أذكر أياما جميلة - لا أعادها الله علينا - تعرفت فيها إلى أخي الظريف جدا أبي الوليد محمود برعي الأسواني في زنزانة 10 عنبر 4 بمعتقل وادي النطرون بالصحراء الغربية فى عام 1997 على ما أذكر..
وكان (البرعي) - على قلة حظه من التعليم محباً للشعر .. ممجّداً لعصره العباسي .. حافظاً لدرره .. مما جعله لا يتذوق ما يقع دون ما يحفظ ، ففاته خير كثير بإهماله لشعري المنمق والذي لا يخلو بيت منه من خطأ ايقاعي أو بلاغي في عين برعي.. وقد كان كذلك .
المهم .. بعد أشهر قليلة من قدومه القسري الى زنزانتنا أفل نجم برعي.. ورويدا رويدا تحول برعي النشيط من جذوة مضطرمة إلى كومة مهملة في أحد أركان الزنزانة ، عرفنا فيما بعد أن مدة صلاحيته فى أي زنزانة جديدة لا تزيد غالباً على شهرين ، بعدها يكون غير صالح للاستهلاك الاجتماعي ..
وكان لابد له من زنزانة أخرى ووجوه جديدة لتدب في برعي حياة المرح الموسمية والتي سريعا ما يعقبها الجفاف الاستوائي المُبير ..
وبالفعل كان الفراق .. ذهب برعي بعيدا عنى ، ولكنني لم أعدم وسيلة ( سرية طبعا ) في الاتصال به لأنه احترمنى يوما فقال قولته المحفوظة ( الشاعر ابن برعي والوزّان ابن سالم ) طبعا لم ينس نفسه لما أرد أن يُطرينى بقولٍ ، فامتطي هو صهوة الشعر وأردفنى خلفه مجرد وزّان ..!
فعقبت -حسرة وأسى -بالبيت الدائر وقتها :
لا تشمئز إذا زُنبِقتَ يومئذٍ .: وابغ السكاسك إن الذُنْب مرتجعُ .. (1)
المهم .. كانت شهادته بعبقريتي الموهومة فى الوزن تعنى إعطاء الضوء الأخضر لإخوانه الصعايدة وغيرهم من المتشاعرين المبتدئين (ليزنوا أبياتهم عندى ) وشعرت بالزهو إلى درجة العُجب لكثرة الوافدين الراغبين في تصحيح الأوزان .. فكنت - إذا شممت رائحة اعتراض من أحدهم على تقويمي له - أقول لهم بزهوٍ واختيال ومتكئا على مقولة برعي :" اللى مش عاجبو يروح يوزن برّه "... مع العلم أنه لامعنى في المعتقل لكلمة ( برّة ) لأن (كلو جُوّه )..
بعد ذلك جعل من حولي يرددون هذه المقولة في كلامهم ، حتى وإن خرج كلامهم بعيدا عن الشعر والوزن وبرعي .. يعنى صارت قولا دائرا ..
... بعد حين من الدهر عاودني الحنين إلى الأيام البرعية الصاخبة .. وبدا لي أن أكتب أبياتا لبرعي أعبرله بها عن مدى شغفي بعهده الدارس وحنيني إلى أيامه الخوالي .. فكان مما قلت له ومما أذكره ::
لحُبكُمُ - وعمرو الله - نافعْ .:. ومن دعواتكم تُرجَى المنافعْ
وقد قفزت محبتكم لقلبي .:. كما قفزت إلى الماء الضفادعْ
وإن ودادكم يرعى فؤادي .:. كما ترعى البهائم في المزارع
وهذا وصالكم يجري بجوفي .: كجرى الفحل لا يردعه رادع
فزيّن قلبنا بجميل ودٍ .:. كما ازدانت على الحُمُرِ البرادعْ
وقد يشبع فقير الحي لحما .:. وإني في هواكم محض جائع
وقلبي إذ يفارقه هواكم .:. كمثل السوق من غير البضائع
وإن الوجد ينفث فى هواكم .:. دُخَاناً مثل أدخنة المصانع
مدحتك في كلام لا يُضاهَى .:. وتعجز عن معانيه المجامع
:
:
: إلى :
: أن :
: قلت :
:
:
أبث أبا الوليد إليك شعرا .:. كورد النيل معدوم المنافع
فإن تكُ قد رضيت به لتسمع .:. وإلا فلتسد له المسامع ..
بعد أيام جاءني رد برعي على قصيدتي الشمطاء في مدحه .. يقول في مطلعها :
سمعت قريضكم بل خير سامع .:. وأعجبني الضفادع والبرادع ..
ومن أسف .. كان هذا هو البيت الوحيد الذي اختطفته من القصاصة التى أرسلها لي برعي ..
فقد جاء في إثر رسالته تفتيش مفاجيء من القوة الضاربة بالسجن ، أهلك الحرث والنسل ، ولم يبارح زنزانتا حتى جعلها قاعا صفصفا لا ترى فيها عِوَجاً ولا أمتاً ..
تماما مثلما يحدث في كل مرة ..
منذ 22 عاما لا أعرف شيئا عن برعي ..
(محدش شاف برعي ؟!)
___________
(1) أعياني الوقوف على قائل هذا البيت ، وأيضا تحرير معناه على وجهه الصحيح ، إن كان له وجه ... اشتهر بيننا زمنا وكنا نهرف به في أية مناسبة كموطن يحسن السكوت عليه عند انهاء الكلام في امر ما ... ولا أدري هل هو من قولي أم من منقولي ...
حكاية جميلة رغم ما ألـمّ بها من متاعب وعناء
تجذب القارئ وتجعل الأحداق تراقب أحداثها بمتعة
أما القصيدة فجاءت متكاملة متناغمة صوّرت الوفاء بعدسة قلبك الصادق
كنت هنا
أبحث عن حزن يروي ظمأ روحي المتعطشة للبكاء
كلّ البيلسان
حكاية جميلة رغم ما ألـمّ بها من متاعب وعناء
تجذب القارئ وتجعل الأحداق تراقب أحداثها بمتعة
أما القصيدة فجاءت متكاملة متناغمة صوّرت الوفاء بعدسة قلبك الصادق
كنت هنا
أبحث عن حزن يروي ظمأ روحي المتعطشة للبكاء
كلّ البيلسان
وما اوردتها الا لشدة ألمت بي
جاءت على إثرها الاحزان تحلق فوق رأسي مثنى وثلاث ورباع
تذكرت شيئا قد مضى لسبيله.. ومن عادة المحزون أن يتذكرا
مهما مر بك من الم فلا أظنه يعدل معشار غلبة الدين وقهر الرجال
فالحمد لله أن دفع عنا العناء وازال عنا البلاء
وجعلنا في عافية ونعمة وستر..
لا بأس على قلبك استاذتنا الأديبة هديل
تحياتي ودعواتي...
لابد للعرب يوما أن يبتكروا أدبا جديدا يسمونه أدب السجون..فما أكثر رواد السجون منا ياسيدي..
قد أثرت في النفس شجون ..ولو أاني أعرف طريق البرعي لدللتك عليه..
كل التقدير