مدينة السلط فقضيت فيها أشهراً انتهت بعزلي وسجني.
وتكرر التعيين والفصل من الخدمة والسجن والإفراج طوال حياتي ومت فقيراً معدماً عن خمسين عاماً.
عملت أيضاً في الصحافة إذ اشتريت عام 1928 جريدة "الأنباء" من صديق لي مقابل مائة جنيه حررت له سنداً بها. وكانت الجريدة تتألف من صفحة واحدة كتب في أعلاها:
"جريدة تصدر مرة في الأسبوع إذا أتاحت لها الأقدار ذلك"
وقد نشرت في العدد الأول منها قصيدة الرصافي المشهورة والتي مطلعها:
يا قوم لا تتكلموا إن الكلام محرمُ
وقد اخترت لنفسي إسم "عرار" عندما قلت :
أرادوا عراراً بالهوان ومن يرد عراراً لعمري بالهوان فقد ظلمْ
وأن عراراً ان يكن ذا شكيمة يخافونها منه فما أروع الشيمْ
عشت حياتي كلها متنقلاً بين "خرابيش" النَّوّر والغجر، غير آبه لاحتجاجات العائلة وانتقادات المجتمع ومستقراً في عالمهم أريد لهم الحرية والعدالة الاجتماعية التي لم تتوفر لمجتمعي، فكأنني انفصلت عن محيطي الطبيعي لأكتب عنه من خارجه.
كان شعري بأكثره ثورة على الاضطهاد والظلم، لا فرق إن أتى من "القصر" أو "الحكومة" أو معتمدي دول الانتداب.
نماذج من شعري
يا أردنياتُ إن أوديتُ مغترباً
فانسجنها- بأبي أنتنّ - أكفاني
وقلن للصّحبِ : واروا بعض أعظمِهِ
في تلّ إربدَ أو في سفحِ شيحانِ
قالوا : قضى ومضى وهبي لطيتهِ
تغمدت روحه رحماتُ رحمانِ
عسى وعلّ به يوماً مكحلة
تمرّ تتلو عليه حزبَ قرآنِ
أين الندامى ؟ مضوا كلّ لطيته
وخلفوني بهذا الكوخ وحداني
فلا كؤوسٌ ، ولا ساقٍ ، ولا وترٌ
يشنف اليوم ، واويلاه آذاني
يا وحشة الكوخ ، أضفي فوق وحشتنا
دمعا نهلّه من سقف وجدانِ
فإنّ عبرتنا أودت بها نوب
كانت وما برحت تجتاح أوطاني
والصحب أضرب حتى عن إعارتنا
دمعا .تموح بقاياه بأشطاني
" لو كنت من مازن لم يستبح إبلي "
عرص من الشامِ أو عكروتُ لبناني
قالوا : تعاقرها ؟ قولوا لهم علناً
إني أعاقرها في كل دكانِ
قال الأطباء : لا تشرب . فقلت لهم :
الشّرب لا الطب عافاني وأبراني
عليّ بالكأس فالدّنيا مهازلها
طغت على الناس لكن شرّ طغيان
**
**
قالوا : تدمشق ، قولوا : ما يزال على
علاته إربدي اللون حوراني
**
**
إليك عنّي ألقابا وأوسمة
قد أرهقت بضروب الخزيّ عنواني
رأسي لربي ، وربي لن أطأطئه
ولن أذلك يا نفسي لدّيان
شمس العدالة لم تشرق على نفر
مؤلف من مخاريق وخرسان
فليتق الله بي شعب محبته
كانت وما برحت ، ديني وديداني
وليتق الله بي شعب وفيت له
حق الوفاء وبالنكران كافاني
على مذابح قولي : سوف أسعده
ضحيت عمري فلم يسعد وأشقاني
**********************
قالوا : تدَمْشَقَ ، قولوا : ما يزال على
علاته إربديّ اللون حوراني
قالوا : يحب، أجل ، إنّي أحب ... متى
كانّ الهوى سبّة يا أهل عمانِ ؟
-----------------------------------------
خداك ، يا بنتُ ، من دحنون ديرتنا
روحي فداء الخديد الأحمر القاني
أما هواك ، فلن تنفك جذوته
توري زناد تباريحي وأشجاني
يا بنت ، وادي الشتا صرّت جنادبه
ورجّعت جلهتاه الغرّ ألحاني
فلا عليك إذا أقريتني لبنا
وقلت : خبزتنا من قمح حورانِ
أما السّكاكر فلينعم بمأكلها
" صبري " و " مَنْكو " و " توفيقُ بنُ قطّانِ "
وليحيَ " لدجرَ " و " الكوتا " وطغمتُها
في ظلّ دوحٍ من اللذاتِ فينانِ
أما أنا والمناكيد الذين هم
قومي وصحبي وندماني وخلاني
فحسبنا نعمة الذل التي نخرت
عظامنا وأعزت أهل عمانِ
..................................
من قصيدة بين الخرابيش
ليت الوقوف بوادي السير إجباري
وليت جارك يا وادي الشتا جاري
لعلني من رؤى وجدي القديم به
أرتاد مسّاً لجنياتِ اشعاري
**********
بين الخرابيش لا عمري يضيع سدىً
ولا يضيق الهدى ذرعاً بأطواري
***********
بين الخرابيش لا عبدٌ ولا أمةٌ
ولا أرقاءَ في أزياءِ أحرارِ
ولا جناة ولا أرض يضرجها
دم زكي ولا أخاذ بالثار
ولا قضاة ولا أحكام أسلمها
ردا على العدل آتون من النار
ولا نضار ولا دخل ضريبته
تجنى, ولا بيدر يمنى بمعشار
بين الخرابيش لا حرصٌ ولا طمعٌ
ولا احترابٌ غلى فلس ودينارِ
*******
بين الخرابيش لا كذبٌ ولا ملقٌ
ولا وشاة ولا رواد اخبار
بين الخرابيش لا حبرٌ ولا ورقٌ
ولا يراعٌ ولا تدوين أسفارِ
ولا سفاسف كتْبٍ أذهبت عمري
قراءة بين تدوين واصدارِ
-----------------------------------------------------------------------------
بقايا ألحان وأشجان
ماذا على الناس من سكري وعربدتي
ماذا على الناس من كفري وإيماني
ماذا على الناس من قولي لهم : أحد
ربي ، وقولي لهم : ربي له ثان
ماذا على الناس من لهوي ومن عبثي
ماذا على الناس من جهلي وعرفاني
ماذا على الناس من جهلي ومعرفتي
ماذا على الناس من ربحي وخسراني
ماذا على الناس من صفوي ومن كدري
ماذا على الناس إن دهري تحداني
ماذا على الناس من فقري ، ومتربتي
ماذا على الناس من ضنّي وإحساني
ماذا على الناس من حبي مكحلة
بين الخرابيش أهواها وتهواني
__________________
ليلاي دنياي أحلام مجنحة
تطير بي في فضاء أحمر قان
يا ليتها حلقت ليلى بأجنحتي
إذن لقلت لها : طوباك جنحاني
إذن لزغردت يا ليلى وقلت لها :
مع السلامة إنّ الدرب سلطاني
قالوا : يحب، أجل ، إنّي أحب متى
كانّ الهوى سبّة يا أهل عمانِ ؟
أما هواك فلا زلت الحفي به
ولا أزال عليه الحادب الحاني
أما لياليك ، يا ليلى ، فقد سحبت
سود الليالي عليها ذيل نسيانِ
طيري غدا والسلوقيّ استجاب إلى
بياع عظمات يا ليلى تحداني
فهل عليّ وهذا ما منيت به
إن صحتُ ، يا كأس أنت الحادب الحاني
أما الشّباب فقد أودت بجدته
ليلاي ليلاي إرهاقات سجّاني
ليلاي! إنّ الخلابيس العتاة عتوا
على فراشي واستصلوا بنيراني
فربتي ، بأبي أنت ، على كتفي
إني على نفسه إنّي أنا الجاني
ما زال وادي الشّتا دفلاه مزدهر
مالي ومالكمو يا جيرة البان
أما هواك فقد شالت نعامته
وقد حططتُ بوادي السّير ركباني
ودع هواهم فما بالرقمتين هوى
وليس حبّ ذوي حزوى بإمكاني
أمّا أنا فالهوى العذريّ يكلؤني
وأعين الخفرات البيض ترعاني
** **** **** **
" لولا الهوى لم أرق دمعا على طلل "
ولا حننت إلى أطلال عمانِ
الحمد لله ليست مصر لي وطناً
وأحمد الله أني لست عمّاني
لا أنت منّي ولا أهلوك خلاني
ولا نداماك يا عمان ندماني
عمّان ! عمّان إنّ الكوخ قد عصفت
به الرياح فلست اليوم عماني
** **** **** **
يا ميّ ! وادي الشّتا صرّت جنادبُهُ
فطرّ شارب ذاك المجرم الجاني
ذاك الذي كان قلبي ، يوم كنت به
براً وكان عليّ الحادب الحاني
أيام كان الهوى العذريّ يكلؤني
وأعين الخفرات البيض ترعاني
يا ميّ ! دحنون وادي الحور حمرته
قد شابها ببياض طلّ نيسان
ناشدتك الله والأردنّ هل قبسا
خداك لونهما من لونه القاني
يا ميّ شبنا وما تبنا فهل نزلت
بما انتهينا إليه آيّ قرآنِ ؟
يا ميّ ! يا ميّ ! قد حال الصبا هرماً
إلى قذالي سبيلاً هيّنا داني
والنّفس تزخر بالآمال ساخرة
مما تبيته يا ميّ ! أحزاني
** **
يا حادي الركب ! قف واصمت على مضضٍ
فالركب تحدوه سعلاة تحداني
قفا بعمواس يا ابنيّ وانتظرا
لو ساعة فهوى وصفي تحداني
وسائلا كلّ ركب مرّ عن ولدي
وسائلا الركب عن ( دحنون ) أوطاني
ويسألونك عنّي ، إنّني رجل
طرد الهوى ، مذ براني الله ، ديداني
__________________
يا أخت " رم " وكيف " رم " وكيف حال " بني عطية "
هل ما تزال هضابهم شما وديرتهم عذية
سقيا لعهدك والحياة كما نؤملها رضية
وتلاع وادي اليتم ضاحكة وتربته غنية
وسفوح ( شيحانَ ) الأغن بكل يانعة سخية
أيام لم يك للفرنجة في ربوعك أسبقية
والعلجُ ما انتصبت له في كل موماتٍ ثنية
__________________
مالي وللشام ، لا " ضحل " بغوطتها
ولا شماريخها " كالهضب " شماءُ
عيناي ما استأنست فيها بآنسة
ولا استساغت بها مرآي حسناءُ
دمشق! يا جنة الدّنيا وشامتها
إن لم يكن فيك عن لمياء أنباءُ
فالقلب أشهى إليه منك بلقعة
من سهل إربد لا عشب ولا ماءُ
وكلّ عين " حزيم الظبي " قرتها
لا تستبيها رياض منك غنّاءُ
في غير وادي الشتاء في غير أربعه
ما تورف الظّلّ للأشواق أفياءُ
إنّ الهوى والجوى والوجد معدنه
مذ آنست رسّها بالقلب حواءُ
ملاعب خلدت أسماءها غرر
من شعر من علمته الشوق " زيزاءُ "
وكرم " جلعاد "ما بعد التي عصروا
" بالسلط " منها تلذّ الشرّب صهباءُ
*******************
يا شيخ ! ما العلم ؟ حسب المرء معرفة
أنّ الشفاه بوادي السّير لمياءُ
وأنّ وادي الشّتا حوّ جآذره
وأنّ مصطافها موآب أسماءُ
وأنّ للجهل فضلا لست صاحبه
بالعلم ، والعلم في عمّان أزياءُ
وأنّ آذان نوّاب البلاد سوى
عن الذي يقتضيه العلج صمّاءُ
مؤمل الخير من كف ترنحنا
صفعا ، حنانيك إنّ القوم أعداءُ
لو أنّ " برنيطة " كانت عمامتكم
لوظفوها ، ولم يخطئك إثراءُ
" مصائب الدّهر أنواع منوعة "
وشرّها أن تسود " السّت " سوداءُ
وأن ينير سبيل العلم إمعة
وأن تريك سويّ النهج عجماءُ
لا وجه للعدل والإنصاف في بلد
كلّ ابن أنثى بها : أمّار نهّاءُ
والعلم كالجهل ، إنّي قد شططت ، وقد
نسيت أن في فمي من راتبي ماءُ
__________________
يبكي ، فؤادي وعيني غير باكية
لا تبك ، يا عين خزي منك بكياكِ
ضاقت ضلوعي بهم ليس تحمله
شمّ الجبال ، ووجهي وجه ضحّاكِ
إن كان موتي بنفسي فهو أجدر بي
من أن أعيش وجدي ناشج باكِ
خلق جموح ونفس ملؤها صلف
لا تعرف الهون يا دنيا حديّاكِ
طوبى " لوادي الشتّا " والضاربات به
أطنابهنّ ، ألا يا نفس رحماكِ
ظننتني جرت عن طرد الهوى فإذا
هذا الذي خلته ، قد حرت ، إيّاكِ
" لولا الهوى لم أرق دمعا على طلل "
ولا بكيت على الأطلال لولاكِ
__________________
عفى الصفا وانتفى من كوخ ندماني
واوشك الشك ان يودي بايماني
شربت كأسا, ولولا انهم سكروا
بخمرتي وشقاني الصاب ندماني
لقلت, يا ساق, هلا و الوفاء كما
ترى تنكر , هلا جدت بالثاني
سيمت بلادي ضروب الخسف وانتهكت
حظائرها واستباح الذئب قطعاني
وراض قومي على الاذعان رائضهم
على احتمال الاذى من كل انسانِ
فاستمرأوا الضيم واستخذى سراتهم
فهاكهم, يا أخي , عبدان عبدانِ
وان تكن منصفا فاعذر اذا وقعت
عيناك فينا على مليون سكرانِ
********
اليكها عن أبي وصفي مجلجلة
أبا طلالٍ و ما قولي ببهتانِ