ما تزال المحامية فدوى البرغوثي (أم القسام) تتذكر تلك الرسالة التي أرسلها زوجها مروان البرغوثي، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، الأسير في سجون الاحتلال، بعد شهر على اعتقاله الأخير، وخلال فترة التحقيق القاسية التي كان يتعرض لها، لتهنئتها بذكرى يوم ميلادها.
تلك الرسالة التي لم تخل من عبارات رقيقة، لم تكن تتناسب وطبيعة ما يتعرض له من قسوة وتنكيل.
وفدوى، ابنة قرية كوبر القريبة من رام الله والتي تربطها قرابة بعيدة مع مروان البرغوثي، لم تكن تعلم أنه سيأتي اليوم الذي يجمعها منزل واحد، بذاك الشاب الذي أحبت منذ كانت في الرابعة عشرة وكان في التاسعة عشرة.
لم تكن تعلم أنه يحبها، كما لم يكن يعلم هو أنها تبادله الشعور الذي حبسه أكثر من أربعة أعوام عندما اعتقل للمرة الأولى، إلا أن المفاجأة كانت قبل خروجه من زنزانته بأشهر قليلة حيث عبر عن إعجابه الشديد بها، ورغبته في خطبتها.
وتروي فدوى البرغوثي، عضو المجلس الثوري لحركة فتح، الحكاية بعد تردد بأن الوقت قد لا يكون مناسباً للحديث عن هذا الجانب من حياتها وحياة المناضل الأسير مروان البرغوثي "بحكم أننا أبناء بلد واحد وأسرة واحدة كنا على اتصال دائم .. كانت تربطنا علاقة ما، لم أكن أعتقد أنها ستتطور ذات يوم إلى زواج .. كنت أشعر بسعادة عندما أراه، لكنني لم أكن قادرة على تفسير تلك المشاعر في ذلك الوقت، إلا أنني أدركت لاحقاً أنني معجبة به وبشخصيته وربما أحبه".
وتردف "في تلك الفترة، وبينما كان في التاسعة عشر من عمره، أي في العام 1978، تعرض مروان للاعتقال الأول الذي استمر أربعة أعوام ونصف العام بسبب نشاطه السياسي ضد الاحتلال الإسرائيلي، وبينما كان في المعتقل أرسل لي يحدثني عن رغبته في الارتباط بي .. أدركت حينها أن ما كان يربطنا ليس إلا علاقة حب متبادل وناضج رغم عمرنا الصغير .. قبل ستة أشهر من خروجه من الأسر، وبينما كنت أعد نفسي لاستقبال نتائج الثانوية العامة أرسل إلى أهله ليحدثوني بأمر الارتباط بشكل رسمي .. وافقت بطبيعة الحال، إلا أن أسرتي، عارضت الأمر في البداية، لا سيما أن مروان رجل ذو مصير مجهول، كما كانوا يقولون".
وتضيف "كان أهلي يدركون أن زواجي من مروان قد يحرمني من العيش كبقية الفتيات باستقرار وهدوء، وقد يحملني مسؤولية كبيرة في حال اعتقاله أو تعرضه لأي أذى، خصوصاً بعد الإنجاب".
حب وإصرار
لم تأبه فدوى لكل هذا الكلام .. كانت تحب مروان وتريده شريكاً بغض النظر عما ينتظرها وينتظره، كانت ترى فيه شاباً طموحاً، والأهم أنهما يحبان بعضهما بعضا.. تقول "لم يكن احتجاجهم على شخصية مروان، فهو شاب محبوب في البلدة، لكن على ظروفه التي قد تضر بي كزوجة في المستقبل".
وتزيد "بعد خروجه من السجن، منحنا أنفسنا شهرين، للتأكد من مشاعرنا، فالأربعة أعوام التي قضاها في السجن ربما تكون كفيلة بتغيير أشياء كثيرة .. كان مروان صريحا جداً في هذين الشهرين، عبر لي عما كان يختزنه من مشاعر تجاهي، وأكدت له أنني أبادله الشعور، إلا أنه شدد على كونه لن يكون متفرغاً تماماً للحياة الأسرية، أي لي ولأولادي لاحقاً، وأتذكر أنه قال لي: وافقت عليَ وأنا داخل السجن، وكوني لن أتوقف عن النضال ضد الاحتلال الإسرائيلي، فقد أتعرض للاعتقال أو الاغتيال، وقد أقضي وقتاً طويلاً في العراء، أتنقل من مكان لآخر هرباً منهم، فإن كنت قادرة على العيش مع شخص مثلي فليكن، وإن كنت لست قادرة على ذلك فلك ما شئت، لابد أن نحسم هذا الأمر .. أتذكر أنني قلت له بالحرف الواحد "فلسطين مش إلك لحالك"، ومشينا".
خطوبة مع وقف التنفيذ
وتعترف فدوى، التي تؤكد أن لا تعارض بين عشق مروان لها ولأسرته، وبين عشقه لوطنه "كثيراً ما كنت أتذمر من انشغاله عنا، كونه كان يولي مسألة النضال السياسي وقتاً يفوق بكثير الوقت الذي كان يوليه لعائلته، لكنه كان يذكرني بالعبارة التي قلتها له أيام الخطوبة .. كان يبتسم في وجهي، ويقول "فلسطين مش إلي لحالي".
لم تشعر فدوى قط بأنها فتاة مخطوبة "انتخب رئيساً لمجلس الطلبة في جامعة بيرزيت، وشغلته السياسة عني تماماً .. أية فتاة تطمح لأن تشغل جل وقت خطيبها، إن لم يكن كله .. كنا نخرج سوياً، ولكن حتى في تلك اللحظات التي يحاول فيها جاهداً أن يكون خالصاً لي بحيث يعطيني كل أحاسيسه وأشغل كل أفكاره، كنت أشعر بأن ثمة هماً كبيراً يسكنه، يمنعه من النجاح في مهمته كشاب عاشق .. أنا لا أنكر أنه يحبني، بل يحبني كثيراً، لكن همه السياسي وانخراطه في النضال الوطني كان يحول دون أن نكون كأي اثنين مخطوبين، ويحبان بعضهما".
زفاف متقطع
في يوم الزفاف كانت قوات الاحتلال تطارد مروان بصورة متقطعة، أي بين فترة وأخرى، وبالتالي لم يكن يستطيع المكوث فترة طويلة معنا، وعلى الرغم من أن حفل الزفاف تم على ما يرام، إلا أنه لم يرافقني في التجهيز لهذا اليوم، كشراء الذهب أو الملابس، تقول فدوى، مضيفة "مروان حوّل عرسنا إلى مهرجان سياسي بالدرجة الأولى، فقد دعا الكثير من المناضلين للقدوم إلى قرية "كوبر"، وتم تنظيم مهرجان اشتمل على العديد من الخطابات والهتافات السياسية إضافة إلى بعض فقرات الدبكة والأغاني التراثية والوطنية الفلسطينية .. كان مهرجاناً وطنياً أكثر منه حفل زفاف".
وتتابع "تم الزفاف، وبعد أيام قليلة صدر بحقه قرار بالإقامة الجبرية، إلا أنه اخترقها بعد ثلاثة أشهر من زفافنا أو أربعة متوجهاً إلى الجامعة فما كان من قوات الاحتلال إلا أن اعتقلته لفترة قصيرة، وفي العام 1985، وبينما كنت حاملاً في شهري الثامن تم اعتقاله لستة أشهر .. خرج من السجن وكان عمر "القسام"، ولدنا الأول خمسة شهور".
الأبناء الأربعة
ولم يشهد مروان ولادة أي من أبنائه الأربعة (القسام، ربا، شرف، وعرب)، وتقول فدوى "القسام ولد بينما كان البرغوثي معتقلاً في العام 1985، وربا ولدت في العام الذي يليه بينما كان مطارداً من قبل قوات الاحتلال ويعيش في الجبال، أما شرف وعرب فقد ولدا في العامين 1989، و1990، حيث كان البرغوثي مبعداً.
وكانت فدوى تضطر إلى تركه والقدوم إلى رام الله للولادة، كي لا تفقد مواطنة الأبناء في الأراضي المحتلة، حيث كانت قوانين الاحتلال غاية في التعقيد بغية التخلص من أكبر عدد ممكن من المواطنين الفلسطينيين.
ولكل اسم من أسماء أبناء مروان وفدوى حكاية، فالقسام اسم انتسب إليه مروان منذ كان شاباً، حيث كان يناديه أصدقاؤه بـ"أبي القسام"، تيمناً بالشهيد عز الدين القسام، أما شرف فهو نسبة لصديقه الذي استشهد على مقربة منه في جامعة بيرزيت، شرف الطيبي، أما عرب، والذي ولد بعد أيام على اجتياح العراق للكويت، فكان بمثابة صرخة يطلقها مروان بأن اتحدوا يا عرب، هناك قضايا ملحة بانتظاركم كقضية فلسطين، أتتركون العدو الإسرائيلي وتنهمكون في حرب بعضكم بعضا .. في حين أن اسم ربا اقترحه أحد الأصدقاء نسبة إلى الربوة أي المكان المرتفع، حيث كان مروان يعيش في الجبال آنذاك.
علم مروان بقدوم ولده البكر بعد أسبوع من الولادة، وكان في تلك الفترة مضرباً عن الطعام كغيره من السجناء، احتجاجاً على المعاملة السيئة التي يلاقيها المعتقلون في سجون الاحتلال، أصدقاؤه أكدوا أن الفرحة لم تسعه في تلك اللحظات، حتى أنه بات يرش الملح في سماء الغرفة التي كانت تحتجزه وآخرين تعبيراً عن فرحته .. شاهد مروان القسام للمرة الأولى عندما كان الأخير في شهره الثاني، حيث قامت فدوى ورضيعها بزيارته في السجن .. شاهده من خلف الشبك والقضبان، وتساءل وقتها مداعباً: هل أنت متأكدة أن هذا الطفل الأشقر الجميل ولدي؟! .. لقد كان سعيداً للغاية وقتها.
ربما باتت الأسرة تأخذ من وقته أكثر قليلاً مما كان في السابق في البداية، إلا أن ذلك سرعان ما تغير مع انخراطه المستمر في العمل السياسي النضالي.
مروان الأب والزوج
وحسب فدوى، فمروان إنسان بسيط، وكأي أب كان يحب أبناءه، ويداعبهم، ويدرسهم، حتى أنه كان يتكفل بمهمة استحمامهم حين كانوا صغاراً .. مروان منفتح وفر لأبنائه قدراً كبيراً من الحرية، ولكن بضوابط، فهو إن صح التعبير "محافظ حر"، يواكب التطور ويتفهمه .. أبناؤه يحبونه كثيراً، ربما لأنه يمنحهم من الدلال ما لا أمنحه لهم، وعندما أبدي تحفظاتي على هذه الطريقة في معاملتهم، كان يرد عليّ بقوله "أنا آتي للمنزل ساعتين أو ثلاث ساعات في اليوم، ألا تريدينني أن أمنحهم محبتي ودلالي .. لم يكن على استعداد لإغضاب أحدهم، حتى وإن كان مخطئاً في بعض الأحيان .. كان ينبه المخطئ من دون عصبية أو عنف.. مروان هادئ بشكل عام".
وعن إيجابيات وسلبيات مروان البرغوثي كزوج وأب، تقول الزوجة "هو إنسان حنون ومعطاء إلى أبعد الحدود، يعطي من دون مقابل، يعشق أولاده كثيراً، ما كان يسبب بعض المشاكل بيننا أحياناً بسبب دلاله الزائد لهم، مرح، يحب الحياة، بسيط جداً، لا يخلق أية حواجز بينه وبيني أو بينه وبين أولاده، ورغم الظروف الصعبة التي يعيشها، إلا أنه كان هادئاً وصبوراً".
ورغم الاعتقال، ورغم الألم الذي حل بهما جراء الفرقة، إلا أن رسائل مروان لزوجته، والتي تحتفظ بها جميعاً، لا تخلو من عبارات غزل رقيقة، وأخرى تعبر عن مدى حبه واشتياقه لها، وعن ذلك تقول "هو زوجي، وكل حياتي، ومهما كانت الظروف صعبة، ومهما شغلتنا "السياسة"، يكون الانتصار في النهاية لإنسانيتنا".. وعن ذلك تقول "كان مروان يعبر عن عشقه بشكل عملي، لا بالكلام، عبر مساعدته المتواصلة لي، ودفعي للأمام في التعليم، وغير ذلك من الأمور الإيجابية .. اليوم وفي عيد الحب أقول له "اصبر .. نتمناك بيننا وإن شاء الله سيتحقق ذلك قريباً .. نحبك ونقتقدك جميعاً".