وثيقة في الهواء وبنودها الرامزة
بقلم : الناقد علوان السلمان
التجربة الشعرية محفز عقلاني للغوص في اعماق الروح الانسانية ومعالجة اليومي من خلال الشعر الذي هو جواز عبور الشاعر صوب المستحيل.. بتجاوز الواقع واعادة خلقه ابداعيا عبر الانزياحات الدلالية التي تسمح بالابتعاد عن الاستعمال المألوف للالفاظ وخوض غمار الاسئلة من اجل ايقاد شرارة الفكر.. وشحذ الذاكرة الجمعية لتحقيق الوعي الذي يعني الموقف الفكري الملتصق بالانسان عبر منظور واع للتجربة الشعرية التي هي(عملية الحياة والحركة العضوي باكملها التي تسير في الكون..) على حد تعبير هربرت ريد..
كون القصيدة الشعرية مغامرة الشاعر لحظة امتلاكه الوعي واتقاد وجدانه من اجل اختراق الافاق الزمكانية بصيغة دينامية متجاوزة للمألوف ومستنطقة للقيم الجمالية التي تحقق فعلها..وتوقع وقعها..
و(وثيقة في الهواء) المجموعة الشعرية المشتركة الصادرة عن دار جان للنشر/المانيا/2012 وهي تحتضن طيفهاالانساني بامتداد خارطة الوجد بدأ من حدقات العيون الباعثة لضوئها من الداخل ( ميسان ـ بابل ـ النجف ـ صلاح الدين) حتى (المانيا) ..
حيث الغربة الراقصة على خيوط الروح والفاظ شينوار..وهبوطها في احضان بغداد للتصميم بانامل سلام الطائي..مع مقدمة تأملية في بعض القصائد خطتها انامل الاعلامي ناظم السعود جاء فيها:
(ان التركيبة الجغرافية للشعراء بعيدة عن المركز او العاصمة وهم في جميعهم منتسبين او قادمين من المحيط (وهو توظيف مخفف للهوامش الجغرافية)ولنتعرف عليهم جغرافيا:
ـ حسين الهاشمي وعباس باني المالكي ومناضل التميمي (ميسان)
ـ ابراهيم الجنابي ورياض الغريب (بابل)
ـ فليحة حسن (النجف)
ـ رشا فاضل (صلاح الدين)
ـ شينوار ابراهيم (مغترب في المانيا)
ان هذه الترسيمة الجغرافية لم تأت جزافا او لانتماءات مناطقية.. لكن الفيصل هنا ( وجود تقاربات فنية ونفسية غالبة..) ص4..
فنصوص الشاعر ابراهيم داود الجنابي قائمة على امكانات تشكيلية لغرض تقديم نص بصري محسوس عبر خطاب سردي يتجلى بتشكيلته التي تحقق وظيفتها الاستقرائية..كونه يمتلك قدرة على تحقيق لحظته الفنية .. لحظة التوهج بعفوية معمقة..
بيني وبينك سندس من الق معلق على شرفات معمدة
في حضر السكون
بيني وبين الناس ترع يحفها الحنين الى خندق التاهة
حين يتدفق الالق في قوارير تزفها الالهة الى حصن..
يشوبها الشك
وعلى رنين المسائلة اقف مندحرا خلف جوقة الاسئلة /ص19
فالشاعر يشارك باحاسيسه مفردات الطبيعة بخطابية رومانسية مكتنزة بابنية الدلالة..والاشعاع الايحائي مع مشهدية درامية نابضة بالحركة..اضافة الى توظيفه الرمز للتعبير عن تجربته بتركيب لفظي مبني على مستويين متوازيين يكمن الاول في مستوى الحالة الشعورية والثاني في الصورة الحسية..
الشوط معتوه وارديتي لم تزل تنزف ما جرى….فدعيها
دعي لوم اسئلتي واختاري اردية من (ليليث)
كي نزفها لعروق دمي المنحاز الى مغارات سبي المفردات
العتيقة التي
تشرب من خوائها
سواحل من رماد /ص19
فالشاعر هنا يستحضر الماضي من خلال استدعائه(ليليث)الغاوية التي كانت تقف على باب معابد البابليين لتحقيق هدف معنوي من خلال التمثيل والمشابهة بالدلالة.. واحداث الترابط الجدلي بين الازمنة لتشكيل النص تشكيلا جماليا ومعرفيا ينم عن دلالة مفتوحة ودهشة متميزة برمزيتها وتوهجها اللفظي والتركيبي..
اما الشاعر حسين الهاشمي الذي حملت المجموعة عنوان نصه(وثيقة في الهواء) الحدث فيها ينمو بشكل تصاعدي ..كونه مشحون بطاقات دلالية تكشف عن تمرد الشاعر على التشرنق في فضاء المألوف.. والدال فيها يتجاوز المعنى المضموني الى المعنى الانفعالي..
الارجوحة التي اهدتني
الى غيمة
لم تزل تلوح
لملامح لا تعرف الاختباء /ص27
فالنص ينبثق من لحظته التي ينتزعها من سياقها الوجودي المضطرب باعتماد الانزياحات فيحقق المعنى بالفاظ محدودة تحتضن البنية فتشكل نصا يلملم فكرته المركزية المشبعة بالايحاءات..وتأويلاته المتعددة المنبثقة من ثنايا ضيق العبارة الشعرية..
لقد قدم الشاعر نصوصا متميزة بكثافة لغتها الدالة..الموحية..كونها تجمع ما بين المعنى الحسي والذهني في لمحة شعرية ذات اشعاع فكري متميز بكثافته وجماليته..اذ انه يرسم لوحته المشهدية المشحونة بتموجات الذات من اجل ديمومة العزف على اللحظات الحركية للحواس وتناغماتها المنسابة مع ايحاء اللحظة الشعرية..
فيما كانت نصوص الشاعر رياض الغريب التي تنم عن دلالة مفتوحة تجمع جماليات التخييل والرؤية لتحقيق الصورة (الفضاء المكاني المكتنز بالزمن)المحركة للخزانة الفكرية للمتلقي بحكم توهج الفاظها ووحدة موضوعها وعمق رؤاها وشفافيتها..
الاشياء باردة مثل حياتنا
الاشياء اريكة تراقبنا صباح اندلاعها بالحرائق
الاشياء نحن الان
الاشياء تطل على دفء مفترض
الاشياء انت مثلا
ترى بغلا تسوقه الحرب عنوة
لرابية تطل على احلامك المؤودة /ص41
ففاعلية الرؤية عند الشاعر فاعلة في ادراك الذات والذات الجمعي والاشياء ومستوى البناء الفني..لذا خرجت قصائده مازجة ما بين المشهدية والحدث..
اما التكرار الذي هو ترديد لفظي لازالة الشك..فهو هنا يشي بتواصل انثيالات الوجد الشعرية..
اما الشاعرة رشا فاضل فقد قدمت نصوصا وجدانية معبرة عن صدق التجربة التي مكنتها من استقصاء الجوانب البنائية والتعبيرية..
وجع العراء يفترش مداد الظل..
وثمة انت في الطرف الاخر من الجرح
تمكثين في النوم منذ ستة اعوام..
ستة جراح
تشتعل كل يوم في رماد القلب /ص51
فالقصيدة عندها تتمحور على الاستعارة كتقنية اسلوبية من اجل الارتقاء بدلالة النص الى المستوى الذي يحقق انزياحا في تكثيف الصورة
اما الشاعر الكردي المغترب شينوار ابراهيم الحاضر في وجوده الشعري..الغائب في اغترابه البعيد..فقصائده تقوم على وحدة الموضوع وقصر العبارة وتكثيف الدلالة..
الربيع…
يضمد بين احضانه
جراحا
تنبع من صدري
والريح
تعزف لحنا
بين شمعة امل
وآهاتي /ص64
فالشاعر يوظف الطبيعة الساكنة ويؤنسنها في بناء نصوصه الشعرية المتسمة بالعفوية المعمقة التي مكنته من النفاذ الى الذاكرة واعتماد التركيز والتاملية المكتنزة بالايحاءات والرموز التي هي خيار جمالي وتقنية فنية تنطلق من الواقع وتتجاوزه..فقدم صورا شعرية تميزت بكثافتها ودقة تراكيبها الدالة..
اما الشاعر عباس باني المالكي.. في قصائده المقطعية القصيرة جدا والتي هي كيان شعري قائم بذاته(جسده الايجاز..والمفارقة روحه) كما يقول الشاعر الانكليزي كوليردج ..
كون الشاعر يستنطق النص الذي ينتهي بها..وقد اعتمد لغة شاعرة خالقة لصورها التي تشكل قدرة التوصيل باختزال الوجود ونسجه في بناء تخييلي من اجل تحفيز الذاكرة على التشكيل البنائي المؤثر بايحاءاته وانزياحاته وطاقته التصويرية والدلالية التي تشكل الوظيفة الجمالية للتجربة الشعرية المغامرة..
1
الريح قضبان
انا عصفور
اتنفس الجذور
2
حاولت ان اطفيء
الشمس في النهر
احترقت اصابعي بالغيم /ص71
فالشاعر يجمع في نصوصه من خلال التكثيف والايجاز والاقتصاد في الالفاظ هموم الانسان المعاصر باعتماد الومضة الشعرية التي تميزت بضربتها المفاجأة ووحدتها الموضوعية المتداخلة في الفعل الاستدلالي.. ومن ثم الانفعالي .. كونها تقدم عالما مكتملا في تنسيقه الجمالي ..نتيجة اكتنازها الدلالي وعمقها الفني واتسام صورتها الشعرية بالتكثيف وصولا الى اقصر اشكال القصيدة التي تنقل موقفا شعوريا بعاطفة متدفقة..كي تخلق تكوينا تخييليا لاثارة التحفيز الجمالي في البناء الشعري وتحريك الفكر لمتلقيها..
اما الشاعرة فليحة حسن فقصائدها مشحونة بطاقة انفعالية متألقة مع عمق الرؤيا النصية المهيمنة والمشعة من جوانح النص.. وهي متميزة بتماسكها بحكم امتلاكها بنية حضورية تنحصر في علاقات ثنائية..
وكنت كما كنت دوما
احب حروفك واسعى اليها
……………………..
فيا صاحب روحي
ويا صوت صوتي
ويا انفراد النقاط على احرفي
الست تقول:
ستنزع عني شجوني /ص87
فالقصيدة عندها مكتنزة الدلالة تشي بتواصل انثيالات الوجد..كي تحقق لحظتها المتوهجة بعفوية معمقة..مع موسقة منبعثة من جوانح حسية موافقة لدفقات الشعور..عبر صور تتضمن الانزياحات الدلالية التي هي(اختراق الشعر للمألوف وانحرافه عن قانون الكلام..وضوابط القياس..)
اما التنقيط التقانة الفنية التي وظفتها الشاعرة لتجسيد لغة الصمت ذات الدلالات الموحية التي تجبر المتلقي كي يكون مشاركا في بناء النص.. كون (المتلقي ليس مستهلكا للنص فحسب بل هو منتج له ايضا)على حد تعبير رولان بارت..
واخيرا كان الشاعر مناضل التميمي خاتمة المجموعة اذ قدم نصوصا حلمية باعتماد اللغة الاستدلالية الشفيفة..والمستفزة للذاكرة..
حيث يصير الموت وصفة علاج دائمة
لك بعد الان ما ينبيء بوقوع فلواتك
فالصحارى..والبراري..والحضارات
اساطير ميتة /ص94
فالشاعر يمتلك رؤيا تسعى الى تثبيت الزمكانية ..اذ تنقله برؤاه وفق ذاكرة الاشياء ..باعتماد الخيال والمجاز واستنطاق المكان..
وبذلك كانت بنود وثيقة في الهواء الشعرية رموز تشتغل على واقعيات متشظية لملمتها نصوص تمتلك شعريتها وايقاعاتها الداخلية والخارجية فتحرك الفكر صوب التأمل والغوص في عوالمها..