( هل تذكرين ) ولوج في تفاصيل القصيدة ..للشاعر / عبد الرسول معلة
هل تذكرين
قصيدة من قصائد الشاعر العربي الكبير الأستاذ / عبد الرسول معلة ..
وهي قصيدة وجدانية جميلة ، جاءت في بنائها سهلة ، بعيدة كل البعد عن غريب الكلام
والألفاظ الوعرة ، حتى أن الشاعر في بنائه لهذه الرائعة ، لم يلجأ للإيغال في توظيف المجازات البيانية والصور المركبة المعقدة ، ولم يطرق باب فلسفة الصياغة ، ونرى أن ذلك يعود لأسباب
منها :
1. أن الشاعر أراد من هذه القصيدة أن تحمل لغة الرسالة ، لحبيبة لها مستوى ثقافي يتماشى مع المفردات التي تم توظيفها في القصيدة ، أي أنه كان حريصا ً أن تحمل القصيدة الفكرة المنشودة .
2. وربما أن الشاعر أراد من الغرض من هذه القصيدة ، أن تخاطب شريحة القراء على اختلاف مشاربهم الثقافية ، فأرادها سهلة بعيد عن الغريب وجزالة الألفاظ .
3. وقد يكون السبب أن القصيدة كانت وليدة دفقة شعورية ، حرص الشاعر على ترجمتها بصورة سريعة دون أن يمنحها التأمل والمراجعة ــ وهذا كان دأبه في كتابة قصائده ــ .
على أية حال ، القصيدة في سهولة ألفاظها ، جاءت رائعة ، بديعة في أسلوبها وهو السهل الممتنع ، مترابطة في مضمونها ، مباشرة في طرح مشاعر وأحاسيس نكاد نلمحها بين سطورها .
القصيدة :
هنا لا بد أن نقف عند عنوانها ( هل تذكرين ) ، والشاعر هنا أسقط علامة الإستفهام ( ؟ ) ، وهو الذي كان حريصا كل الحرص على التشكيل والترقيم ، ولم يسقط علامة الإستفهام سهوا أو غفلة ً منه ، فالمتتبع لشعر عبد الرسول يدرك ما نقوله ويعي ما نشير إليه .
فالتساؤل هنا استنكاري ، وهو تساؤل في حوار مبتور ، أراد الشاعر أن يطلعنا على صوته هو دون إظهار صوت الحبيبة ، فبقي صوتها محذوفا تقديره : نعم أذكر ..وهذا ما قام بالبوح فيه من خلال القصيدة ...كما سنرى .
وسمعْتُ هَمْساً في الدُّجى أتحُبُّني؟
ضـحِــكَ الـصـبـاحُ مـــردّداً أتحُـبُّـنـي؟
مطلع القصيدة جاء دون توطئة ، وجاء ولوجا في الموضوع دون تقديم وتهيئة ، وهنا نقف عن المفردة ( همسا ً ) ومدى ترابطها مع الجو العام المحيط بمفردة الهمس ( الدجى ) ، وهنا الشاعر ينقل لنا صورة بصرية غاية في الروعة ، فمن البديهي جدا أن يكون الحديث في ليل يحيطه السكون من كل أرجائه الهمس ، ورغم أن الصوت كان هامسا ، إلا أن أذن المحب قد سمعت هذا الهمس ، وهنا يتجلى كبرياء الشاعر ، حين يقدم لنا صورة الحبيبة التي تبدأ في البوح ، وفي هذا تناص رائع مع الشاعر نزار قباني في قصيدته الرائعة ( رسالة إلى حبيبي ) حيث نجد الحبيبة هي التي تبدأ في البوح تجاه الحبيب ، انظر إلى نزار ماذا قال :
متى ستعرف كم أهواك يا رجلا
أبيع ُ من أجله الدنيا وما فيها
وهنا يلجأ عبد الرسول في مستهل قصيدته ، بهمس الحبيبة ، وهنا الحبيبة تلجأ للهمس لسبيبن :
السبب الأول : وجود الظلام المحيط بهما والسكون الذي يسكن الليل .
السبب الثاني : هو حياء الحبيبة ، لأنها هي من بادرت للبوح .
إذا الشاعر لم يلجأ لهذا البيت جزافا أو لغرض في الكتابة وضرورة في البناء وبحثا عن موسيقى أو شرارة لإشعال قنديل القصيدة ، إنما هي صورة بصرية ينقلها لنا ببراعة المصور الحذق ، والفنان الملهم .
جاء السؤال في صدر مطلع القصيدة هامسا : أتحبني ؟
وهنا تأتي صورة جميلة ..حين أزاح وجه الحبيبة المشرق عتمة الليل ، وكانت هي الصباح المشرق ...ورددت سؤالها مرة أخرى وأخرى ..ولواعج الحب تحرك كوامنها ..: أتحبني ؟
عادتْ إلى الهَمْسِ الرقيـق وأسْهَبَـتْ
هلْ لي بغيرِكَ أن أرى العَيْشَ الهنـي
هنا لا زالت الحبيبة هي من تمسك ُ دفة َ الحوار ، ولا زال العاشق صامتا ً ، وهنا لو توقفنا عند المفردة (عادت ) نجد أن العاشقة قامت بالبوح وسكتت ... وهنا مفردة الفعل ( عادت ) تفيد التراخي ، أي أنها سألت وصمتت ..وبعد صمتها وانتظارها لجواب منه عادت وسألت مجددا ً ذات السؤال ، وهنا سبب عدم إجابة العاشق على سؤالها أنه كان يستلذ ُ في طريقتها في بوحها ، وكان يرصد ُ مفاجأة هذا الإعتراف ويتأمل في سؤالها وحديثها ..ويؤكد ذلك المفردة ( وأسهبت ْ ) أي أنها أخذت الوقت الذي رآه طويلا ً في حديثها وسط سماعه وإنصاته وشروده وتأمله ...
كيف لا وهي تردف ُ بوحها بحديث أعمق من تصريحها بحبها ، حين لا تجد في حياتها هناء ً بعيدا عنه .
وهنا كان لا بد ّ للعاشق ِ أن يخرج من صمته ، وها هو يبوح لها ، ما معنى الحياة دون حبك ، وكيف يكون للحياة قيمة ومعنى وأنت لست ِ فيها ، وهنا يؤكد العاشق أن هذا الحب قد أخرجه من ظلمة الحرمان ..
ولكن ..ما دلالة مفردات ( الدجى ، الظلمة ) في هذه القصيدة ؟
المتتبع لسيرة الشاعر يجد أنه كان رجلا رفيقا لليل ، وكان يجد في سكونه ملاذا ، فيه يقرأ ويكتب ويتواصل مع أحبابه ورفاق حرفه ، وبسبب الظروف البيئية التي كان يعاني منها من غياب التيار الكهربائي لساعات طويلة في الليل ، كان يشعر في وحشة ،وهذه الوحشة كانت تحول بينه وبين ما يسكن روحه .
هنا لا أدري لماذا شاعرنا لم يضع جملة ( والحياة ُ مريرة ٌ ) بين قوسين ، لأنها جملة معترضة ،! فالسطر الشعري يكون : حين التقيتك ِ فحلفت ِ لي وحلفت ُ لك ...
في هذا البيت الشعري ، ينزاح الشاعر عن غرضه الوجداني قليلا ، ويعرض مرارة الواقع العراقي الذي يعيشه والظروف القاسية ( الحياة مريرة ) ، لكنه سرعان ما يلبث أن يعود لموضوعه ، وينقل لنا حوارا جميلا وعهودا قطعها كل محب لرفيقه ، هي حلفت ْ له ..وترك موضوع قسمها ويمينها محذوفا تاركا ً أمر تقديره للقاري ء يستنبطه من السياق ، بينما هو حلف َ لها وأقسم أنها وطنه ، وهنا لا بد أن توقف قليلا :
عند اللقاء ، دار حوار ٌ بقي عالقا في ذاكرته ، أقسمت ْ له بصدق حبها له ، وأقسم َ لها أنه يحبها ، وهنا يربط بينها وبين وطنه ، هذا العاشق الذي تعلق في وطنه الجغرافي ، لكنه رغم حبه لوطنه وعشقه السرمدي له ، يعيش حياة قاسية أملتها عليه الظروف التي كان قدره أن يكون فيها ويتعايش معها ...ليجد في هذا الحب الإستقرار المنشود والراحة المبتغاة ..ما أجمل الحب حين تصبح الحبيبة وطنا !!
وهنا أراد أن يقدم لنا مدى تعلقه في وطنه ، ومدى تعلقه بهذا الحب لهذه الجميلة في تناص جميل بين المرأة الإنسان وبين المرأة الوطن .
هنا يقدم لنا الشاعر صورة جميلة لعشق ٍ مذهل ، هنا يرسم لنا صورة من صور اللقاء الذي ترك أثرا ً في وجدانه ، وهنا بتوظيف ( كم ) وهي هنا للتكثير ، يريد أن يقول : أن عدة لقاءات جمعت بين الحبيبن وكان يطيب ُ لها أن تتوسد َ ساعديه ، ودلالة مفردة ( نوم ٍ هني ) كناية عن الحالة النفسية السعيدة التي كلانت تسيطر على هذه الحبيبة .
هــل تذكـريـن ؟ فـكـم أتيْـتُـكِ طائـعـاً
وخـزائـنُ العـشـق الجمـيـل تلـفُّـنـي
كان يأتي للقائها بإرادة مطلقة ، يدفعه حبه الكامن بين جوانحه ، لم يكن وراء هذا الحب أي دافع غير الحب والرغبة في الدنو أكثر منها ، لم يأت ِ مكرها متكلفا ً ، فحين يكون دوافع الحب غير الحب ، يكون اللقاء باهتا لا روح فيه ولا حنان ولا دفء .
شرقـيـتـي هـــل تـذكـريـن؟ بـأنـنـي
في قلب عرش الحُبِّ أبني مسكنـي
وأقـمـت فـيـهِ معـبـدي وعـزفـت كــلَ
قصائـدي ورجـوْتُ كيمـا تسْكـنـي
هنا يتحدث ُ عن أمنياته ، ماذا قدم َ لها كي يظفر بها ، وتبقى معه ، أي أن الشاعر َ هنا يؤكد لنا أن العاشقين افترقا ، ولم ينجح ْ في لإقناعها أن تبقى معه في حياة كاملة الوصال والتلاقي ...
حتى أنه يقدم صورة لإنكسار الحبيب ( رجوت ُ ) ، يقدم لها الرجاء أن تقبل مشاركته عيشه ودوام وجودها المادي لا المعنوي الذي يعيشه هو فعلا .
في هذا البيت أراد َ أن يقول أن هذا العشق لم يكن سرا ً يعيشه ، بل إنه باح به لربعه وأهله قائلا لهم ، معبرا عن لواعج عشقه ، بل ، بوحه لم يكن همسا ً ، كان صراخا ً حتى يسمعه القاصي والداني ..هي حبيبته ..بل نراه يذهب أبعد من ذلك ..يخرج عن دائرة بوحه لأهله ، حين يرسم لنا شكل الحب بالإنسان الذي يسمع ويخاطبه في خطاب ٍ مجازي مذهل : أيها الحب هذه الفتاة هي حبيبتي ، وغيرها يا حب لن أعترف بك ..ولن أسمح لك أن تخترق وجداني حاملا ً لي فتاة غيرها ولن أرضى سواها ...أي حب ٍ هذا !!
هي رحلت ْ ..وهو باق ٍ على حبه ، متمسكا بها ، ودلالة رحيلها مفردة ( فتذكري ) ، فكيف له أن يطالبها أن تتذكر َ أنه يحبها وهي معه ..هنا الشاعر يقدم لها هذا البوح وما حمل من تفاصيل / ومدى تعلقه بها ، طالبا منها أن تتذكر كل هذا ...نعم هي تحبه ويشعر بحبها له ...
لكن أراد أن يؤكد لها ، رغم يقيني بحبك لي ، إلا أن هناك حقيقة لا بد أن تعرفيها ، أن حبي لك يفوق حبك لي ...وهي صورة غاية في الروعة والجمال اختتم َ بها الشاعر هذه القصيدة البديعة الرائعة .
قصيدة بما حملت من بوح ٍ شفيف ، وبناء ٍ مذهل ، وترابط جميل ، تبقى واحدة من روائع الشاعر العربي العراقي الكبير / عبد الرسول معلة ، فيها نقل صورة بصرية غاية في الروعة لقصة عشق ٍ بين عاشق ٍ وحبيبة ، ونقلنا من خلال شريط هذه القصيدة لمشاهدة مشهد جميل ، يشعرك َ بصدق حرفه ويقنعك بما يكتب ، ويدفعك للتأمل والسفر في روعة شعره وعذوبة صوره وجمال موسيقاه .
رد: ( هل تذكرين ) ولوج في تفاصيل القصيدة ..للشاعر / عبد الرسول معلة
مبدع دائما في استقرائك قرائح الشعراء أيها العندليب
سلمتم لنا وحفظكم المولى أبدا
هذا جهد من مآقينا في بؤبئها مكانه
لي رجاء عليكم لو تكرمتم أن تضعوا رابط النص الأساس ليتسنى لنا العودة إليه
لاسيما أنكم تنتقون جزء من النص في الغالب وتتناولونه ببديع بيانكم وتبيانكم الجميل
رحم الله الفقيد الكبير عبد الرسول وأسكنه فسيح جنانه
تقديري وتوقيري يسبقهما محبة كبيرة
أخوكم بتواضع