"الماء وحده من يحفظ سيرة الحقيقة، ولذلك كُتب عليه الرّحيل أنّى كان""*
(1)
ماء السّماء
(تراتيله مقدّسة)
كان دون أخوته وأقربائه وإخوانه في بسطة الجسد والحظّ والجمال، بل دونهم حتى في كرم الأقدار عليه وعونها له،ومنذ لحظة ولادته الأولى كُتب عليه الحرمان، فنفسه الدّنيوي الأوّل كان مسلولاً من نفس أمه التي لفظت نفسها الأخير معنّاة بعد ولادة تُوصف على سبيل التبسيط بالمتعسّرة، وهي تتوسّد حلم حضن طفلها الرّابع، ولكنّها ما حضنت مُنتظرها، ولا هو حُضن،فكان الطّرد من فردوس حنانها دون خطيئة يذكرها على وجه التّحديد أو يقدّرها أوّل ما استقبله في هذه الحياة التي كان يسميّها أمّه تقرّباً منها،فتعامله كزوجة أب شريرة نكاية بضعف يتمه.
ولكّنه ما كان ليبالي بعسرته،فهو على الرّغم من كلّ نقائصه وهفواته ومشاكله وحرمانه وعذاباته، صاحب أطيب قلب في الدّنيا، قلبه الأثير لروحه الموشّاة بجمال صفاته أعزّ ما يملك،كسب الكثير من السّعادة الرّوحية بسبب هذا القلب، وخسر أكثر بسبب عصيانه له ، وتجبّره في أمره،فقد كان أنّى شاء فعل.
* لا تحتاج قراءة الماء إلى خرائط .
قلبه يشبه ماء السّماء،طاهر، مبارك من الرّب ، لم تمسّه يد بشر أو جان، ولم يتلاعب به شيطان خنّاس،مكانه في العلياء ؛لأنّه لا يعرف إلاّ الخير والعطاء والبذل، ولم يّخلق إلاّ لذلك، الشّيء الوحيد الذي يسكن بياضه هو الرّحمة والعطاء على الرّغم من حرمانه المتّصل الذي لا يعرف هوادة.
كان أوّل المتطوعين لصدّ أؤلئك الغاشمين المعتدين على أرض الوطن، لم يكن يتقن الشّعارات والتّصريحات، ولم تُلتقط له أيّ صورة في ملابسه الحربيّة خلف متراس أو جدار أو في ملجأ أو في ساحة حرب مفترضة ؛لتُنشر بالألوان في الصفحة الأولى في أيّ مجلة أو صحيفة في الدّنيا، ولم تتحرّق أيّ أم على غيابه،ولم تنعاه أخت،أو تبكيه حبيبة أو زوجة،إنّما كان نسيجاً وحده،خرج وحيداً للجهاد،فاخر بجسده الصّغير المختزل المتآكل كلّ الشّهداء والأبطال والأبرار، صادق السّلاح، وضمّه إلى قلبه،وكان الجزء الأصعب من ساحة الوغى نصيبه، على عكس الفرار والملاجىء التي كانت نصيب أخوته المبسوطين جسداً وحالاً؛فقد كانوا يضنّون بأجسادهم الجميلة، وأرواحهم القميئة على الموت ولو كان بلبوس شهادة.
بصدره الفقير الصّغير ذي الضلوع الناتئة استقبل رصاص العدو،ضمّها في عميق وشائجه،لم يبالِ بفعلها الآثم في لحمه،وقبل أن يسقط أرضاً كما ينبغي لكلّّ شجرة مُغتالة أفرغ أمانته من الذّخيرة في أجساد رهط من جنود الأعداء،ثم استسلم ليدّي أمّه الأرض،وابتسم برضا لأوّل مرة في حياته يخال نفسه فيها مُنصَفاً؛إذ رأى روحه تُحمل ببَرَدِ السّماء، وتسعى نحو مستقرّها الأبيض الأزليّ في السّماء.