جرس الألفاظ في أسلوب الحديث النبوي الشريف / بقلم محفوظ فرج إبراهيم
ــــــــــــــــــــــــــــــ
عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشد عليّ فيفصم عني، وقد وعيت عنه ما قال وأحياناً يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول)فتح الباري شرح صحيح البخاري ج2/ 17 صحيح مسلم بشرح النووي 15/17 مختصر صحيح مسلم 533
ــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ
هذا الحديث النبوي الشريف كما هو واضح لنا أنه جواب على سؤال عن الحال (كيف يأتيك الوحي) فالسائل يطلب معرفة الهيئة التي يرد بها الوحي عليه صلى الله عليه وسلم فالتركيب في أسلوب السائل إنشاء قائم على استفهام يدفع الجواب عليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خبر لينفتح على صورة فنية وفي ورود التباين الحاصل بين الإنشاء والخبر وهو مما يدخل في باب الحوار أيضا فان السرد في الخبر قد وضح الصورة جلية من حيث البنية الدالة في المفردة وعلاقتها مع المدلول فما تركته أجراس الأصوات في مخارج الحروف وتكرارها من حدود بَيِّنة بين صورة وصورة جعلت المتلقي في تشوق لمعرفة الحال التي عليها الرسول صلى الله عليه وسلم
وإذا كان السؤال عن حاله صلى الله عليه وسلم (كيف يأتيك الوحي ) فقد قدم السائل المفعول به المسئول وهو الرسول الكريم (كاف المخاطب) على الفاعل ( الوحي) لان بؤرة الحديث تدور حول حال المفعول به ومن ثم الهيئة التي عليها حال الفاعل.
انه استفهام حقيقي لا لبس فيه ولم يخرج إلى المعاني المجازية ولم يعرب دالا على الحدث؛ إن (كيف) تعرب حالا.
ولذلك انفتح جوابه صلى الله عليه وسلم على صورتين فنيتين بأسلوب الخبر
الصورة الاولى سمعية (أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس) وكان لمفردة (صلصلة[1]) ما يؤكد الصورة، ومدلولها في تركيب الجملة، والموسيقى فالمشبه في الصورة ليس له حدود محسوسة انه مجهول يصدر أثره صوتا (مثل صلصلة الجرس) وقد تقدم الظرف المنصوب (أحيانا)[2] على فعله المتعلق به (أحيانا يأتيني) وهو تقديم ما حقه التأخير توكيد بالقصر لأهمية الزمن و(أحيانا)في كل حروفها توافق بين الدال والمدلول إن بداية الجواب كانت بحروف الحلق ( الهمزة والحاء)
ففيها دليل على شدة الحدث وصعوبة تحمله ويلي هذين الحرفين حرفا المد الياء والألف وحرف النون كل ذلك يتفق مع المدلول قبل الدخول إلى الصورة التي تشير فيه المفردة(أحيانا) إلى العمق والانفعال وامتداد هذه الأعماق بشدتها في التواصل (مثل صلصلة الجرس) فتلك الصورة السمعية بما فيها من تردد واهتزاز هي توافق وانعكاس مع الحالة التي عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث الشدة والصعوبة التي نتج عنها (وهو أشد عليَّ فيفصم عني[3]) ثم لنلاحظ (صلصلة) كم هي منسجمة مع الحال التواصل الذي أشرب به وعيه ومضى إنها كلمات تشعرك أنها قد دخلت متتابعة متواصلة فوعاها واحدة واحدة وبعدها انقطعت
الصورة الثانية التي انفتح عليها صلى الله عليه وسلم هي بصرية ويبدو أنها بالنسبة للنبي الكريم فيها راحة وألفة، وليس فيها ما يسبب الرهبة ( وأحيانا يتمثل[4] لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول) وقد حصل في هذه الصورة حذف الفعل وبقي ظرف الزمان (وأحيانا) المتعلق بالفعل لأنه دل عليه دليل في المتقدم وفي هذه الصورة تجسد الملك، وشخص إذ أتاه الوحي من الخارج لذلك قال( فأعي ما يقول )
فلم يكن وعيه صلى الله عليه وسلم ماضيا كما في الصورة الفنية الأولى حين أشرب وأصبح ماضيا في كيانه في حالة الصلصلة (وقد وعيت عنه ) وقد مؤكدة لذلك فالصورة الثانية تأتيه من الخارج لذلك فهو يعيها أول بأول ولم يكن مضى وعيه (فأعي ما يقول) والمصدر الصريح ( فأعي) قوله لان (ما ) نوعها مصدرية وقد طابق المصدر المؤول الحال الهيئة التي عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم لان المصدر المؤول فيه دلالة على زمن الوعي[5] . ومن خلا ل ذلك نجد أن الصورة السمعية الأولى نقلت لنا هيئة الوحي والحال التي عليها الرسول الكريم حين يأتيه الوحي فيما ركزت الصورة الثانية البصرية على هيئة الوحي.
إنَّ البنية التركيبية للجملة الفعلية في الصورة البصرية تركت دلالات عدة من خلال الحالات التي يحتمل فيها إعراب (رجلا) / يتمثل الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول ف ( رجلا منصوب بالمصدرية أي يتمثل مثل رجل أو بالتمييز أو بالحال والتقدير هيئة رجل )[6] وفي الصورة الثانية (فيكلمني فأعي) إنها كانت على الترتيب في العطف بالفاء فالقارئ سيشعر بالسرعة في وعي الرسول للكلام الذي يكلمه به الوحي
محفوظ فرج /سامراء 1429هـ
ــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الصلصلة: صفاء صوت الرعد وقد صلصل ويصلصل الحلي أي صوّت وفي صفة الوحي كانه صلصلة على صفوان الصلصلة : صوت الحديد اذا حرك يقال صل الحديد وصلصل والصلصلة أشد من الصليل . وفي حديث حنين انهم سمعوا صلصلة بين السماء والأرض لسان العرب 8/ 272
[2] أحيانا :جَمْع حِين يُطْلَق عَلَى كَثِير الْوَقْت وَقَلِيله , وَالْمُرَاد بِهِ هُنَامُجَرَّد الْوَقْت , فَكَأَنَّهُ قَالَ : أَوْقَاتًا يَأْتِينِي ,
[3] الفصم : الكسر من غير بينونة والفصم بالفاء أن يتصدع الشيء من غير أن يبين
والانفصام الانقطاع وفي التنزيل العزيز ( لا انفصام لها ) أي لا انقطاع لها لسان العرب 9/ 189وهو أشده عليَّ: يُفْهَم مِنْهُ أَنَّ الْوَحْي كُلّه شَدِيد , وَلَكِنَّ هَذِهِ الصِّفَةأَشَدّهَا , وَهُوَ وَاضِح ; لِأَنَّ الْفَهْم مِنْ كَلَام مِثْل الصَّلْصَلَةأَشْكَل مِنْ الْفَهْم مِنْ كَلَام الرَّجُل بِالتَّخَاطُبِ الْمَعْهُود
[4] يتمثل : التَّمَثُّل مُشْتَقّ مِنْ الْمِثْل , أَيْ : يَتَصَوَّر . وَاللَّام فِي الْمَلَكلِلْعَهْدِ وَهُوَ جِبْرِيل , وَفِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ الْمَلَك يَتَشَكَّلبِشَكْلِ
[5] (وقد وعيت عنه ) ( فأعي مايقول) وَقَعَ التَّغَايُر فِي الْحَالَتَيْنِ حَيْثُ قَالَ فِي الْأُولَى " وَقَدْوَعَيْت " بِلَفْظِ الْمَاضِي , وَهُنَا " فَأَعِي " بِلَفْظِ الِاسْتِقْبَال ; لِأَنَّ الْوَعْي حَصَلَ فِي الْأَوَّل قَبْل الْفَصْم
[6] فتح الباري شرح صحيح البخاري م /2 ص20