(3) التناظر الحزين
حملوا ربيعك أسكنوه لحده ... وأنا سكنت ضراعتي وشكـاتي
مأواك عاصمة الحنين أزورها ... فأغيب وسط ظلامها عن ذاتي
وأطوف روحا حلقت آلامها ... طيرا جريح الشدو والنغمـات
فـأنا غريب الطير ينفخ نايه ... في ظل دوح وارف الآهـات
لوحة فنية يرسمها الشاعر بكلماته، لوحة أبجديتها: الحزن، والبين. إنها تغريدة ألم، تبدأ بذلك الفعل الثقيل: "حملوا"، ويزيد من ثقل الفعل إسناده إلى واو الجماعة الدالة على تكاتف الجميع تكاتفا ضديا يؤكد الانفراد والوحدة الثقيلة. ويزداد النزف النفسي والروحي بمعرفة ماهية المحمول. ما المحمول؟ إنه الربيع!!
الربيع الذي وضع للناس بهجة عين وهناءة نفس صار هنا ثقلاً لا يطيقه واحد؛ إنما يتكاتف الجميع لحمله؛ إلى أين؟ إلى لحده!! ليته كان مقبرة فتفتح لتواري آخرين فيتجدد العهد به!! ليته كان قبرا يضم إليه آخرين لعلهم يؤنسوه بعض أنس!! لا.. إنه لحد. لحد سيضمه وحده، ثم يكون الصمت الدائم المطبق. وتزداد الأنة بإدراك أن هذا اللحد الموحش الكئيب هو السكن!! يا للعجب!! كيف يكون ذلك سكنا؟!! وهل سكينة الربيع في غيابه الدائم المنفرد؟!! يا لها من مأساة نفس!! ويا لها من إيحاءات ألفاظ مختارة بعناية المتذوق الشاعر. لقد تناغمت المتضادات، وصنعت انسجاما متميزا.
ويستمر عطاء الألفاظ الملهم؛ فقد سكن النصف الآخر الضراعة المتذللة؛ لكنه يعلم أنها بلا أمل؛ لأنه أردفها بسكنى الشكاية. الضراعة تذلل، والتذلل يقوم على احتمالية رفع الواقع؛ لذلك بذلت النفس تذللها؛ لكنها لم تحصل أربا ولم تحقق هدفا؛ فلم تجد أمامها إلا الشكاية للسكنى.
حملوا ربيعك أسكنوه لحده ... وأنا سكنت ضراعتي وشكاتي
مساحات جمالية أربع تجاورت فصنعت ذلك النغم الحزين. "حملوا ربيعك"؛ رَبِيع من؟ ربيع الشاعر. وهل يخاطب الشاعر نفسه؟ نعم. يخاطب الشاعر محققًا فن "التجريد" الذي يدل على تشبع الشاعر بِنَزْفِهِ إلى حَدِّ الانشطار والانقسام على الذات انقسامًا يمايز بين القسمين. ولماذا حملوا ربيعك؟ ليسكنوه اللحد المؤذن بالغياب الأبدي، الموحي بالعدم العيني وإن لم ينعدم الأثر. أمسك المعنى بعنان هاتين الجملتين؛ فالأولى سبب للأخرى، إنها مقدمة ونتيجة، إنه تمهيد وفعل. ثم...!! ثم يلتفت الشاعر إلى جزئه الآخر، جزئه المتبقي –فيجد نفسه أسير التذلل العقيم المفضي إلى قوقعة الشكوى الأبدية. إنه التفات جديد حققه الشاعر بين ضميري الذات الناتجين من التجريد وليد قسوة اللحظة الشعورية المعاشة.
أجاد الشاعر اختيار الألفاظ والأساليب؛ فقد ترك العطف في الشطر الأول -ولن نقول: لضرورة الوزن- بين جملتيه ليؤكد لهفة الجميع على إزهاق الجمال. ثم بدأ الشطر الآخر بالعطف بالواو التي وقفت كالحاجز الفاصل الذي يفصل الشاعر عنهم كما ا نفصلوا هم عنه. ثم وظف العطف توظيفا جميلاً حين عطف الشكاة على التضرع؛ ليفيد تعدد وتنوع حالاته النفسية، والذي بدأت بالتذلل الذي يحتوي على الرجاء واليأس معا، ثم خلصت لليأس وحده. وكما عشنا إجادته تلك نعيش إجادة أخرى له في استخدامه للضمائر؛ حيث "واو الجماعة" ضمير الغياب الذي يوحي بالتحقير لهم المتخذ مظهر غيابهم عن عينه وقلبه رغم وجودهم في اللحظة متلبسين بفعل يفعلونه.
ثم استخدم " كـ" الدال على الاستحضار الموحي بالتعظيم النابع من انفراد المحمول وتمايزه، كما أن استخدام ضمير الحضور يلائم الحمل لأن من يحمل لابد أن يستشعر المحمول ويشخص إليه. ثم يعاقب ضمير الغياب ضمير الحضور, وذلك عند دخول اللحد، وهذا يتلاءم مع غياب الكيان المادي؛ فقد صار "هو" بعد أن كان "كـ". ثم استخدم"أنا" الدال على انفصال الذات وتمايزها؛ ليؤكد عدم وجود المؤنس المعين، وليؤكد ضرورة تحديد أماكن الثبات عند المواقف الأليمة. ثم انظر واستجلِ جمال ضمير المتكلم المذيل بالشكاية والضراعة، وتساءل معي: ما حال من يمتلك الضراعة والشكاية؟! وانطلق مع تخيلك وتصورك لأقصى مدى يطيقه تصورك وتخيلك..!
وتأتي الأفعال ماضية لتصنع أساليب خبرية مفيدةً بثَّ الحزن وتأكيد وجود دواعيه، ثم تأتي حروف المد-رغم أن نغم الكامل لا يسمح بمدها- وقفات يمكن أن ينفث من خلالها زفراته ودموعه. وإذا كان نغم " الكامل" لا يعطي المد حقه إلا أنه بث طاقة دلالية لم يكن غيره يستطيعها، وذلك في " أسكنوه"؛ إذ يلجئنا النغم إلى إشباع ضم الهاء فينتج حرف مد يطيل الصوت مما يوحي بالفصل والقطع الملائم للانفصال الحادث بسكنى اللحد. ولم يقف عطاء نغم "الكامل" عند هذا، بل تعداه في اختيار نوع الضرب الذي لا يأتي تاما مما يوحي بتأزم اللحظة التي تجعل الإتيان بالضرب التام رفاهية لا تلائم أنة النفس وآهتها.
وتأتي الصيغ لتساهم في صنع سيمفونية التناغم والجمال، والصيغة الأوضح في ذلك صيغة" أسكنوه" التي توحي زيادتها بالإكراه والانفصال المتناغم مع السياق العام للانفعالات. ونختم جولتنا مع فيض هذا البيت ببيان أن التصوير فيه واضح؛ لأنه وليد الاستعارات المكنية الثلاثة التي يحتويها البيت. وأجدني مرغما على انتزاع نفسي من ذلك الفيض وإلا لن تأتي النهاية سريعًا!