تعلمت الإنسانية بعد الأربعين من عمرى . فلا تكن مثلى ولا تكن انطباعيا…
أحد إخوتنا الأحباش درجت على أن أحلق رأسي في صالونه ، منذ أن أتيت لود مدنى ولأكثر من عامين ، وقد شدَّني بكثرة احترامه لى وتقديره وتدليلى كلما ولجت صالونه وجلست أمامه على كرسى الحلاقة ، عِلماً بأننى لا ادفع له سِوَى (مَدَّتْ المِزَّيِّن) كما نسميها فى أدبنا الشعبى المحلى (رديئ الصُنْع).. وفى كثير من الأحيان كنت أتساءل عن لِماذا يعاملنى هذا الحبشى ، بكل هذا الإحترام والتقدير؟! وهو يعلم بأنَّ فعله لا ولن يجد طريقاً لقلبى المليئ بالعزة والكبرياء .. كنت أنظر له دائماً بتعالٍ وترفع واحتقار واعتبر ما يقدمه لى بمثابة (حقى عليه) وفى نفس الوقت هو (واجبه) الذى ينبغى أن يقوم به ، وكنت أنظر لكل ما يضعه من رتوش وديكورات وشكليات على وجهه على أنَّه مجرد (كِسِيير تلج) لا غير ، وأعاننى على هذا الفهم تلك الثقافة البِدائية الساذجة…
ثقافة الإعتداد بالذَّات البليدة والنتنة التى أودعتها فىّ مواعيني القبلية النتنة ، ( دار جعل) التى تجرى دمائها فى عروقى بألوان ومكونات شتَّى ، كدماء الأباطرة والقياصِرة والمِلوك دونما فعل مني ولا جهد….
وأنظر لنفسى دائماً بأننى ومنذ المِيلاد ، وُلِدت عزيزاً وإن كنت وضيعاً ، وولدت كريماً وإن كنت بخيلاً ، وولدت رفيعاً وإن كنت دنيئاً وتافهاً ، وولدت لأدوس على مكارم الأخلاق بجهلى ودونيتى دونما أدني شعورٍ بالذنب !!!
داومت على زيارة ذلك الحبشى لأكثر من عامين ، دونما أن تجد إنسانيته وأخلاقه الرفيعة وتعامله الحضارى معى أى احترام أو تقدير أو تقييم ، حتى دعانى ليلة أمس وبكل (أدب) لحضور احتفال (أسرته) برأس السنة الحبشية ..
ترددت بادئ الأمر ظنَّاً مِنِّى - وأنا المك نمر - أنَّ الرجل له حاجة عندى ويريد أن يغلفها ببعض المقدمات والرتوش..ولكننى فى النهاية وبعد إلحاح منه وإصرار وعدته بالمجيئ ، وكنت غير مهتم بالإيفاء بوعدى ، ولكنَّ فِعْل هذا الشاب الراقى معى جعلنى أُلَبِى الزيارة دونما وعَى مِنِّى أو إدراك..
وهناك في منزلهم الكائن بحى الحِلَّة الجديدة ، دخلت عليهم فى الموعد المحدد ، وفى النفس عِزَّة وكبر وعجب ، وفى بداية جلوسى معهم، كانوا يتحدثون فيما بينهم بالأمهريَّة التى لا أفهمها ، فطلبت منهم أن يتحدثوا بالإنجليزية أو العربية حتى أكون معهم فى دائرة الحديث ، فأومؤوا برؤسهم موافقين ، وبدؤوا الحديث بالعربية الفُصْحَّي وتغَنَّوا بها بلكنة رائعة وجميلة وتطريب عال واشباع للصوت لم أسمعه حتى فى غِناء أبى داؤود ، غنوا لإبراهيم الكاشف (رحلة بين طيَّات السِحاب) و(إنت وأنا) ، وغنوا لسرور (قائد الاسطول) وغنوا لكاظم الساهر (ضُمِيني) وغنوا لفيروز (شُفت البحر..) ومن بعد هذا انتقلوا لِلُغَناء باللغة الإنجليزية التى أعرفها فجعلونى بينهم كالأطرش فى الزَّفَّة ، غنوا لِــ دَيون سارلي(الأمطار المتساقطة) ولــ كرستيان ماكمان (تراتيل الفجر) ولــفرقة البِييتل (بياض الأشرعه) ولكرستوفر داسلى (العِشق الإلهى) ولِمايكل جاكسون (يوم جميل) ، ثم إنتقلوا للفرنسية وغنوا وتحدثوا بها وأنا خارج السِرب تماماً وهائمٌ بينهم ومشدوه بهذا الفن والجمال ، ثمَّ بدأ التعارف باللغة العربية الفُصْحى ، لاكتشف بأنَّ حلَّاق رأسى طبيب بشرى يحمل درجة الماجستير فى طب النساء والتوليد ، وكان يعمل طبيباً فى مدينة كسلا حتى أوقفته السلطات الأمنية بدعوى أنه معارض سياسى لدولة صديقة . علماً بأنَّ من كنت في حضرتهم هم أسرته الصغيرة المكونة من زوجته (آميل) والتى عندما استقبلتني بكل حفاوة والابتسامة ترتسم على شفتيها ، كنت انظر إليها على أنها مُومس وبنت شوارع فقط لأنها حبشية ، لاكتشف من خلال التعارف معها بأنها مهندسة زراعية وتجيد التحدث بأربع لغات من بينها الصينية ، وتتقن كل لهجات اثيوبيا ، وشقيقته الحسناء (نيبيين) طبيبة تحمل درجة البكالريوس فى الطب من جامعة أثيوبية ، وتعمل فى السودان ترزية (لتخييط ملابس الاثيوبيين الشعبية) وتجيد ثلاث لغات ، ووالدته التى كانت تعِدُّ لنا الطعام وتبتسم فى وجهى كلما دَخَلَت أو خرجت ، كنت انظر إليها على أنها قوادة حبشية ، اكتشفت أنَّها باحثة فى التراث الافريقى ، وتحمل درجة الدكتوراه فى الفلكلور من إحدى الجامعات الاثوبية ، وبناته الثلاثة اللأئي كُنَّ يتغنين بكافة اللُغَّات ، وفى كل ساعة يخرجن علينا بلِباس قوميَّة معينة فى إثيوبيا..
هُنَّ يدرسن فى مرحلة الأساس بمدارس ود مدني المختلفة !!!!!.
هكذا كان حَلَّاقِى (ْالحبشى) تِسْفَاااى ، والذى اضطر لتغيير اسمه فى السودان لــيصبح بقدرة قادر (إبراهيم (الخليل) لتسهيل تعامله مع السودانيين عُزَاز الأنفس خلدت فى أكثرهم القبلية والجهوية النتنة ، هكذا كان يتدفق وأفراد أسرته ، عِلماً وثقافة وإنسانية ورُقي وتسامح مع الآخر ، وتعايش وتَقَّبُل لأقدار الحياة وظروفها الغريبة والعجيبة وهكذا كنت أنا الجعلى الكِنانى القرشى الأزهر الأمهر الألمع الأعلم الأفهم ، ذِقَّاً مُنْتَفخاً بأمجادٍ من نسج خيال قبيلتى أقعدتنى فى سِنٍ مُبكرة عن الإقبال على نفسى لأعلمها واستكمل فضائلها ، وكفتنى متاعب البحث عن ذاتى وعن تحقيق مقصد الله فى خَلْقى وفى أن أكون إنساناً عَالِمَاً ومُهذَّباً وخلوقاً ومتواضعاَ مع أبناء البشرية جمعاء …… وأخيرا أحبتى نصحى لكم أبناء وطنى الكرام اخرجوا من دائرة الأنانية والقبلية النتنة والجهوية وعزة النفس التى ملؤها الغرور ولبس شيطانى ولا يكون أحدكم بتاع ( ناسات) كونوا إنسانيين فالإنسانية السمحاء هى ضمير الحق . فكانت الإنسانية مطية رسول الله صلى الله عليه وسلم لقلوب الناس . (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ) صدق الله العظيم .
وشكراً لك دكتور تِسْفاى على هذا الجمال والسِمُو والتواضع . والتحية لكل عظيم فى ثوب متواضع جميل .
آخر تعديل سرالختم ميرغني يوم 05-08-2019 في 03:59 PM.
التعلم من التجارب الإنسانية ممتد حتى اللحد
نتعلم باستمرار كيف نتعامل مع الآخرين في هذه الحياة
وليس هناك قاموس أو محددات تضع لنا أطرا تقيم هذا التعامل سوى إنسانيتنا
والانطباع في هذه الحالة يجب أن يكون اخبتاريا وليس تصوريا قبل التجارب.
هذا أمر صعب جدا، في خضم هذه الحياة المادية المحفوفة بألهيات الشيطان حولنا.
شكرا لكم موضوعكم الثر والجميل
محبتي والاحترام وكل عام وأنتم بألف خير
التعلم من التجارب الإنسانية ممتد حتى اللحد
نتعلم باستمرار كيف نتعامل مع الآخرين في هذه الحياة
وليس هناك قاموس أو محددات تضع لنا أطرا تقيم هذا التعامل سوى إنسانيتنا
والانطباع في هذه الحالة يجب أن يكون اخبتاريا وليس تصوريا قبل التجارب.
هذا أمر صعب جدا، في خضم هذه الحياة المادية المحفوفة بألهيات الشيطان حولنا.
شكرا لكم موضوعكم الثر والجميل
محبتي والاحترام وكل عام وأنتم بألف خير
************************************************** ***********
شاعرنا ألبير أدرى منا بالإنسانية لأن الشعر فرعٌ منها . تحية رمضانية لإطلالتكم دام مداد القلم .
قال شاعر :
لا تحقرنّٓ امرءًا في صغارته ،،، إن البعوضة تدمي مقلة الأسدِ
ومثل ذلك نظرة خاطئة للآخرين ، وانتقاص من قدرهم .
قصة فيها من العبر والعظات الكثير .
شكراً للنقل ، وحسن الانتقاء الذي يشي باضطلاع جيد ،
وذائقة أدبية طيبة .
كل الشكر والاحترام