.. من (فقه اللغة: مفهومه - موضوعاته - قضاياه) لمحمد بن إبراهيم الحمد
نظام القرينة
قال الرافعي عن هذا النظام: وهو ما نسميه بالنظام البديع؛ لأنه في ظاهره نوع من الفوضى؛ وذلك أنهم يعتمدون في ضرب من كلامهم على اللمحة الدالة، والإشارة التي تقع موقع الوحي، وعلى أضعف أثر يشير إلى وجه الكلام ومذهبه، ويَهدي إلى طريق المعنى فيه، ثم يطلقون الكلام إطلاقًا غير مقيد بنظام، ولا متبع لطريق غيره من سائر الكلام؛ وذلك نظم ينفردون به، ولا تجد القليل منه في لغة غيرهم إلا حيث تصيب أدلة النبوغ في أشعر الشعر ومأثور المنثور.
وقد سماه علماؤنا (سُنَن العرب) وعقد الثعالبي على أمثلة منه القسم الثاني من كتابه (فقه اللغة) وسماه (سر العربية).
ونحن نرى أن هذا النوع لم يكن في اللغة إلا بعد أن انصرف العرب إلى صنعة الكلام، وهذبوا حواشيه، وبلغوا الغاية في تنميق الشعر وإجادته، وذلك قبل الإسلام بما لا يتجاوز مائة سنة على الأكثر؛ لأن التفنن في العبارات لا يأتي إلا من كمال صنعة الألفاظ، ولأن ما عرف للعرب من ذلك قليل في جنب ما أتى به القرآن الكريم، وهذا معنى من معاني إعجازه؛ إذ جعل من عبارته أزمة لعقولهم، فكان يلفتها فجأة عن المعنى الظاهر، ثم يبغتها بروح الكلام، فتكون لها بينهما هزةٌ من الطرب الذي ينشأ عن إدراك العقل لما ليس في مقدوره مع رغبته فيه.
ومن الأمثلة مما ذكره العلماء من سنن العرب التي يتحقق فيها نظام القرينة ما يلي:
1- مخالفة ظاهر اللفظ: كقولهم عند المدح: قاتله الله ما أشعره! فهم يقولون هذا ولا يريدون وقوعه، وكذلك قولهم: هَبِلته أمه، وثكلته، وهذا يكون عند التعجب من إصابة الرجل في رميه، أو في فعل يفعله.
2- الحذف والاختصار:فيقولون: والله أفعل ذاك، ويريدون لا أفعل، فيحذفون حرف النفي.
3- ذكر الواحد والمراد الجمع: كقوله تعالى: [هَؤُلاءِ ضَيْفِي] وقوله: [فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي] والمراد الجماعة.
4- ذكر الجمع الجمع والمراد واحد أو اثنان: كقوله: [إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ] وهو يريد واحدًا، وقوله في خطاب موسى وأخيه: [ارْجِعْ إِلَيْهِمْ] والخطاب لاثنين، وقوله في خطاب زوجتي النبي ": [إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا] وهما قلبان.
5- صفة الجمع بصفة الواحد: كقوله تعالى: [وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ].
6- صفة الواحد أو الاثنين بصفة الجمع: كقول العرب: ثوب أهدام، وجاء الشتاء وقميصي أخلاق.
7- الالتفات المعروف في البديع: وهو أن تخاطب العرب الشاهد، ثم تحول الخطاب إلى الغائب، وتخاطب الغائب ثم تحوله إلى الشاهد، وأن تخاطب المخاطب ثم ترجع الخطاب إلى غيره، نحو قوله تعالى: [فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ] الخطاب الأول للنبي" وصحابته، والثاني للمشركين.
8- الرجوع من الخطاب إلى الغيبة ومن الغيبة إلى الخطاب بدون تغيير في المعنى: كقوله تعالى: [حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ] أراد بكم، وقوله: [وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً] ومعناه: كان لهم.
وقد جاء ذلك في الشعر - أيضًا - كما في كتاب (الأضداد) لابن الأنباري.
9- أن يبتدئ بشيء ثم يخبر عن غيره: كقوله: [وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ] فَخَبَّر عن الأزواج بلفظ [يَتَرَبَّصْنَ] وترك [الَّذِينَ].
10- نسبة الفعل إلى الاثنين وهو لأحدهما: كقوله: [مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ] إلى قوله: [يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ] وإنما يخرج من الملح لا العذب.
11- نسبة الفعل إلى الجماعة وهو لأحدهم: كقوله: [وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا] والقاتل واحد.
12- نسبة الفعل إلى أحد اثنين وهو لهما: كقوله: [وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ].
13- أن تأمر الواحد بلفظ أمر الاثنين: كقول العرب: افْعَلا ذلك، ويكون المخاطب واحدًا، وكان الفراء يرى في أصل ذلك أن الرفقة عند العرب أدنى ما تكون ثلاثة نفر، فيجري كلام الواحد على صاحبيه، ولذا كان شعراؤهم أكثر الناس قولًا: يا صاحبيّ، ويا خليليَّ.
14- أن تأتي بالفعل بلفظ الماضي وهو حاضر، أو بلفظ المستقبل وهو ماضٍ، كقوله تعالى: [أَتَى أَمْرُ اللَّهِ] أي: يأتي [وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ] أي: ما تلتِ الشياطين.
15- أن تأتي بالمفعول بلفظ الفاعل: نحو: سر كاتم، أي: مكتوم، وأمر عارف، أي: معروف، وبالفاعل على لفظ المفعول، كقولهم: بيع مغبون، ويكون المعنى غابنًا.
16- وصف الشيء بما يقع فيه: كقولهم: ليلهم نائم، إذا ناموا فيه، وليلهم ساهر، إذا سهروا.
17- البسط، بالزيادة في حروف الاسم والفعل متى أمن اللبس بقرينة تقتضي ذلك: كإقامة وزن الشعر، وتسوية قوافيه، وعلى هذا قول بعضهم في صفة الظلماء:
وليلة خامدة خمودًا ... طخياء تخشى الجدي والفرقودا
فجعل الفرقد كما ترى، ثم قال فيها: لو أن عمرًا هم أن يرقودا.
يريد يرقد.
18- القبض محاذاة لذلك البسط، وهو النقصان من عدد الحروف: كقولهم: لاه ابن عمك، أي: لله، ودرس المنا، أي: المنازل، ومنه الشاهد النحوي:
درس المنا بمتالع فأبان ... فتقادمت فالحبس فالسوبان
19- الإضمار للأسماء والأفعال والحروف: كقولهم: ألا يا اسلمي، أي: يا هذه، وقولهم: أثعلبًا وتفرّ؟ أي: أترى ثعلبًا وتفر؟
والأمثلة على ذلك كثيرة جدا.