حكم فن الاقتباس البلاغي .. من "الإتقان في علوم القرآن" للسيوطي
من النوع الرابع والثلاثين: في آداب تلاوته وتاليه
***
فصل في الاقتباس وما جرى مجراه
1473 الاقتباس تضمين الشعر أو النثر بعض القرآن لا على أنه منه بألا يقال فيه: قال الله تعالى، ونحوه. فإن ذلك حينئذ لا يكون اقتباسا.
وقد اشتهر عن المالكية تحريمه وتشديد النكير على فاعله، وأما أهل مذهبنا فلم يتعرض له المتقدمون ولا أكثر المتأخرين مع شيوع الاقتباس في أعصارهم واستعمال الشعراء له قديما وحديثا.
وقد تعرض له جماعة من المتأخرين، فسئل عنه الشيخ عز الدين ابن عبد السلام فأجازه واستدل له بما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من قوله في الصلاة وغيرها: وجهت وجهي إلى آخره، وقوله: اللهم فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا اقض عني الدين واغنني من الفقر. وفي سياق كلام لأبي بكر {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون}، وفي آخر حديث لابن عمر "قد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة". انتهى.
1474 وهذا كله إنما يدل على جوازه في مقام الموعظ والثناء والدعاء وفي النثر، لا دلالة فيه على جوازه في الشعر. وبينهما فرق؛ فإن القاضي أبا بكر من المالكية صرح بأن تضمينه في الشعر مكروه، وفي النثر جائز.
1475 واستعمله أيضا في النثر القاضي عياض في مواضع من خطبة الشفا.
1476 وقال الشرف إسماعيل بن المقرئ اليمني صاحب مختصر الروضة في
شرح بديعيتة: ما كان منه في الخطب والمواعظ ومدحه صلى الله عليه وسلم ولو في النظم فهو مقبول وغيره مردود.
1477 وفي شرح بديعية ابن حجة: الاقتباس ثلاثة أقسام: مقبول، ومباح، ومردود:
فالأول ما كان في الخطب والمواعظ والعهود.
والثاني ما كان في القول والرسائل والقصص.
والثالث على ضربين:
أحدهما: ما نسبه الله إلى نفسه، ونعوذ بالله ممن ينقله إلى نفسه، كما قيل عن أحد بني مروان أنه وقع على مطالعة فيها شكاية عماله "إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم".
والآخر: تضمين آية في معنى هزل، ونعوذ بالله من ذلك، كقوله:
أوحى إلى عشاقه طرفه ** هيهات هيهات لما توعدون
وردفه ينطق من خلفه ** لمثل ذا فليعمل العاملون
قلت: وهذا التقسيم حسن جدا، وبه أقول.
1478 وذكر الشيخ تاج الدين بن السبكي في طبقاته في ترجمة الإمام أبي منصور عبد القاهر بن الطاهر التميمي البغدادي من كبار الشافعية وأجلائهم أن من شعره قوله:
يا من عدا ثم اعتدى ثم اقترف ** ثم انتهى ثم ارعوى ثم اعترف
أبشر بقول الله في آياته ** إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف
وقال: استعمال مثل الأستاذ أبي منصور مثل هذا الاقتباس في شعره له فائدة فإنه جليل القدر والناس ينهون عن هذا، وربما أدى بحث بعضهم إلى أنه لا يجوز.
وقيل: إن ذلك إنما يفعله من الشعراء الذين هم في كل واد يهيمون ويثبون على الألفاظ وثبة من لا يبالي، وهذا الأستاذ أبو منصور من أئمة الدين، وقد فعل هذا وأسند عنه هذين البيتين الأستاذ أبو القاسم بن عساكر.
قلت: ليس هذان البيتان من الاقتباس؛ لتصريحه بقول الله، وقد قدمنا أن ذلك خارج عنه.
1479 وأما أخوه الشيخ بهاء الدين فقال في عروس الأفراح: الورع اجتناب ذلك كله، وأن ينزه عن مثله كلام الله ورسوله.
1480 قلت: رأيت استعمال الاقتباس لأئمة أجلاء منهم الإمام أبو القاسم الرافعي، وأنشده في أماليه، ورواه عنه أئمة كبار. قال:
الملك لله الذي عنت الوجوه ** له وذلت عنده الأرباب
متفرد بالملك والسلطان قد ** خسر الذين تجاذبوه وخابوا
دعهم وزعم الملك يوم غرورهم ** فسيعلمون غدا من الكذاب
1481 وروى البيهقي في شعب الإيمان عن شيخه أبي عبد الرحمن السلمي قال: أنشدنا أحمد بن محمد بن يزيد لنفسه:
سل الله من فضله واتقه ** فإن التقى خير ما تكتسب
ومن يتق الله يصنع له ** ويرزقه من حيث لا يحتسب
1482 ويقرب من الاقتباس شيئان:
أحدهما: قراءة القرآن يراد بها الكلام
قال النووي في التبيان: ذكر ابن أبي داود في هذا اختلافا؛ فروى النخعي أنه كان يكره أن يتأول القرآن لشيء يعرض من أمر الدنيا.
1483 وأخرج عن عمر بن الخطاب أنه قرأ في صلاة المغرب بمكة {والتين والزيتون وطور سينين} ثم رفع صوته فقال: {وهذا البلد الأمين}.
1484 وأخرج عن حكيم بن سعيد أن رجلا من المحكمة أتى عليا وهو في صلاة الصبح فقال: {لئن أشركت ليحبطن عملك}، فأجابه في الصلاة {فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون}. انتهى.
1485 وقال غيره: يكره ضرب الأمثال في القرآن.
صرح به من أصحابنا العماد البيهقي تلميذ البغوي، كما نقله الصلاح في فوائد رحلته.
1486 الثاني: التوجيه بالألفاظ القرآنية في الشعر وغيره، وهو جائز بلا شك.
1487 وروينا عن الشريف تقي الدين الحسيني أنه لما نظم قوله
مجاز حقيقتها فاعبروا ** ولا تعمروا هونوها تهن
وما حسن بيت له زخرف ** تراه إذا زلزلت لم يكن
خشي أن يكون ارتكب حراما لاستعماله هذه الألفاظ القرآنية في الشعر، فجاء إلى شيخ الإسلام تقي الدين بن دقيق العيد يسأله عن ذلك، فأنشده إياهما، فقال له: قل:
وما حسن كهف
فقال: يا سيدي، أفدتني وأفتيتني!