[أنا لن أحبك فالطريق بيننا مغلق]
لم يعد في مقدور سعيد أن يستمر ،فقد أعياه جهد السفر إلى بلده التي تبعد مئة وخمسون كيلو مترا ، يقطعها ذهاباً وإياباً كل ثلاثة أيام أو أسبوع ، فهو لا يستطيع أن يتخلف أو يقصر في حق زوجته وأبناءه ، فليس لهم عائل غيره يعولهم ويرعاهم ، فالكلفة شديدة وكبيرة ، لذلك فهو يسكن مع اثنين من زملاء العمل بحجرة ويعيش حياة العزوبية . .. ألقت به الظروف فالتحق بعمل في إحدى شركات التعدين النائية عن موطنه بمئة وخمسون كيلومتر ومحافظة أخرى غير محافظته ، نظراً لعدم توفر سكن ملائم من قبل الشركة لكل العاملين ، كان على بعض العمال الذين لم يحصلوا على سكن بالشركة استئجار سكن لأسرهم ، لذلك فكر سعيد وقرر أن يحضر أسرته ليرعاها ويكون بجانبهم ، وبعد جهد وبحث أستطاع أن يحصل على سكن بعيداً عن المدينة ، أقل ايجاراً من شقة في المدينة ، فالقيمة الايجارية خمسة وعشرون جنيها فقط ، أما المدينة فالايجار يصل لمأتين جنيها ، وذلك لقربها من محطة القطار المخصص للعاملين لنقلهم إلى عملهم كل يوم أو ارجاعهم لمنازلهم ، صحيح ليس هناك مقارنة بين سكن المدينة وسكن القرى أو العزب ، لكنها وسيلة تجمع الأسرة وتحافظ على ربها من الجهد والتعب ... انتقل سعيد وأسرته إلى السكن الجديد بعزبة الفراعنة ، كان السكن يفتقر إلى الخصوصية حيث كان كل سكان البيت يستعلمون مرحاضاً واحد وحماما واحدا كلٌ حسب دوره ،، لكن كما يقال في المثل الشعبي ( يرميك على المر اللي أمر منه) أو كما يقال ( اجمز بالجميز حتى يأتيك التين ) ، هدأ الحال مع سعيد وانخفض العناء من على كاهله وبدأ يحس بالهدوء ويرعي أسرته وأحس بالإستقرار مع أسرته .......
@@@@@
كانت عزبة الفراعنة تعج بالغرباء الذين لجأوا إليها هروباً من الايجارات المرتفعة بالمدينة وقلة دخولهم وضعف مرتباتهم ، لكن العزبة ما زالت تحمل سمات الريف المصري في التألف بين أفرادها وإن كان أكثر أفرادها غرباء ، فتراهم في الصباح يخرجون أفواجاً وجماعات في الطريق ، لا تفرق بين أحد منهم ، فهذا من القاهرة وهذا من المنيا وهذا من بني سويف وهذا من سوهاج وهذا من أسوان ، ولا تستطيع أن تفرق بين مسلم ومسيحي ، يجمعهم طريق وهدف واحد ، كان ذلك في أوائل الثمانيات من القرن الماضي ، فترى الناس جميعاً كأنهم على ملة واحدة ودين واحد أو من عائلة واحدة ، حتى تسربت السموم إلى عقول الناس بعد مقتل رئيس الجهمورية الرئيس السادات على يد مجموعة أفراد من جماعة الجهاد والتكفير والهجرة ، وبدأت تصعد على السطح وتعلو على المنابر ناس ما هم بالدين من شئ ، وعلت نبرة التفريق والتقسيم فهذا مسلم سني وهذا مسيحي قبطي ، وهذا كافر ، وهذا مؤمن ،وراح يتفرقون وتصنف الناس أصنافاً وفئات ، وبالرغم مما قامت به أجهزة الدولة لدرء الفتنة الصاعدة كان هناك من ينفخ أسفل الرماد لتشتعل النار ، فقد اعتلى الهياكل بالكنائس واعتلى منابرها مجموعة من القساوسة راحوا يؤلبون الناس ويبثون في أذانهم السموم ، فبات الكثير من المسيحين ينفرون من المسلمين ويحذرونهم ،ولا يمشون معهم ويتجنبون مصاحبتهم ، حتى الأطفال باتت تلقن من أولياء الأمور ويرهبون من بعضهم البعض ، لكن سعيد كان ذو ثقافة واسعة واطلاع واسع واعتدال في العقيدة ، فظل كما هو لم يتغير ولم يطرأ عليه تغير ، بات سعيد يرى مالم يكن يره من قبل في الناس ، فكان سعيد من القلة القليلة الذين لم يغيروا من سلوكهم تجاه الأخر أو يهابه أحد من النصارى وليس هو محل شك عند المسلمين ، ولولا هذه القلة القليلة من أمثال سعيد لتفتت النسيج الاجتماعي والترابط المجتمعي الذي استطاع أن يحافظ على الخيط ولا يفلت من يده .....
@@@@@
ألقت الطريق بعادل في طريق سعيد والقدر جمع بينهما من غير موعد بينهما ، سرعانا ما تعارفا واطمئن كل واحد على الأخر فاتخده خليلاً له في طريقه .. كان عادل يعمل عاملاً حرفيا في أحد الورش بالشركة (مساعد سباك ) أما سعيد فكان رئيسا لمجموعة من الفنيين أيضاً بالشركة ، لقد توطدت العلاقة بينهما ،حتى بات عادل لا يشكو همه لأحد غير سعيد وأكثر الشكوى كانت من مشرفه الذي يعمل تحت أمرته ، وما يلقاه من تعنت وجهد في يومه ، يحاول سعيد أن يهدأ من روعة عادل ويشد من عزمه وأزره وأحيانا كان يجاريه عندما يجد عادل قد أعاد عليه ما حكاه بالأمس له ، فيهونعليه ويخفف عنه حتى أنه كان يتوسط له عند مشرفه إلا يشق عليه نظراً لضعف جسمه ....
تحسنت الظروف مع سعيد فانتقل مع أسرته إلى شقة جديدة ، ذات بناء حديث وبها حمام ومرحاض مستقلان ، بها ثلاثة غرف وصالة فسيحة ، بها شرفة واسعة تطل على خلاء أمامها لم يشغل بعد ، فباتت الشرفة لسعيد هي المتنفس له ، لأنه ليس رواد المقاهي ولا الجلوس في الطرقات ،فكان يقضي معظم وقته وهو جالس على كرسيه بالشرفة يطالع كتاباً في يده ،أو يستمع لكاست مسجل لأحد القراء للقرآن الكريم ، أو يشغل الترانزستير على موجة صوت العرب أو الشرق الأوسط ليستمع لكوكب الشرق أم كلثوم فقد كان يهواها ويحب أغانيها هي وفريد الأطرش ، فبعد أن يعود من صلاته بالمسجد تؤيه الشرفة أو يخلد للنوم أو يطلع درساً لأحد أبناءه ....
@@@@@
مضى عاماً دراسياً كاملاً على سعيد وأتت أجازة المدراس نهاية العام الدراسي ، والآن وجب عليه أن يفي بوعده لزوجته وأولاده ، فهي تريد أن تزور أهلها بالبلد وأولادها يريدون ذلك فهم لا يخرجون إلا لمدراسهم طول العام و سفرهم إلى بلدتهم هو متنفس لهم ؛ هيأ سعيد نفسه لعيش حياة العزوبية من جديد تحت وطأت الظروف ، ولحين عودة زوجته ، لقد علمت الغربة سعيد وجعلته لا يضام ولا يحتاج من يطبخ له أو يغسل له ملابسه المتسخة فكان يقوم على بنفسه بكفاءه ، كان الوقت الذي يقضيه سعيد داخل شقته وهو يقوم على نفسه كفيل أن لا يجعله يلجأ إلى الشرفة كثير كما كان في وجود زوجته ... لكن هذا استيقظ سعيد من نومه متأخراً وكان الجو حاراً شديد الحرارة والكهرباء مقطوعة في ذلك اليوم ففتح النافذة ليدخل بعض الهواء إلى الشقة لأنها بدون الكهرباء تكون الشقة كئيبة من شدة الحرارة بها ، فتح الثلاجة ليأتي بطعام الفطور فلم يجد بها ما يفطر به وعليه أن يخرج ويأتي بخبز وطعام ؛ اكتفى سعيد بكوب من الشاي وارتدى ملابسه وأقفل شباك شرفتة وخرج مسرعاً إلى المدينة قبل أن تشتد درجة الحرارة أكثر ليأتي بطعام يكفيه ثلاثة أو أربعة أيام على الأقل ، وعليه أن يستقل مركبة على الطريق ،والحرارة في ذلك الوقت ترتفع لتصل إلى ذروتها ، تكاد تقترب من الخمسين درجة مئوية ،نزل سعيد مسرعاً بعد أن أغلق النافذة وبخطى سريعة راح يعانق الحرارة ويلتمس الظل تحت الجدران ؛ كانت الشوارع تبدو خالية من المارة نظرا لشدة الحرارة ،فالكل قابع في الظل ، آل إلى أذن سعيد من ينادي عليه ويقتفي أثره ،أدار رأسه ونظر ..! فإذا بامرأة قد لفت جسدها بملائة وأخفت وجهها ؛ توقف يارجل أنهكتني خلفك .....
@@@@@
توقف سعيد والدهشة تملؤه ، قائلاً ؛ هل تقصدينني أنا ؟ ، المرأة : نعم أقصدك أنت ، وهل هناك من أحد غيرك بالشارع لأنادي عليه ؟ ، سعيد : تحت أمرك ، المرأة : سأخبرك بالأمر لا تستعجل ، سعيد : ما المانع أخبريني ؟ ، المرأة : سأخبرك عندما نصل المدينة بعيدنا عن الناس هنا ، سعيد : من أنتِ ؟ المرأة : قلت لك لا تستعجل وستعرف كل شئ عني وسر في طريقك ، سعيد : خيراً إن شاء الله ، المرأة : خيرا لا تخف يارجل !!، المرأة : موجهة كلامها لسعيد ، امضي في طريقك ولا تهتم بي خلفك وسأركب معك إلى المدينة ؛ التجم سعيد وكأن المرأة ألقمته حجراً في فمه وبدأ العرق يتصبب منه ودارت به الدنيا وتلفحته الظنون والهواجس مالذي تريده هذه المرأة منه؟، ..لم تمر غير دقائق معدودة حتى أتت المركبة التي سوف تنقلهما إلى المدينة ، أشار سعيد لقائد السيارة فتوقف له ، صعد سعيد السيارة وجلس بالمقعد الخلفي بها فلم يجد بالسيارة مقعداً خاليا غير هذا المقعد الخلفي ، وإذا بالمرأة تدلف خلفه وتجلس بجانبه على المقعد الخلفي للسيارة ؛ التصق سعيد بجسد السيارة يتجنبها بجوارة لكن المرأة وضعت جسدها كله في جسده ؛ تحنط سعيد في مقعده وهو يخشى أن يلاحظ سائق المركبة شيئا فتكون كارثة بالنسبة له ؛ مرت المسافة إلى المدينة على سعيد كأنها جمل فوق أكتافه ، وهو يتنظر الوصول في أسرع وقت ، وصلت المركبة المدينة ونزل سعيد وتبعته المرأة واقتربت منه وأمسكت يده بحرأة غير معتادة له ، قالت : دون أن تنظر نحوه أو عليه ، لا تذهب إلى أي مكان بل شق طريقك بنا إلى البحر ؛ لم يسئل سعيد عن السبب في ذلك ، بل مضى في طريقة وهي في أثر قدمه إلى البحر ، حيث تكثر الأندية والمتنزهات على شاطئ البحر، فهذه أماكن اعتاد الناس في هذه المناطق ارتيادها ، ينفثون فيها عن أنفسهم وخصوصاً في أوقات الصيف ؛ كان نادي التطبيقين أول نادي صادفهما في طريقهما ،وقد أتيح لسعيد الجلوس فيه وارتياده من قبل ، طاف سعيد بعينيه يبحث عن مكان ملائم يكون بعيداً عن عيون رواد النادي ، وقع بصره على مقعدين تحت شجرة فيكس يكثر فوقهما الظل فأوى إليهما سعيد وجلس وهي تتبعه ليسترد أنفاسه الهاربة منه .....
@@@@@
جاء نادل كفتريا النادي مسرعا إليهما حين رأهما ، مخاطباً سعيد : طلباتك يا باشا ؟، سعيد : اتين عصير مانجو من فضلك ، النادل : تحت أمرك يا باشا ، سرعان ما أتى النادل بالعصير وتركهما ، ما أن غادرهما النادل وأعطى ظهره لهما ، مدت يدها ببطيء ورفعت البرقع لتكشف وجهها لسعيد فقد ثبت سعيد عيناه في وجهها كأنه يتفحصها ، عاجلته بصوت رقيق إيه : عجبتك ..!! ، تبسم سعيد ابتسامة رقيقة والعجلة تأكله ليعرف عليها ، سعيد : نعم جميلة جداً ولا شيء ينقصك ، وقعت الكلمة عليها موقعا طيباً فأحمر وجهها أكثر وتبسمت ابتسامة عريضة وقد لمعت عيناها من الفرح ، قالت : أنا جارتك وتكاد تعرفني جيدا ، سعيد : كيف ؟ ،أنا زوجة زميلك عادل ، سعيد : عادل الخواجة ، قالت : نعم هو ، سعيد ،اسمك ؟ ، أسبلت أجفان عيونها : ماريا ، سعيد : اسم جميل وتشرفنا أسهلا وسهلاً بك ؛ ما الطلب أنتِ تأمري ، ماريا : طلبي كبير وعندك ، سعيد : عندي أنا ، ماريا : بعشقك بحبك ....!!! ، سعيد : لحظة صمت وهو ينظر إليها ولا يعرف كيف يجيب ويرد ؟ ، أعادة ماريا ما قالته له وبصوت أعلى من الأول حتى خشى سعيد أن يسمعها أحداً يكون بجانبه ، فراح يدور برأسه حوله من الخوف ، استجمع سعيد قواه التي تفصدت وقال سائلاً : يا مدام كيف تحبين رجل لم يلتقي بك من قبل وليس هناك تعارف بيننا ولم يدخل لك بيت ؛ فكيف جاء هذا الحب الذي فاجئتني به ؟؛ وعلى حين غرة من أمري ؛ ماريا : صحيح إنك لم ترن من قبل ولم تلتقي بي ولكني أرقابك منذ أن صعدت وسكنت هذه الشقة ، فأنت تجلس في الشرفة وأنا قصادك أنظر إليك واتطلع لك ولما وجدت أن لا مفر من وصالك ن اتخذت قرارا لأذهب خلفك وأعرفك بنفسي والتقي بك ، سعيد : هناك موانع بيننا يا ماريا ، أنت مسيحية وأنا مسلم ، أنت متزوجة وأنا متزوج وهذان أمران كفيلان بتفريقنا عن بعض ، ماريا : لا يهمني إن كنت مسلماً أو مسيحياً أو متزوجاً أو عازباً ، إنني أحبك يارجل ..أحبك ..أحبك ؛ سأبيع الدنيا كلها من أجلك وقد علا صوتها ، ثم غلبتها دموعها وبكت ...فإذا بسعيد يمد يده دون وعي ليضعها على فمها ويربت عليها لتهدأ ... انتفض سعيد وهبّ واقفاً وأمسك يدها ومشت بجانبه لا تدري أين يذهب بها أو يفعل ، وهو يقول في داخله ، أيتها المرأة الجنية ماذا تريدين من حبي ؟؛ اكشفي عما جئتِ من أجله غير هذا كي أستريح فلا تعانق الهلال والصليب بهذه,,,,,,,, الطريقة .....
بقلمي : سيد يوسف مرسي الجهني